في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٖۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٞ} (29)

ومن آياته خلق السماوات والأرض ، وما بث فيهما من دابة . وهو على جمعهم إذا يشاء قدير . وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ، ويعفو عن كثير . وما أنتم بمعجزين في الأرض ، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير . .

وهذه الآية الكونية معروضة على الأنظار ، قائمة تشهد بذاتها على ما جاء الوحي ليشهد به ، فارتابوا فيه واختلفوا في تأويله . وآية السماوات والأرض لا تحتمل جدلا ولا ريبة . فهي قاطعة في دلالتها ، تخاطب الفطرة بلغتها ، وما يجادل فيها مجادل وهو جاد . إنها تشهد بأن الذي أنشأها ودبرها ليس هو الإنسان ، ولا غيره من خلق الله . ولا مفر من الاعتراف بمنشىء مدبر . فإن ضخامتها الهائلة ، وتناسقها الدقيق ، ونظامها الدائب ، ووحدة نواميسها الثابتة . . كل أولئك لا يمكن تفسيره عقلاً إلا على أساس أن هناك إلهاً أنشأها ويدبرها . أما الفطرة فهي تتلقى منطق هذا الكون تلقياً مباشراً ، وتدركه وتطمئن إليه ، قبل ان تسمع عنه كلمة واحدة من خارجها !

وتنطوي آية السماوات والأرض على آية أخرى في ثناياها : ( وما بث فيهما من دابة ) . . والحياة في هذه الأرض وحدها - ودع عنك ما في السماوات من حيوات أخرى لا ندركها - آية اخرى . وهي سر لم ينفذ إلى طبيعته أحد ، فضلاً على التطلع إلى إنشائه . سر غامض لا يدري أحد من أين جاء ، ولا كيف جاء ، ولا كيف يتلبس بالأحياء ! وكل المحاولات التي بذلت للبحث عن مصدره أو طبيعته أغلقت دونها الستر والأبواب ؛ وانحصرت البحوث كلها في تطور الأحياء - بعد وجود الحياة - وتنوعها ووظائفها ؛ وفي هذا الحيز الضيق المنظور اختلفت الآراء والنظريات . فأما ما وراء الستر فبقي سراً خافياً لا تمتد إليه عين ، ولا يصل إليه إدراك . . إنه من أمر الله . الذي لا يدركه سواه .

هذه الأحياء المبثوثة في كل مكان . فوق سطح الأرض وفي ثناياها . وفي أعماق البحر وفي أجواز الفضاء - ودع عنك تصور الأحياء الأخرى في السماء - هذه الأحياء المبثوثة التي لا يعلم الإنسان منها إلا النزر اليسير ، ولا يدرك منها بوسائله المحدودة إلا القليل المشهور . هذه الأحياء التي تدب في السماوات والأرض يجمعها الله حين يشاء ، لا يضل منها فرد واحد ولا يغيب !

وبنو الإنسان يعجزهم أن يجمعوا سربا من الطير الأليف ينفلت من أقفاصهم ، أو سرباً من النحل يطير من خلية لهم !

وأسراب من الطير لا يعلم عددها إلا الله . وأسراب من النحل والنمل وأخواتها لا يحصيها إلا الله . وأسراب من الحشرات والهوام والجراثيم لا يعلم مواطنها إلا الله . وأسراب من الأسماك وحيوان البحر لا يطلع عليها إلا الله . وقطعان من الأنعام والوحش سائمة وشاردة في كل مكان . وقطعان من البشر مبثوثة في الأرض في كل مكان . . ومعها خلائق أربى عدداً وأخفى مكاناً في السماوات من خلق الله . . كلها . . كلها . . يجمعها الله حين يشاء . .

وليس بين بثها في السماوات والأرض وجمعها إلا كلمة تصدر . والتعبير يقابل بين مشهد البث ومشهد الجمع في لمحة على طريقة القرآن ؛ فيشهد القلب هذين المشهدين الهائلين قبل أن ينتهي اللسان من آية واحدة قصيرة من القرآن !

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٖۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٞ} (29)

{ ومن آياته خلق السموات . . } أي ومن الآيات الدالة على كمال قدرته الموجبة لتوحيده ، وتصديق ما وعد به من البعث : خلق السموات والأرض على هذه الصورة العجيبة والنظام المحكم .

{ وما بث فيهما من دابة } أي وما خلق ما فرق ونشر فيهما من دواب . والدابة اسم لكل ما دب على وجه الأرض أو غيرها . وظاهره وجود دواب في السموات . وجوزه الزمخشري فقال : يجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران ؛ فيصفون بالدبيب كما يوصف الحيوان ، وأن يخلق الله في السموات حيوانات يمشون فيها مشى الحيوانات في الأرض . وقال الفراء : أراد ما بث في الأرض دون السماء ، وهو من نسبة ما في أحد الشيئين إليهما جميعا ؛ إذ يصدق أنه فيهما وإن كان في أحدهما ، على نمط قوله تعالى : " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " {[307]} وهما إنما يخرجان من الملح . ومن قبيل : بنو تميم فيهم شاعر مجيد ؛ وإنما هو في فخذ من أفخاذهم .


[307]:آية 22 الرحمان.
 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٖۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٞ} (29)

بث : نشر .

الدابة : كل ما فيه حياة على هذه الأرض .

على جمعهم : يوم القيامة .

ثم أقام الأدلة على ألوهيته بخلقه السموات والأرض وما فيهما من الحيوان ، ومَن ثبتتْ قدرتُه بإبداع هذا الكون لهو قديرٌ على جمع الناس في الوقت الذي يشاء بَعْثَهم فيه للجزاء .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٖۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٞ} (29)

{ ومن آياته } دلائل قدرته { خلق السماوات والأرض وما بث } فرق ونشر { فيهما من دابة وهو على جمعهم } للحشر { إذا يشاء قدير }

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٖۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٞ} (29)

قوله تعالى : " ومن آياته خلق السماوات والأرض " أي علاماته الدالة على قدرته . " وما بث فيهما من دابة " قال مجاهد : يدخل في هذا الملائكة والناس ، وقد قال تعالى : " ويخلق ما لا تعلمون " {[13514]} [ النحل : 8 ] . وقال الفراء أراد ما بث في الأرض دون السماء ، كقوله : " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " [ الرحمن : 22 ] إنما يخرج من الملح دون العذب . وقال أبو علي : تقديره وما بث في أحدهما ، فحذف المضاف . وقوله : " يخرج منهما " أي من أحدهما . " وهو على جمعهم إذا يشاء قدير " أي يوم القيامة .


[13514]:آية 8 سورة النحل.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٖۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٞ} (29)

ولما كان ما مضى من بسط الرزق وقبضه ، وإنزال الغيث وحبسه . من الآيات العظمية ، عمم بذكر ما ذلك بعض منه ، وهو دال على جميع ما ختم به الآية السالفة من الحمد الذي هو الاتصاف بجميع صفات الكمال فقال عاطفاً على ما تقديره : فذلك من آيات الله الدالة على قدرته واختياره وإنه هو الذي يحيي هذا الوجود بالمعاني من روح الوحي وغيره تارة والأعيان من الماء وغيره أخرى : { ومن آياته } العظيمة على ذلك وعلى استحقاقه لجميع صفات الكمال { خلق السماوات } التي تعلمون أنها متعددة بما ترون من أمور الكواكب { والأرض } أي جنسها على ما هما عليه من الهيئات وما اشتملا عليه من المنافع والخيرات { وما بث } أي فرق بالأبدان والقلوب على هذا المنوال الغريب من الحس والحركة بالاختيار مع التفاوت في الأشكال ، والقدور والهيئات والأخلاق وغير ذلك من النقص والكمال .

ولما كانت الأرض بناء والسماء سقفه ، فمن كان في أحدهما صح نسبته إلى أنه في كل منهما : الأسفل بالإقلال والأعلى بالإظلال قال تعالى : { فيهما } أي السماوات والأرض ولا سيما وقد جعل لكل منهما تسبباً في ذلك بما أودعهما من الجواهر وأنشأ عنهما من العناصر .

ولما كانت الحياة التي هي سبب الانتشار والدب ربما أورثت صاحبها كبراً وغلظاً في نفسه نظن أنه تام القدرة ، أنث تحقيراً لقدرته وتوهية لشأنه ورتبته فقلل { من دابة } أي شيء فيه أهلية الدبيب بالحياة من الإنس والجن والملائكة وسائر الحيوانات على اختلاف أصنافهم وألوانهم وأشكالهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم أقطارهم ونواحيهم وأصقاعهم ومن نظر إلى صنائعه سبحانه تيقن وجوده وقدرته واختياره ، ثم إذا أمعن في النظر وتابع التدبر في الفكر وصل إلى معرفة الصانع بأسمائه وصفاته وما ينبغي له ويستحيل عليه فيحمده بمحامدة التي لا نهاية لها ويسبحه بسبحاته ثم إن أمعن سما إلى الوقوف على حكمة ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب .

ولما كنا عالمين بأن من أوجد أشياء قدر على ضم أشتاتهم متى شاء مع نقص التصرف والعجز في التقلب كنا جديرين بالعلم القطعي بمضمون قوله تعالى : { وهو } أي بما له من صفات العظمة التي يعلم الظاهر معها ، وما غاب عنا أكبر { على جمعهم } أي هذه الدواب من ذوي العقول وغيرهم بعد تفرقهم بالقلوب والأبدان بالموت وغيره من الحظوظ والأهواء وغير ذلك .

ولما كان الجمع لا بد منه ، عبر بأداة التحقق فقال معلقا بجمع : { إذا } وحقق النظر إلى البعث فعبر بالمضارع فقال : { يشاء قدير * } أي بالغ القدرة كما كان بالغ القدرة عند الإيجاد من العدم يجمعهم في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصير ،