ويتغير السياق من الحكاية عن حادث وقع إلى مواجهة وخطاب للمرأتين كأن الأمر حاضر :
( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما . وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير ) . .
وحين نتجاوز صدر الخطاب ، ودعوتهما إلى التوبة لتعود قلوبهما فتميل إلى الله ، فقد بعدت عنه بما كان منها . . حين نتجاوز هذه الدعوة إلى التوبة نجد حملة ضخمة هائلة وتهديدا رعيبا مخيفا . .
ومن هذه الحملة الضخمة الهائلة ندرك عمق الحادث وأثره في قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى احتاج الأمر إلى إعلان موالاة الله وجبريل وصالح المؤمنين . والملائكة بعد ذلك ظهير ! ليطيب خاطر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويحس بالطمأنينة والراحة من ذلك الأمر الخطير !
ولا بد أن الموقف في حس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وفي محيطه كان من الضخامة والعمق والتأثير إلى الحد الذي يتناسب مع هذه الحملة . ولعلنا ندرك حقيقته من هذا النص ومما جاء في الرواية على لسان الأنصاري صاحب عمر - رضي الله عنهما - وهو يسأله : جاءت غسان ? فيقول لا بل أعظم من ذلك وأطول . وغسان هي الدولة العربية الموالية للروم في الشام على حافة الجزيرة ، وهجومها إذ ذاك أمر خطير . ولكن الأمر الآخر في نفوس المسلمين كان أعظم وأطول ! فقد كانوا يرون أن استقرار هذا القلب الكبير ، وسلام هذا البيت الكريم أكبر من كل شأن . وأن اضطرابه وقلقه أخطر على الجماعة المسلمة من هجوم غسان عملاء الروم ! وهو تقدير يوحي بشتى الدلالات على نظرة أولئك الناس للأمور . وهو تقدير يلتقي بتقدير السماء للأمر ، فهو إذن صحيح قويم عميق .
صغت قلوبكما : مالت إلى ما يجب للرسول الكريم من تعظيم وإجلال .
وإن تظاهرا عليه : تتظاهرا وتتعاونا على إيذاء الرسول .
ثم وجّه تعالى الخطابَ إلى حفصةَ وعائشة مبالغةً في العتاب والتحذير فقال :
{ إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا }
إن ترجعا إلى الله بالتوبة عن مثلِ هذه الأعمال التي تؤذي النبيَّ فقد مالت قلوبُكما إلى الحقّ والخير .
ثم بيّن الله أنه حافظٌ لرسوله الأمين وحارسُه فلا يَضُرُّه أذى مخلوقٍ فقال :
{ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } .
إن تتعاونا يا عائشة وحفصة في العمل على ما يؤذي النبيَّ ويسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء السر ، فلن يضرّه ذلك شيئا ، فالله ناصرهُ وجبريلُ والمؤمنون الصالحون والملائكة كلّهم مظاهرون له ومعينون .
قرأ أهل الكوفة : تظاهرا بفتح التاء والظاء من غير تشديد . وقرأ الباقون : تظاهرا بفتح التاء والظاء المشددة .
قرأ حفص ونافع وأبو عمرو وابن عامر : جبريل بكسر الجيم والراء من غير همزة . وقرأ أبو بكر : جبرئيل بفتح الجيم والراء وهمزة قبل الياء .
{ إِن تَتُوبَا إلى الله } خطاب لحفصة . وعائشة رضي الله تعالى عنهما على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في المعاتبة فإن المبالغ في العتاب يصير المعاتب أولاً بعيداً عن ساحة الحضور ، ثم إذا اشتد غضبه توجه إليه وعاتبه بما يريد ، وكون الخطاب لهما لما أخرج أحمد . والبخاري . ومسلم . والترمذي . وابن حبان . وغيره عن ابن عباس قال : لم أزل حريصاً أن أسأل عمر رضي الله تعالى عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى : { إِن تَتُوبَا } الخ حتى حج عمر وحججت معه فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالأداوة فنزل ثم أني صببت على يديه فتوضأ فقلت : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى : { إِن تَتُوبَا } الخ ؟ فقال : واعجباً لك يا ابن عباس هما عائشة . وحفصة ثم أنشأ يحدثني الحديث الحديث بطوله ؛ ومعنى قوله تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } مالت عن الواجب من مخالفته صلى الله عليه وسلم بحب ما يحبه وكراهة ما يكرهه إلى مخالفته ، والجملة قائمة مقام جواب الشرط بعد حذفه ، والتقدير إن تتوبا فلتوبتكما موجب وسبب { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } أو فحق لكما ذلك فقد صدر ما يقتضيها وهو على معنى فقد ظهر أن ذلك حق كما قيل في قوله
: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة *** من أنه بتأويل تبين أني لم تلدني لئيمة ، وجعلها ابن الحاجب جواباً من حيث الإعلام كما قيل في : إن تكرمني اليوم فقد أكرمتك أمس ، وقيل : الجواب محذوف تقديره يمح إثمكما ، وقوله تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ } الخ بيان لسبب التوبة ، وقيل : التقدير فقد أديتما ما يجب عليكما أو أتيتما بما يحق لكما ، وما ذكر دليل على ذلك قيل : وإنما لم يفسروا { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } بمالت إلى الواجب . أو الحق . أو الخير حتى يصح جعله جواباً من غير احتياج إلى نحو ما تقدم لأن صيغة الماضي وقد وقراءة ابن مسعود فقد زاغت قلوبكما وتكثير المعنى مع تقليل اللفظ تقتضي ما سلف ، وتعقب بأنه إنما يتمشى على ما ذهب إليه ابن مالك من أن الجواب يكون ماضياً وإن لم يكن لفظ كان ، وفيه نظر ، والجمع في { قُلُوبُكُمَا } دون التثنية لكراهة اجتماع تثنيتين مع ظهور المراد ، وهو في مثل ذلك أكثر استعمالاً من التثنية والإفراد ، قال أبو حيان : لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر كقوله
: حمامة بطن الواديين ترنمي *** وغلط رحمه الله تعالى ابن مالك في قوله في «التسهيل » : ويختار لفظ الأفراد على لفظ التثنية { وَأَنْ تظاهرا عَلَيْهِ } بحذف إحدى التاءين وتخفيف الظاء ، وهي قراءة عاصم . ونافع في رواية ، وطلحة . والحسن . وأبو رجاء ، وقرأ الجمهور تظاهراً بتشديد الظاء ، وأصله تتظاهرا فأدغمت التاء في الظاء ، وبالأصل قرأ عكرمة ، وقرأ أبو عمرو في رواية أخرى تظهرا بتشديد الظاء والهاء دون ألف ، والمعنى فإن تتعاونا عليه صلى الله عليه وسلم بما يسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره .
{ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه } أي ناصره ؛ والوقف على ما في «البحر » . وغيره هنا أحسن ، وجعلوا قوله تعالى : { وَجِبْرِيلُ } مبتدأ ، وقوله سبحانه : { وصالح الْمُؤْمِنِينَ والملائكة } معطوفاً عليه ، وقوله عز وجل : { بَعْدَ ذَلِكَ } أي بعد نصرة الله تعالى متعلقاً بقوله جل شأنه : { ظَهِيرٍ } وجعلوه الخبر عن الجميع ، وهو بمعنى الجمع أي مظاهرون ، واختير الافراد لجعلهم كشيء واحد ، وجوز أن يكون خبراً عن { جبريل } وخبر ما بعده مقدر نظير ما قالوا في قوله
: ومن يك أمسي بالمدينة رحله *** فإني وقيار بها لغريب
وجوز أن يكون الوقف على { جبريل } أي { مولاه وَجِبْرِيلُ } مولاه { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } مبتدأ ، وما بعده معطوف عليه ، والخبر { ظَهِيرٍ } ، وظاهر كلام الكشاف اختيار الوقف على { المؤمنين } فظهير خبر الملائك ، وعليه غالب مختصريه ، وظاهر كلامهم التقدير لكل من جبريل وصالح المؤمنين خبراً وهو إما لفظ مولى مراداً به مع كل معنى من معانيه المناسبة أي { وَجِبْرِيلُ } مواه أي قرينه { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } مولاه أي تابعه ، أو لفظ آخر بذلك المعنى المناسب وهو قرينه في الأول وتابعه في تابعه ، ولا مانع من أن يكون المولى في الجميع بمعنى الناصر كما لا يخفي ، وزيادة { هُوَ } على ما في الكشاف للإيذان بأن نصرته تعالى عزيمة من عزائمه وأنه عز وجل متولى ذلك بذاته تعالى ، وهو تصريح بأن الضمير ليس من الفصل في شيء ، وأنه للتقوى لا للحصر ، والحصر أكثري في المعرفتين على ما نقله في الإيضاح ، وإن كان كلام السكاكي موهماً الوجوب ؛ هذا والمبالغة محققة على ما نص عليه سيبويه وحقق في الأصول ، وأما الحصر فليس من مقتضى اللفظ فلا يرد أن الأولى أن يكون { وَجِبْرِيلُ } وما بعده مخبراً عنه بظهير وإن سلم فلا ينافيه لأن نصرتهم نصرته تعالى فليس من الممتنع على نحو زيد المنطلق . وعمرو ، كذا في «الكشف » ، ووجه تخصيص جبريل عليه السلام بالذكر مزيد فضله بل هو رأس الكروبيين ، والمراد بالصالح عند كثير الجنس الشامل للقليل والكثير ، وأريد به الجمع هنا ، ومثله قولك : كنت في السامر والحاضر ، ولذا عم بالإضافة ، وجوز أن يكون اللفظ جمعاً ، وكان القياس أن يكتب وصالحوا بالواو إلا أنها حذفت خطاً تبعاً لحذفها لفظاً ، وقد جاءت أشياء في المصحف تبع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط نحو { ويدع الإنسان } [ الاسراء : 11 ] . { ويدع الداع } [ القمر : 6 ] . و { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخصم } [ ص : 21 ] إلى غير ذلك ، وذهب غير واحد إلى أن الإضافة للعهد فقيل : المراد به الأنبياء عليهم السلام .
وروى عن ابن زيد . وقتادة . والعلا بن زياد ، ومظاهرتهم له قيل : تضمن كلامهم ذم المتظاهرين على نبي من الأنبياء عليهم السلام وفيه من الخفاء ما فيه ؛ وقيل : علي كرم الله تعالى وجهه ، وأخرجه ابن مردويه . وابن عساكر عن ابن عباس ، وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس قالت . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ؛ { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } علي بن أبي طالب ؛ وروى الإمامية عن أبي جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه فقال : يا أيها الناس هذا صالح المؤمنين .
وأخرج ابن عساكر عن الحسن البصري أنه قال : هو عمر بن الخطاب ، وأخرج هو . وجماعة عن سعيد بن جبير قال : { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } نزل في عمر بن الخطاب خاصة ، وأخرج ابن عساكر عن مقاتل بن سليمان أنه قال : { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر . وعمر . وعلي رضي الله تعالى عنهم ، وقيل : الخلفاء الأربعة .
وأخرج الطبراني في «الأوسط » . وابن مردويه عن ابن عمر . وابن عباس قالا : نزلت { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } في أبي بكر . وعمر ، وذهب إلى تفسيره بهما عكرمة . وميمون بن مهران . وغيرهما ، وأخرج الحاكم عن أبي أمامة . والطبراني . وابن مردويه . وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر . وعمر ، وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان أبي يقرؤها { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر . وعمر ، ورجح إرادة ذلك بأنه اللائق بتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام فإنه جمع بين الظهير المعنوي والظهير الصوري كيف لا وأن جبريل عليه السلام ظهير له صلى الله عليه وسلم يؤيده بالتأييدات الإلهاية وهما وزيراه وظهيراه في تدبير أمور الرسالة وتمشية أحكامها الظاهرة مع أن بيان مظاهرتهما له عليه السلام أشد تأثيراً في قلوب بنيتهما وتوهيناً لأمرهما .
وأنا أقول العموم أولى ، وهما وكذا علي كرم الله تعالى وجهه يدخلان دخولاً أولياً ، والتنصيص على بعض في الأخبار المرفوعة إذا صحت لنكتة اقتضت ذلك لا لإرادة الحصر ، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ذلك : من صالح المؤمنين أبو بكر . وعمر ، وفائدة { بَعْدَ ذَلِكَ } التنبيه على أن نصرة الملائكة عليهم السلام أقوى وجوه نصرته عز وجل وإن تنوعت ، ثم لا خفاء في أن نصرة جميع الملائكة وفيهم جبريل أقوى من نصرة جبريل عليه السلام وحده .
وقيل : الإشارة إلى مظاهرة صالح المؤمنين خاصة فالتعظيم بالنسبة إليها ، وفي التنبيه على هذا دفع توهم ما يوهمه الترتيب الذكري من أعظمية مظاهرة المتقدم ، وبالجملة فائدة { بَعْدَ ذَلِكَ } نحو فائدة ثم في قوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } [ البلد : 17 ] وهو التفاوت الرتبي أي أعظمية رتبة ما بعدها بالنسبة إلى ما قبلها وهذا لا يتسنى على ما نقل عن «البحر » بل ذلك للإشارة إلى تبعية المذكورين في النصرة والإعانة عز وجل ، وأياً ما كان فإن شرطية وتظاهرا فعل الشرط ، والجملة المقرونة بالفاء دليل الجواب ، وسبب أقيم مقامه ، والأصل فإن تظاهرا عليه فلن يعدم من يظاهره فإن الله مولاه ، وجوز أن تكون هي بنفسه الجواب على أنها مجاز أو كناية عن ذلك ، وأعظم جل جلاله شأن النصرة لنبيه صلى الله عليه وسلم على هاتين الضعيفتين إما للإشارة إلى عظم مكر النساء أو للمبالغة في قطع حبال طعمهما لعظم مكانتهما عند رسول الله عليه الصلاة والسلام وعند المؤمنين لأمومتهما لهم وكرامة له صلى الله عليه وسلم ورعاية لأبويهما في أن تظاهرهما يجديهما نفعاً .
وقيل : المراد المبالغة في توهين أمر تظاهرهما ودفع ما عسى أن يتوهمه المنافقون من ضرره في أمر النبوة والتبليغ وقهر أعداء الدين لما أن العادة قاضية باشتغال بال الرجل بسبب تظاهر أزواجه عليه ، وفيه أيضاً مزيد إغاظة للمنافقين وحسم لأطماعهم الفارغة فكأنه قيل : فإن تظاهرا عليه لا يضر ذلك في أمره فإن الله تعالى هو مولاه وناصره في أمر دينه وسائر شؤونه على كل من يتصدى لما يكرهه { وَجِبْرِيلُ وصالح الْمُؤْمِنِينَ والملائكة بَعْدَ ذلك } مظاهرون له ومعينون إياه كذلك ، ويلائم هذا ترك ذكر المعان عليه حيث لم يقل ظهير له عليكما مثلاً ، وكذا ترك ذكر المعان فيه وتخصيص صالح المؤمنين بالذكر ، وتقوى هذه الملاءمة على ما روى عن ابن جبير من تفسير صالح المؤمنين بمن بريء من النفاق فتأمل .
{ إن تتوبا إلى الله } أي من التعاون على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء . يخاطب عائشة وحفصة ، { فقد صغت قلوبكما } أي زاغت ومالت عن الحق واستوجبتما التوبة . قال ابن زيد : مالت قلوبهما بأن سرهما ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب عن الزهري ، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، أنبأنا عبد الله بن عباس قال : لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى لهما : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } حتى حج وحججت معه ، وعدل وعدلت معه بإداوة ، فتبرز ثم جاء ، فسكبت على يديه من الإداوة فتوضأ ، فقلت له : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى لهما :{ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } فقال : واعجباً لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة . ثم استقبل عمر الحديث يسوقه فقال : إني كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ، وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت حدثته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره ، وإذا نزل فعل مثله . وكنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصحت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ولم تنكر أن أراجعك ! فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل . فأفزعني فقلت : خابت من فعلت منهن بعظيم . ثم جمعت علي ثيابي فدخلت على حفصة ، فقلت : أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل ؟ قالت : نعم ، فقلت : خابت وخسرت ، أفتأمنين أن يغضب الله تعالى لغضب رسوله فتهلكي ، لا تستكثري على النبي صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه في شيء ، ولا تهجريه وسليني ما بدا لك ، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم -يريد عائشة- . قال عمر : وكنا تحدثنا أن غسان تبعث الخيل لتغزونا فنزل صاحبي يوم نوبته ، فرجع عشاء فضرب بابي ضرباً شديداً وقال : أثم هو ؟ ففزعت فخرجت إليه فقال : حدث أمر عظيم ؟ فقلت : ما هو أجاءت غسان ! قال : لا بل أعظم منه وأطول ، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه . فقلت : قد خابت حفصة وخسرت كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون . فجمعت علي ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخل مشربة فاعتزل فيها فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي ، فقلت : ما يبكيك ألم أكن حذرتك ؟ أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : لا أدري هو ذا في المشربة . فجئت إلى المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم ، فجلست معهم قليلاً ثم غلبني ما أجد ، فجئت المشربة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لغلام له أسود : استأذن لعمر ، فدخل فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلي فقال : قد كلمت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتك له فصمت ، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد فجئت فقلت للغلام : استأذن لعمر ، فدخل ثم رجع إلي فقال : قد ذكرتك له فصمت ، فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت : استأذن لعمر ، فاستأذن ثم رجع إلي فقال : قد ذكرتك له فصمت . فلما وليت منصرفاً ، فإذا الغلام يدعوني ، فقال : قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش ، قد أثر الرمال بجنبه متكئاً على وسادة من أدم حشوها ليف ، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم : يا رسول الله أطلقت نساءك ؟ فرفع إلي بصره فقال : لا ، فقلت : الله أكبر . ثم قلت وأنا قائم أستأنس : يا رسول الله لو رأيتني ، وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة إذا قوم تغلبهم نساؤهم ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قلت : يا رسول الله لو رأيتني ، ودخلت على حفصة فقلت لها : لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -يريد عائشة- فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى ، فجلست حين رأيته يبتسم فرفعت بصري في بيته ، فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة ، فقلت : يا رسول الله ادع الله تعالى فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسع عليهم وأعطوا من الدنيا وهم لا يعبدون الله تعالى ، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال : أو في هذا أنت يا ابن الخطاب ؟ إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا . فقلت : يا رسول الله استغفر لي . فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة تسعاً وعشرين ليلة ، وكان يقول : ما أنا بداخل عليهن شهراً -من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله تعالى . فلما مضت تسع وعشرون ليلة ، دخل على عائشة رضي الله عنها فبدأ بها ، فقالت له عائشة : يا رسول الله إنك كنت أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً فإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدها عداً ! فقال : الشهر تسع وعشرون ، وكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين ليلة . قالت عائشة : ثم أنزل الله آية التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه ، فاخترته ، ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل ما قالت عائشة " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن " أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه فبدأ بي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي بالجواب حتى تستأمري أبويك ، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ، ثم قال إن الله قال : { يا أيها النبي قل لأزواجك } إلى تمام الآيتين ، فقلت : أو في هذا استأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني زهير بن حرب ، حدثنا عمر بن يونس الحنفي ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن سماك ابن زميل حدثنا عبد الله بن عباس ، حدثني عمر بن الخطاب قال : " لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه وذكر الحديث . وقال : دخلت عليه فقلت : يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك . وقلما تكلمت -وأحمد الله تعالى- بكلام إلا رجوت أن الله يصدق قولي الذي أقول ، ونزلت هذه الآية : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن } و{ إن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } " . قوله : { وإن تظاهرا عليه } أي تتظاهرا وتتعاونا على أذى النبي صلى الله عليه وسلم . قرأ أهل الكوفة بتخفيف الظاء ، والآخرون بتشديدها . { فإن الله هو مولاه } أي وليه وناصره . قوله : { وجبريل وصالح المؤمنين } روي عن ابن مسعود وأبي بن كعب : { وصالح المؤمنين } أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، قال الكلبي : هم المخلصون الذي ليسوا بمنافقين . قوله :{ والملائكة بعد ذلك ظهير } قال مقاتل : بعد الله وجبريل وصالح المؤمنين ظهير ، أي : أعوان النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا من الواحد الذي يؤدي عن الجمع ، كقوله : { وحسن أولئك رفيقا }( النساء- 69 ) .
قوله : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } المراد بذلك حفصة وعائشة ، إذ يحثهما الله على التوبة مما كان منهما من ميل إلى خلاف ما يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله { فقد صغت قلوبكما } أي مالت أوزاغت عن الحق والاستقامة . فقد سرهما أن يحرم النبي على نفسه ما أحله له ، وهي أم ولده مارية القبطية أو اجتناب العسل .
قوله : { وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } يعني إن تتظاهرا و تتعاضدا على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء وإفشاء السر { فإن الله هو مولاه } أي ناصره ومؤيده فلا يصيبه شيء من تظاهركما وتعاونكما عليه . وكذلك يظاهره ويؤيده جبريل عظيم الملائكة ، والصالحون من المؤمنين { والملائكة بعد ذلك ظهير } أي أن الملائكة بعد تأييد الله له وتأييد جبريل وصالح المؤمنين أعوان له يظاهرونه ويؤيدونه .