( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن . وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن . فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ، وأتمروا بينكم بمعروف ، وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى . لينفق ذو سعة من سعته ، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ، سيجعل الله بعد عسر يسرا ) . .
وهذا هو البيان الأخير لتفصيل مسألة الإقامة في البيوت ، والإنفاق في فترة العدة - على اختلاف مدتها . فالمأمور به هو أن يسكنوهن مما يجدون هم من سكنى . لا أقل مما هم عليه في سكناهم ، وما يستطيعونه حسب مقدرتهم وغناهم . غير عامدين إلى مضارتهم سواء بالتضييق عليهن في فسحة المسكن أو مستواه أو في المعاملة فيه . وخص ذوات الأحمال بذكر النفقة - مع وجوب النفقة لكل معتدة - لتوهم أن طول مدة الحمل يحدد زمن الإنفاق ببعضه دون بقيته ، أو بزيادة عنه إذا قصرت مدته . فأوجب النفقة حتى الوضع ، وهو موعد انتهاء العدة لزيادة الإيضاح التشريعي .
ثم فصل مسألة الرضاعة فلم يجعلها واجبا على الأم بلا مقابل . فما دامت ترضع الطفل المشترك بينهما ، فمن حقها أن تنال أجرا على رضاعته تستعين به على حياتها وعلى إدرار اللبن للصغير ، وهذا منتهى المراعاة للأم في هذه الشريعة . وفي الوقت ذاته أمر الأب والأم أن يأتمرا بينهما بالمعروف في شأن هذا الوليد ، ويتشاورا في أمره ورائدهما مصلحته ، وهو أمانة بينهما ، فلا يكون فشلهما هما في حياتهما نكبة على الصغير البريء فيهما !
وهذه هي المياسرة التي يدعوهما الله إليها . فأما إذا تعاسرا ولم يتفقا بشأن الرضاعة وأجرها ، فالطفل مكفول الحقوق : ( فسترضع له أخرى ) . . دون اعتراض من الأم ودون تعطيل لحق الطفل في الرضاعة ، بسبب تعاسرهما بعد فشلهما !
{ أسكنوهن . . . } اسكنوا المعتدات بعض مكان سكناهم . { من وجدكم } من وسعكم وطاقتكم . والوجد – مثلثة الواو - : السعة والقدرة . { وائتمروا . . . } أي تشاوروا . والمعنى : ليأمر بعضكم بعضا بجميل في الأجرة والإرضاع ؛ فلا يكن من الأب مماكسة ، ولا من الأم معاسرة . { وإن تعاسرتم } أي تضايقتم بالمشاحنة في الأجرة فأبت الأم الإرضاع ، والأب دفع الأجرة لها{ فسترضع له } أي للأب{ أخرى } غير أمه المبانة .
{ أسكنوهن } يعني مطلقات نسائكم { من حيث سكنتم } من صلة ، أي : أسكنوهن حيث سكنتم ، { من وجدكم } سعتكم وطاقتكم ، يعني : إن كان موسراً يوسع عليها في المسكن والنفقة ، وإن كان فقيراً فعلى قدر الطاقة ، { ولا تضاروهن } لا تؤذوهن ، { لتضيقوا عليهن } مساكنهن فيخرجن ، { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } فيخرجن من عدتهن .
فصل : اعلم أن المعتدة الرجعية تستحق على الزوج النفقة والسكنى ما دامت في العدة . ونعني بالسكنى . مؤنة السكنى ، فإن كانت الدار التي طلقها فيها ملكاً للزوج يجب على الزوج أن يخرج ويترك الدار لها مدة عدتها ، وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة ، وإن كانت عارية ورجع المعير فعليه أن يكتري لها دارا تسكنها . فأما المعتدة البائنة بالخلع أو بالطلقات الثلاث أو باللعان ، فلها السكنى ، حاملاً كانت أو حائلاً ، عند أكثر أهل العلم . روي عن ابن عباس أنه قال : لا سكنى لها إلا أن تكون حاملاً وهو قول الحسن وعطاء والشعبي . واختلفوا في نفقتها : فذهب قوم إلى أنه لا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً . روي ذلك عن علي وابن عباس وهو قول الحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وبه قال الشافعي ، وأحمد . ومنهم من أوجبها بكل حال ، روي ذلك عن ابن مسعود ، وهو قول إبراهيم النخعي ، وبه قال الثوري وأصحاب الرأي . وظاهر القرآن يدل على أنها لا تستحق إلا أن تكون حاملاً ، لأن الله تعالى قال : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن } والدليل عليه من جهة السنة ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن فاطمة بنت قيس ، " أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة ، وهو غائب بالشام ، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته ، فقال : والله مالك علينا من شيء فجاءت النبي الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له . فقال لها : ليس لك عليه نفقة ، وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك . ثم قال : تلك امرأة يغشاها أصحابي فاعتدي عند ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى ، تضعين ثيابك ، فإذا حللت فآذنيني . قالت : فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له ، انكحي أسامة بن زيد ، قالت : فكرهته ، ثم قال : انكحي أسامة ، فنكحته ، فجعل فيه خيراً واغتبطت به " . واحتج من لم يجعل لها السكنى بحديث فاطمة بنت قيس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في بيت عبد الله بن أم مكتوم ولا حجة فيه ، لما روي عن عائشة أنها قالت : كانت فاطمة في مكان وحش ، فخيف على ناحيتها . وقال سعيد بن المسيب : إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها ، وكان للسانها ذرابة . أما المعتدة عن وطء الشبهة والمفسوخ نكاحها بعيب أو خيار عتق فلا سكنى لها ولا نفقة وإن كانت حاملاً . والمعتدة عن وفاة الزوج لا نفقة لها حاملاً كانت أو حائلاً ، عند أكثر أهل العلم ، وروي عن علي رضي الله عنه أن لهذه النفقة ، إن كانت حاملاً ، من التركة حتى تضع ، وهو قول شريح ، والشعبي ، والنخعي ، والثوري . واختلفوا في سكناها ، وللشافعي رضي الله عنه فيه قولان : أحدهما لا سكنى لها ، بل تعتد حيث تشاء ، وهو قول علي ، وابن عباس وعائشة . وبه قال عطاء ، والحسن وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه . والثاني : لها السكنى وهو قول عمر ، وعثمان ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وبه قال مالك ، وسفيان الثوري ، وأحمد ، وإسحاق . واحتج من أوجب لها السكنى بما : أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك ، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب : أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها : " أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم ، فقتلوه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة ؟ فقالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعيت له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف قلت ؟ قالت : فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي ، فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله . قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً . قالت : فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به " . فمن قال بهذا القول قال : إذنه لفريعة أولاً بالرجوع إلى أهلها صار منسوخاً بقوله آخراً : " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " . ومن لم يوجب السكنى قال : أمرها بالمكث في بيتها آخراً استحباباً لا وجوباً . قوله عز وجل { فإن أرضعن لكم } أي أرضعن أولادكم ، { فآتوهن أجورهن } على إرضاعهن ، { وأتمروا بينكم بمعروف } ليقبل بعضكم من بعض إذا أمره بالمعروف ، قال الكسائي : شاوروا ، قال مقاتل : بتراضي الأب والأم على أجر مسمى . والخطاب للزوجين جميعاً ، يأمرهم أن يأتوا بالمعروف وبما هو الأحسن ، ولا يقصدوا الضرار . { وإن تعاسرتم } في الرضاع والأجرة فأبى الزوج أن يعطي المرأة أجرتها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها على إرضاعه ، ولكنه يستأجر للصبي مرضعاً غير أمه ذلك قوله : { فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته } .
ولما قدم{[66096]} التكفير وأتبعه الأجر الكبير ، وكان قد تقدم إيجاب ترك المطلقة في منزل الطلاق وأذن في إخراجها عند الفاحشة المبينة ، وكان ربما كان منزل الطلاق مستعاراً ، وكان مما لا يليق بالزوج ، وكان ربما نزل{[66097]} الكلام السابق عليه ، استأنف البيان له {[66098]}بما لا يحتمل{[66099]} لبساً فقال آمراً بعد ذلك النهي على وجه مشير بسابقه ولاحقه {[66100]}إلى الحلم{[66101]} عنهن فيما يمكن الحلم فيه حفظاً للقلوب وإبعاداً للشقاق{[66102]} بعد الإيحاش بالطلاق لئلا يعظم الكسر والوحشة : { أسكنوهن } أي هؤلاء المفارقات{[66103]} في العدة إن كن مطلقات حاملات كن أو لا مبتوتات كن أو رجعيات بخلاف ما كان من العدة عن وفاة بغير حمل أو كان عن شبهة أو فسخ .
ولما كان المراد مسكناً يليق بها وإن كان بعض مسكن الرجل ، أدخل أداة التبعيض فقال : { من حيث سكنتم } أي من أماكن سكناكم لتكون قريبة منكم ليسهل تفقدكم لها للحفظ وقضاء الحاجات .
ولما كان الإنسان ربما سكن في ماضي الزمان ما لا يقدر عليه الآن قال مبيناً للمسكن المأمور به مبقياً للمواددة بعدم التكليف بما يشق : { من وجدكم } أي سعتكم وطاقتكم بإجارة أو ملك أو إعارة حتى تنقضي العدة بحمل كانت{[66104]} أو غيره . ولما كان الإسكان قد يكون مع الشنآن قال : { ولا تضاروهن } أي حال السكنى في{[66105]} المسكن ولا في غيره . ولما كانت المضارة قد يكون لمقصد حسن بأن يكون تأديباً{[66106]} لأمر بمعروف ليتوصل بصورة شر قليل ظاهر إلى خير كثير قال : { لتضيقوا } أي تضييقاً بالغاً لا شبهة في كونه كذلك مستعلياً { عليهن } حتى يلجئهن ذلك إلى الخروج . ولما كانت النفقة واجبة للرجعية ، وكانت عدتها تارة بالأقراء وتارة بالأشهر وتارة بالحمل ، وكان ربما توهم أن ما بعد الثلاثة الأشهر{[66107]} من مدة الحمل للرجعية وجميع المدة لغيرها لا يجب الإنفاق فيه قال : { وإن كن } أي المعتدات { أولات حمل } أي من الأزواج كيف ما كانت العدة من موت أو طلاق بائن أو رجعي { فأنفقوا عليهن } وإن مضت الأشهر { حتى يضعن حملهن } فإن العلة الاعتداد بالحمل ، وهذه الشرطية تدل على اختصاص الحوامل من بين المعتدات البوائن بوجوب النفقة .
ولما غيى سبحانه وجوب الإنفاق بالوضع ، وكانت قد{[66108]} تريد إرضاع ولدها ، وكان اشتغالها بإرضاعه يفوت عليها كثيراً من مقاصدها ويكسرها ، جبرها{[66109]} بأن قال حاثاً على مكافأة الأخوان على الإحسان مشيراً بأداة الشك إلى أنه لا يجيب عليها الإرضاع : { فإن أرضعن } وبين أن النسب للرجال بقوله تعالى : { لكم } أي بأجرة بعد انقطاع علقة النكاح { فآتوهن أجورهن } على ذلك الإرضاع . ولما كان ما يتعلق بالنساء من مثل ذلك{[66110]} موضع المشاجرة لا سيما أمر الرضاع ، وكان الخطر في أمره شديداً ، وكان الله تعالى قد رحم هذه الأمة بأنه يحرك لكل متشاححين{[66111]} من يأمرهما بخير لا سيما في أمر الولد رحمة له قال مشيراً إلى ذلك : { وأتمروا } أي ليأمر بعضكم بعضاً في الإرضاع والأجر فيه وغير ذلك وليقبل بعضكم أمر بعض ، وزادهم رغبة في ذلك بقوله : { بينكم } أي إن هذا الخير لا يعدوكم ، وأكد ذلك بقوله : { بمعروف } ونكره سبحانه تحقيقاً على الأمة بالرضى بالمستطاع ، وهو يكون مع الخلق بالإنصاف ، ومع النفس بالخلاف ، ومع الحق بالاعتراف .
ولما كان ذلك موجباً للمياسرة ، وكان قد يوجد في الناس من الغالب عليه الشر ، قال مشيراً بالتعبير بأداة الشك إلى أن ذلك{[66112]} وإن وجد فهو{[66113]} قليل عاطفاً على ما تقديره فإن تياسرتم فهو حظكم{[66114]} وأنتم جديرون بسماع هذا الوعد بذلك : { وإن تعاسرتم } أي طلب كل{[66115]} منكم ما يعسر على الآخر بأن طلبت المرأة الأجرة وطلب الزوج إرضاعها مجاناً فليس له أن يكرهها .
ولما كان سبحانه قد تكفل بأرزاق عباده وقدرها قبل إيجادهم . قال مخبراً جبراً للأب بما يصلح عتاباً للأم : { فسترضع } أي{[66116]} بوعد لا خلف فيه ، وصرف{[66117]} الخطاب إلى الغيبة إيذاناً بأن الأب ترك الأولى فيما{[66118]} هو جدير به من المياسرة لكونه حقيقاً بأن يكون أوسع بطاناً {[66119]}وأعظم شأناً{[66120]} من أن يضيق عما ترضى به المرأة استناناً به صلى الله عليه وسلم في أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطعية رحم فقال : { له } أي الأب { أخرى * } أي مرضعة غير الأم ويغني الله عنها{[66121]} وليس له إكرهها إلا إذا لم يقبل ثدي غيرها ، وهذا الحكم لا يختص بالمطلقة بل المنكوحة كذلك .