في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَتُنذِرَ يَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ فَرِيقٞ فِي ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِيقٞ فِي ٱلسَّعِيرِ} (7)

ثم يعود إلى الحقيقة الأولى :

وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها ، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه ، فريق في الجنة وفريق في السعير . ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ، ولكن يدخل من يشاء في رحمته ، والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير . أم اتخذوا من دونه أولياء ? فالله هو الولي . وهو يحي الموتى . وهو على كل شيء قدير . .

( وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً . . . ) . .

يعطف هذا الطرف من حقيقة الوحي على ذاك الطرف الذي بدأ به السورة . والمناسبة هنا بين تلك الأحرف المقطعة ، وعربية القرآن ، مناسبة ظاهرة . فهذه أحرفهم العربية ، وهذا قرآنهم العربي . نزل الله به وحيه في هذه الصورة العربية ، ليؤدي به الغاية المرسومة :

( لتنذر أم القرى ومن حولها ) . .

وأم القرى مكة المكرمة . المكرمة ببيت الله العتيق فيها . وقد اختار الله أن تكون هي - وما حولها من القرى - موضع هذه الرسالة الأخيرة ؛ وأنزل القرآن بلغتها العربية لأمر يعلمه ويريده . و ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) .

وحين ننظر اليوم من وراء الحوادث واستقرائها ، ومن وراء الظروف ومقتضياتها ، وبعد ما سارت هذه الدعوة في الخط الذي سارت فيه ، وانتجت فيه نتاجها . . حين ننظر اليوم هذه النظرة ندرك طرفاً من حكمة الله في اختيار هذه البقعة من الأرض ، في ذلك الوقت من الزمان ، لتكون مقر الرسالة الأخيرة ، التي جاءت للبشرية جميعاً . والتي تتضح عالميتها منذ أيامها الأولى .

كانت الأرض المعمورة - عند مولد هذه الرسالة الأخيرة - تكاد تتقسمها إمبراطوريات أربع : الإمبراطورية الرومانية في أوروبا وطرف من آسيا وإفريقية . والإمبراطورية الفارسية وتمد سلطانها على قسم كبير من آسيا وإفريقية والإمبراطورية الهندية . ثم الإمبراطورية الصينية . وتكادان تكونان مغلقتين على أنفسهما ومعزولتين بعقائدهما واتصالاتهما السياسية وغيرهما وهذه العزلة كانت تجعل الإمبراطوريتين الأوليين هما ذواتا الأثر الحقيقي في الحياة البشرية وتطوراتها .

وكانت الديانتان السماويتان قبل الإسلام - اليهودية والنصرانية - قد انتهتا إلى أن تقعا - في صورة من الصور - تحت نفوذ هاتين الإمبراطوريتين ، حيث تسيطر عليهما الدولة في الحقيقة ، ولا تسيطران على الدولة ! فضلا على ما أصابهما من انحراف وفساد .

ولقد وقعت اليهودية فريسة لاضطهاد الرومان تارة ، ولاضطهاد الفرس تارة ، ولم تعد تسيطر في هذه الأرض على شيء يذكر على كل حال ؛ وانتهت - بسبب عوامل شتى - إلى أن تكون ديانة مغلقة على بني إسرائيل ، لا مطمع لها ولا رغبة في أن تضم تحت جناحها شعوبا أخرى .

وأما المسيحية فقد ولدت في ظل الدولة الرومانية . التي كانت تسيطر حين الميلاد على فلسطين وسورية ومصر وبقية المناطق التي انتشرت فيها المسيحية سرا ؛ وهي تتخفى من مطاردة الإمبراطورية الرومانية التي اضطهدت العقيدة الجديدة اضطهاداً فظيعاً ، تخللته مذابح شملت عشرات الألوف في قسوة ظاهرة . فلما انقضى عهد الاضطهاد الروماني ، ودخل الامبراطور الروماني في المسيحية ، دخلت معه أساطير الرومان الوثنية ، ومباحث الفلسفة الإغريقية الوثنية كذلك ؛ وطبعت المسيحية بطابع غريب عليها ؛ فلم تعد هي المسيحية السماوية الأولى . كما أن الدولة ظلت في طبيعتها لا تتأثر كثيراً بالديانة ؛ وظلت هي المهيمنة ، ولم تهيمن العقيدة عليها أصلا . وذلك كله فضلاً على ما انتهت إليه المذاهب المسيحية المتعددة من تطاحن شامل - فيما بينها - مزق الكنيسة ، وكاد يمزق الدولة كلها تمزيقاً . وأوقع في الاضطهاد البشع المخالفين للمذهب الرسمي للدولة . وهؤلاء وهؤلاء كانوا في الانحراف عن حقيقة المسيحية سواء !

وفي هذا الوقت جاء الإسلام . جاء لينقذ البشرية كلها مما انتهت إليه من انحلال وفساد واضطهاد وجاهلية عمياء في كل مكان معمور . وجاء ليهيمن على حياة البشرية ويقودها في الطريق إلى الله على هدى وعلى نور . ولم يكن هنالك بد من أن يسيطر الإسلام لتحقيق هذه النقلة الضخمة في حياة البشر . فلم يكن هنالك بد من أن يبدأ رحلته من أرض حرة لا سلطان فيها لإمبراطورية من تلك الإمبراطوريات ؛ وأن ينشأ قبل ذلك نشأة حرة لا تسيطر عليه فيها قوة خارجة على طبيعته ؛ بل يكون فيها هو المسيطر على نفسه وعلى من حوله . وكانت الجزيرة العربية ، وأم القرى وما حولها بالذات ، هي أصلح مكان على وجه الأرض لنشأة الإسلام يومئذ ، وأصلح نقطة يبدأ منها رحلته العالمية التي جاء من أجلها منذ اللحظة الأولى .

لم تكن هناك حكومة منظمة ذات قوانين وتشريعات وجيوش وشرطة وسلطان شامل في الجزيرة . تقف للعقيدة الجديدة . بسلطانها المنظم ، وتخضع لها الجماهير خضوعاً دقيقاً ، كما هو الحال في الإمبراطوريات الأربع .

ولم تكن هنالك ديانة ثابتة كذلك ذات معالم واضحة ؛ فقد كانت الوثنية الجاهلية ممزقة ، ومعتقداتها وعباداتها شتى . وكان للعرب آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب والأصنام . ومع أنه كان للكعبة وقريش سلطان ديني عام في الجزيرة ، فإنه لم يكن ذلك السلطان المحكم الذي يقف وقفة حقيقية في وجه الدين الجديد . ولولا المصالح الاقتصادية والأوضاع الخاصة لرؤساء قريش ما وقفوا هذه الوقفة في وجه الإسلام . فقد كانوا يدركون ما في عقائدهم من خلخلة واضطراب .

وكانت خلخلة النظام السياسي للجزيرة إلى جانب خلخلة النظام الديني ، أفضل ظرف يقوم فيه دين جديد ، متحرراً من كل سلطان عليه في نشأته ، خارج عن طبيعته .

وفي وسط هذه الخلخلة كان للأوضاع الاجتماعية في الجزيرة قيمتها كذلك في حماية نشأة الدعوة الجديدة . كان النظام القبلي هو السائد . وكان للعشيرة وزنها في هذا النظام . فلما قام محمد [ صلى الله عليه وسلم ] بدعوته وجد من سيوف بني هاشم حماية له ؛ ووجد من التوازن القبلي فرصة ، لأن العشائر كانت تشفق من إثارة حرب على بني هاشم بسبب حمايتهم لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] وهم على غير دينه . بل إنها كانت تشفق من الاعتداء على كل من له عصبية من القلائل الذين أسلموا في أول الدعوة ، وتدع تأديبه - أو تعذيبه - لأهله أنفسهم . والموالي الذين عذبوا لإسلامهم عذبهم سادتهم . ومن ثم كان أبو بكر - رضي الله عنه - يشتري هؤلاء الموالي ويعتقهم ، فيمتنع تعذيبهم بهذا الإجراء ، وتمتنع فتنتهم عن دينهم . . ولا يخفى ما في هذا الوضع من ميزة بالقياس إلى نشأة الدين الجديد .

ثم كانت هنالك صفات الشعب العربي نفسه من الشجاعة والأريحية والنخوة . وهي استعدادات ضرورية لحمل العقيدة الجديدة والنهوض بتكاليفها .

وقد كانت الجزيرة في ذلك الزمان تزخر بحضانة عميقة لبذور نهضة ؛ وكانت تجيش بكفايات واستعدادات وشخصيات تتهيأ لهذه النهضة المذخورة لها في ضمير الغيب ؛ وكانت قد حفلت بتجارب إنسانية معينة من رحلاتها إلى أطراف إمبراطوريتي كسرى وقيصر . وأشهرها رحلة الشتاء إلى الجنوب ورحلة الصيف إلى الشمال . المذكورتان في القرآن في قوله تعالى : ( لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . فليعبدوا رب هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) . . وتضافرت أسباب كثيرة لحشد رصيد ضخم من التجارب مع التفتح والتأهب لاستقبال المهمة الضخمة التي اختيرت لها الجزيرة . فلما جاءها الإسلام استغل هذا الرصيد كله ، ووجه هذه الطاقة المختزنة ، التي كانت تتهيأ كنوزها للتفتح ؛ ففتحها الله بمفتاح الإسلام . وجعلها رصيداً له وذخراً . ولعل هذا بعض ما يفسر لنا وجود هذا الحشد من الرجال العظام في الصحابة في الجيل الأول في حياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من أمثال : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي . وحمزة والعباس وأبي عبيدة . وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وسعد بن معاذ ، وأبي أيوب الأنصاري وغيرهم وغيرهم من تلك العصبة التي تلقت الإسلام ؛ فتفتحت له ، وحملته ، وكبرت به من غير شك وصلحت ؛ ولكنها كانت تحمل البذرة الصالحة للنمو والتمام .

وليس هنا مكان التفصيل في وصف استعداد الجزيرة لحمل الرسالة الجديدة ، وصيانة نشأتها ، وتمكينها من الهيمنة على ذاتها وعلى من حولها ، مما يشير إلى بعض أسباب اختيارها لتكون مهد العقيدة الجديدة ، التي جاءت للبشرية جميعها . وإلى اختيار هذا البيت بالذات ليكون منه حامل هذه الرسالة [ صلى الله عليه وسلم ] فذلك أمر يطول . ومكانه رسالة خاصة مستقلة . وحسبنا هذه الإشارة إلى حكمة الله المكنونة ، التي يظهر التدبر والتفكر بعض أطرافها كلما اتسعت تجارب البشر وإدراكهم لسنن الحياة .

وهكذا جاء هذا القرآن عربياً لينذر أم القرى ومن حولها . فلما خرجت الجزيرة من الجاهلية إلى الإسلام ، وخلصت كلها للإسلام ، حملت الراية وشرقت بها وغربت ؛ وقدمت الرسالة الجديدة والنظام الإنساني الذي قام على أساسها ، للبشرية جميعها - كما هي طبيعة هذه الرسالة - وكان الذين حملوها هم أصلح خلق الله لحملها ونقلها ؛ وقد خرجوا بها من أصلح مكان في الأرض لميلادها ونشأتها .

وليس من المصادفات أن يعيش الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] حتى تخلص الجزيرة العربية للإسلام ؛ ويتمحض هذا المهد للعقيدة التي اختير لها على علم . كما اختير لها اللسان الذي يصلح لحملها إلى أقطار الأرض جميعا . فقد كانت اللغة العربية بلغت نضجها ، وأصبحت صالحة لحمل هذه الدعوة والسير بها في أقطار الأرض . ولو كانت لغة ميتة أو ناقصة التكوين الطبيعي ما صلحت لحمل هذه الدعوة أولاً ، وما صلحت بالذات لنقلها إلى خارج الجزيرة العربية ثانياً . . وقد كانت اللغة ، كأصحابها ، كبيئتها ، أصلح ما تكون لهذا الحدث الكوني العظيم .

وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة ، حيثما وجه الباحث نظره إلى تدبر حكمة الله واختياره ومصداق قوله : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) . .

( لتنذر أم القرى ومن حولها ، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه ، فريق في الجنة وفريق في السعير ) . .

وقد كان الإنذار الأكبر والأشد والأكثر تكراراً في القرآن هو الإنذار بيوم الجمع . يوم الحشر . يوم يجمع الله ما تفرق من الخلائق على مدار الأزمنة واختلاف الأمكنة ، ليفرقهم من جديد : ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) . بحسب عملهم في دار العمل ، في هذه الأرض ، في فترة الحياة الدنيا .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَتُنذِرَ يَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ فَرِيقٞ فِي ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِيقٞ فِي ٱلسَّعِيرِ} (7)

{ وكذلك أوحينا إليك . . . } أي ومثل ذلك الإيحاء البديع البين أوحينا إليك قرآنا عربيا ، لا لبس فيه عليك ولا على قومك . { لتنذر أم القرى } أي أهل أم القرى وهي مكة ؛ وسميت بذلك لأنها بالنسبة لما حولها كالأصل . { ومن حولها } أي تنذر من حولها من العرب العذاب على الشرك بالله . وخصوا بالذكر مع عموم الرسالة لأنهم أول المنذرين ، وأقرب من سواهم إليه صلى الله عليه وسلم . { وتنذر يوم الجمع } أي وتنذر الناس هول يوم القيامة الذي يجتمع فيه الخلائق للحساب ، ويقضى فيه على فريق بالعذاب ولفريق بالثواب .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَتُنذِرَ يَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ فَرِيقٞ فِي ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِيقٞ فِي ٱلسَّعِيرِ} (7)

قوله تعالى : { وكذلك } مثل ما ذكرنا ، { أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى } مكة ، يعني : أهلها ، { ومن حولها } يعني قرى الأرض كلها ، { وتنذر يوم الجمع } أي : تنذرهم بيوم الجمع وهو يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين وأهل السماوات و الأرضين . { لا ريب فيه } لا شك في الجمع أنه كائن ثم بعد الجمع يتفرقون . { فريق في الجنة وفريق في السعير } أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، حدثنا أبو منظور الشامي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان التنوخي ، حدثنا بشر بن بكر ، حدثني سعيد بن عثمان عن أبي الراهويه ، حدثنا جرير بن كريب عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال الثعلبي : وأخبرنا أبو عبد الله ابن فنجويه الدينوري ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبو هاشم بن القاسم ، حدثنا ليث ، حدثني أبو قبيل المعافري عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو قال : " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قابضاً على كفيه ومعه كتابان ، فقال : أتدرون ما هذان الكتابان ؟ قلنا : لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا فقال : للذي في يده اليمنى : هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب ، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم ، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة ، ثم قال : للذي في يساره : هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب ، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون ، فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم ، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة ، قال عبد الله بن عمرو : ففيم العمل إذاً يا رسول الله ؟ فقال : اعملوا وسددوا وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة ، وإن عمل أي عمل ، ثم قال : { فريق في الجنة } { فضل من الله } { وفريق في السعير } عدل من الله عز وجل .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَتُنذِرَ يَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ فَرِيقٞ فِي ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِيقٞ فِي ٱلسَّعِيرِ} (7)

{ وكذلك } وهكذا { أوحينا إليك قرآنا عربيا } بلفظ العرب { لتنذر أم القرى } أهل مكة { ومن حولها } سائر الناس { وتنذر يوم الجمع } تخوفهم بيوم القيامة الذي يجمع فيه الخلق { لا ريب فيه } كما يرتاب الكافرون { فريق في الجنة وفريق في السعير } اخبار عن اختلاف حال الناس في ذلك اليوم

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَتُنذِرَ يَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ فَرِيقٞ فِي ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِيقٞ فِي ٱلسَّعِيرِ} (7)

قوله تعالى : " وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا " أي وكما أوحينا إليك وإلى من قبلك هذه المعاني فكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا بيناه بلغة العرب . قيل : أي أنزلنا عليك قرآنا عربيا بلسان قومك ، كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه . والمعنى واحد . " لتنذر أم القرى " يعني مكة . قيل لمكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها . " ومن حولها " من سائر الخلق . " وتنذر يوم الجمع " أي بيوم الجمع ، وهو يوم القيامة . " لا ريب فيه " لا شك فيه . " فريق في الجنة وفريق في السعير " ابتداء وخبر . وأجاز الكسائي النصب على تقدير : لتنذر فريقا في الجنة وفريقا في السعير .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَتُنذِرَ يَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ فَرِيقٞ فِي ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِيقٞ فِي ٱلسَّعِيرِ} (7)

ولما كان الإيحاء السابق أول السورة للبشرى لأنها المقصود بالذات وكانت البشرى مقتضية تلويحاً ورمزاً بالأحرف المقطعة لاجتماع أهل الدين وغلبتهم على سائر الأديان وأن دينهم يعم سائر الأمم ويحيط بجميع الخلق ، ولا يريد أحد بأهله سوءاً إلا كان له فيه رفعة كما مضى بيانه ، وكانت رمزاً لأن المقام للانذار بما تشهد به السورة الماضية ، وكان المراد بها التكرار حتى لا تزال لذاذتها في أذن المبشر وحلاوتها في قلبه ، ذكرها بلفظ المضارع الدال على التجدد والتكرار والحدوث والاستمرار ، وكان المتعنت ربما حمله له على الوعد بالإيحاء في المستقبل ، وكان العاقل يكفيه في النذرى مرة واحدة فقال معبراً بالماضي الدال على الإمضاء والقطع والقضاء الحتم في كل من الإيحاء وفائدته التي هي الإنذار ، عاطفاً على ما يتصل بالآية السالفة المختومة بنفي الوكالة مما تقديره : إنما عليك البلاغ بالبشارة والنذارة ، وقد أوحينا إليك البشارة رمزاً ، كما جرت به عادة الأحباب في محاورات الخطاب ، ولفت القول إلى مظهر العظمة لأن الإنذار من مجازه : { وكذلك } أي ومثل ذلك الإيحاء الذي قدمنا أنا حبوناك به من وحي الإشارة بالحروف المقطعة { أوحينا } بما لنا من العظمة مع الفرق بين كل ملبس { إليك قرآناً } جامعاً لكل حكمة { عربياً } فهو بين الخطاب واضح الصواب معجز الجناب { لتنذر } أي به { أم القرى } مكة التي هي أم الأرض وأصلها ، منها دحيت ولشرفها أوقع الفعل عليها ، عدا لها عداد العقلاء ، ثم بين أن المراد أهلها بقوله : { ومن } أي وتنذر من { حولها } وهم سكان جميع الأرض التي هي امها ، وبذلك فسره البغوي فقال : قرى الأرض كلها ، وكذا القشيري وقال : العالم محدق بالكعبة ومكة لأنها سرة الأرض .

ولما كان مفعول { تنذر } الثاني على ما هدى إليه السياق ما عذبت به الأمم السالفة والقرون الماضية حين تمادى بهم الكفر وغلب عليهم الظلم في اتخاذهم أولياء من دون الله ، عطف عليه : { وتنذر } أي أم القرى ومن حولها مع عذاب الأمم في الدنيا { يوم الجمع } أي لجميع الخلائق ببعثهم من الموت ، حذف المفعول الأول من الشق الثاني ، والمفعول الثاني من الأول ، فالآية من الاحتباك : ذكر المنذرين أولاً دلالة على إرادتهم ثانياً ، وذكر المنذر به وهو يوم الجمع ثانياً دلالة على المنذر به من عذاب الأمم أولاً ، ليذهب به الوهم في المحذوف كل مذهب ، فيكون أهول ، وذكر هذا المذكور أفخم وأوجل .

ولما كان الإنذار - وهو الإعلام بموضع المخافة - تارة يكون عما لا علم به ، وهو الأغلب ، وتارة عما وقع العمل به ثم خالف المنذر به علمه فعمل أعمال من لا علم له به ، نبه على أن هذا من القسم الثاني بقوله في جملة حالية : { لا ريب فيه } أي لأنه قد ركز في فطرة كل أحد أن الحاكم إذا استعمل عبيده في شيء ثم تظالموا فلا بد له بما تقتضيه السياسة من جمعهم لينصف بينهم وإلا عد سفيهاً ، فما ظنك بأحكم الحاكمين .

ولما تشوف السامع إلى ما يفعل في جمعهم ، وكان الثقلان لما طبعوا عليه من النقصان أهل فرقة وطغيان ، ذكر نهايته معبراً بما هو من الفرقة بقوله مسوغاً الابتداء بالنكرة للتفصيل أو تقرير الوصف : { فريق } أي من المجموعين أهل فرقة تداركهم الله بأن جعلهم أهل جمع { في الجنة } فصلاً منه وهم الذين قبلوا الإنذار وبالغوا في الحذار { وفريق } أي منهم خذلهم الله ووكلهم إلى أنفسهم فزادوا في الفرقة { في السعير * } عدلاً منه ، قال القشيري : كما أنهم في الدنيا فريقان : فريق في درجات الطاعة وحلاوات العبادات ، وفريق في ظلمات الشرك وعقوبات الجحد والشك ، فلذلك غداهم فريقان : فريق هم أهل اللقاء ، وفريق هم أهل البلاء والشقاء . روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال : " أتدرون ما هذان الكتابان ؟ قال : قلنا لا ، إلا أن تخبرنا يا رسول الله ! قال للذي في يده اليمنى : هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، ولا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ، ثم قال للذي في يساره : هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلأي شيء نعمل إن كان هذا أمراً قد فرغ منه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل النار وإن عمل أي عمل ، قال بيده فقبضها ، ثم قال : فرغ ربكم عز وجل من العباد ، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال : فريق في الجنة ، ونبذ باليسرى فقال : فريق في السعير "

قال ابن كثير : وهكذا رواه النسائي والترمذي جميعاً ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب .