أما المقسم عليه بذلك القسم ، فقد طواه السياق ، ليفسره ما بعده ، فهو موضوع الطغيان والفساد ، وأخذ ربك لأهل الطغيان والفساد ، فهو حق واقع يقسم عليه بذلك القسم في تلميح يناسب لمسات السورة الخفيفة على وجه الإجمال :
" ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ؟ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ؟ وفرعون ذي الأوتاد ؟ . . الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، فصب عليهم ربك سوط عذاب ؟ إن ربك لبالمرصاد " . .
وصيغة الاستفهام في مثل هذا السياق أشد إثارة لليقظة والالتفات . والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء . ثم هو لكل من تتأتى منه الرؤية أو التبصر في مصارع أولئك الأقوام ، وكلها مما كان المخاطبون بالقرآن أول مرة يعرفونه ؛ ومما تشهد به الآثار والقصص الباقية في الأجيال المتعاقبة ، وإضافة الفعل إلى " ربك " فيها للمؤمن طمأنينة وأنس وراحة . وبخاصة أولئك الذين كانوا في مكة يعانون طغيان الطغاة ، وعسف الجبارين من المشركين ، الواقفين للدعوة وأهلها بالمرصاد .
وقد جمع الله في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ القديم . . مصرع : " عاد إرم " وهي عاد الأولى . وقيل : إنها من العرب العاربة أو البادية . وكان مسكنهم بالأحقاف وهي كثبان الرمال . في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن . وكانوا بدوا ذوي خيام تقوم على عماد .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِعادٍ إرَمَ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تنظر يا محمد بعين قلبك ، فترى كيف فعل ربك بعاد ؟
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : "إرَمَ" ؛
فقال بعضهم : هي اسم بلدة ، ثم اختلف الذين قالوا ذلك في البلدة التي عُنِيت بذلك ؛ فقال بعضهم : عُنيت به الإسكندرية ...
وقال آخرون : عُني بقوله : إرَمَ : أمة ...
وقال آخرون : معنى ذلك : القديمة ...
وقال آخرون : تلك قبيلة من عاد ... وقال آخرون إرَمَ : الهالك ...
والصواب من القول في ذلكَ : أن يُقال : إن إرم إما بلدة كانت عاد تسكنها ، فلذلك ردّت على عاد للإتباع لها ، ولم يُجر من أجل ذلك ، وإما اسم قبيلة فلم يُجر أيضا ، كما لا يُجْرى أسماء القبائل ، كتميم وبكر ، وما أشبه ذلك إذا أرادوا به القبيلة . وأما اسم عاد فلم يجر ، إذ كان اسما أعجميا .
فأما ما ذُكر عن مجاهد ، أنه قال : عُنِي بذلك القديمة ، فقول لا معنى له ، لأن ذلك لو كان معناه لكان مخفوضا بالتنوين ، وفي ترك الإجراء الدليل على أنه ليس بنعت ولا صفة .
وأشبه الأقوال فيه بالصواب عندي : أنها اسم قبيلة من عاد ، ولذلك جاءت القراءة بترك إضافة عاد إليها ، وترك إجرائها ، كما يقال : ألم تر ما فعل ربك بتميم نهشل ؟ فيترك إجراء نهشل ، وهي قبيلة ، فترك إجراؤها لذلك ، وهي في موضع خفض بالردّ على تميم ، ولو كانت إرم اسم بلدة أو اسم جدّ لعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد إليها ، كما يقال : هذا عمرُو زبيدٍ، وحاتمُ طيئ، وأعشى هَمْدانَ ، ولكنها اسم قبيلة منها ، فيما أرى ، كما قال قتادة ، والله أعلم ، فلذلك أجمعت القرّاء فيها على ترك الإضافة ، وترك الإجراء .
وقوله : "ذاتِ الْعِمادِ" اختلف أهل التأويل في معنى قوله : "ذَاتِ الْعِمادِ" في هذا الموضع؛
فقال بعضهم : معناه : ذات الطول ، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب للرجل الطويل : رجل مُعَمّد ، وقالوا : كانوا طوال الأجسام ...
وقال بعضهم : بل قيل لهم "ذَاتِ الْعِمادِ" لأنهم كانوا أهل عَمَد ، ينتجِعون الغيوث ، وينتقلون إلى الكلأ حيث كان ، ثم يرجعون إلى منازلهم ...
وقال آخرون : بل قيل ذلك لهم لبناء بناه بعضهم ، فشيّد عَمَده ، ورفع بناءه ... قال ابن زيد ، في قوله : "إرَمَ ذَاتِ الْعِمادِ" قال : عاد قوم هود ، بنَوها وعملوها حين كانوا في الأحقاف ، قال : "لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها" مثل تلك الأعمال في البلاد . قال : وكذلك في الأحقاف في حضرموت ، ثم كانت عاد قال : وثَمّ أحقاف الرمل كما قال الله بالأحقاف من الرمل ، رمال أمثال الجبال ، تكون مظلة مجوّفة .
وقال آخرون : قيل ذلك لهم لشّدة أبدانهم وقواهم ...
وأشبه الأقوال في ذلك بما دلّ عليه ظاهر التنزيل : قول من قال : عُنِي بذلك أنهم كانوا أهل عمود سيارة ، لأن المعروف في كلام العرب من العماد ، ما عُمد به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل عليها البناء ، ولا يعلم بناء كان لهم بالعماد بخبر صحيح ، بل وجّه أهل التأويل قوله : "ذَاتِ الْعِمادِ" إلى أنه عُنِي به طول أجسامهم ، وبعضهم إلى أنه عُني به عماد خِيامهم ، فأما عِماد البنيان ، فلا يعلم كثير أحد من أهل التأويل وجهه إليه ، وتأويل القرآن إنما يوجه إلى الأغلب الأشهر من معانيه ، ما وُجد إلى ذلك سبيل ، دون الأنكر .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
في ذكر نبأ عاد وثمود فوائد ثلاث :
أحدها : في موضع التخويف لأهل الذين كذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم وهو أن أولئك القوم كانوا أكثر أموالا وأولادا وأعدادا وأكثر في القوة من هؤلاء الذين كذبوا محمدا ، عليه أفضل الصلاة والسلام ، فلم يغنهم ذلك كله من الله تعالى شيئا ، بل الله تعالى انتقم منهم لرسله عليهم السلام بما كذبوهم . فما بال هؤلاء الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم لا يخافون مقته وحلول النقمة بتكذيبهم رسوله ؟ وليسوا بأكثر من أولئك في العدد والمال والقوة .
الثانية : أن أولئك كانوا يزعمون أنهم بالله تعالى أولى من أمة محمد عليه السلام وأتباعه لما بسط لهم من النعيم ، وضيق على رسول وأتباعه ، فتبين أن الذين تقدمهم من مكذبي الرسل كانوا أرفع منهم في القوى والأموال والأولاد والأعداد ، وكانت رسلهم في ضيق من العيش ، ثم كانوا هم أولى بالله تعالى من المكذبين المفتخرين بكثرة الأعداد والقوى ، فبين لهم هذا ليعلموا أن ليس الأمر على ما ظنوا ، وحسبوا .
والثالثة : أنهم كانوا يمتنعون عن الإيمان بالله تعالى وبرسله ، وكانوا يقولون : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } [ الزخرف : 23 ] فيكون في ذكر هذا نفي التقليد لأولئك لأنه كان في آبائهم من أهلك بتكذيبهم الرسل ، وهم الفراعنة وأتباعهم ، وفيهم من نجا ، وهم الرسل وأتباعهم المصدقون لهم ، فما بالهم قلدوا المهلكين منهم دون الذين نجوا ؟ ثم الآية لم تسق ليعرف نسب عاد وثمود وفرعون حتى يشتغل بتعرفه ، وإنما سيقت للأوجه التي ذكرنا ؛ فالاشتغال بتعرف أنسابهم وأحوالهم نوع من التكلف .
وقوله تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } فقوله : { ألم تر } يحتمل وجهين : أحدهما : أي قد رأيت كما يقال في الشاهد : ألم تر إلى ما فعل فلان ، أي قد رأيت ، وعلمت ، فيخبره بصنيعه على جهة التشكي منه .
الثاني : أنه يكون هذا ابتداء إعلام منه ، فيقول له : اعلم أن ربك فعل بعاد كذا . ...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{ ذَاتِ الْعِمَادِ } لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشَّعر التي ترفع بالأعمدة الشداد ، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشا ، ولهذا ذكَّرهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم ، فقال : { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ [ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ] } [ الأعراف : 69 ] . وقال تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ فصلت : 15 ]...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ويجوز أن يكون المراد ب { العماد } الأعلام التي بنوْها في طرُقهم ليهتدي بها المسافرون المذكورةَ في قوله تعالى : { أتبنون بكل ريع آية تعبثون } [ الشعراء : 128 ] . ووُصفت عاد ب { ذات العماد } لقوتها وشدتها ، أي قد أهلك الله قوماً هم أشد من القوم الذين كذبوك قال تعالى : { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم } [ محمد : 13 ] وقال : { أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة } [ غافر : 21 ] . ...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.