وبين لهم الأولى والأفضل وهو الصبر والانتظار حتى يخرج إليهم . وحبب إليهم التوبة والإنابة ، ورغبهم في المغفرة والرحمة .
وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع ، وتجاوزوا به شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى كل أستاذ وعالم . لا يزعجونه حتى يخرج إليهم ؛ ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم . . يحكى عن أبي عبيد - العالم الزاهد الراوية الثقة - أنه قال : " ما دققت بابا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه " . .
وعلّمهم أن الأفضلَ لهم أن يصبروا وينتظروا حتى يخرجَ إليهم ، ثم أتبع ذلك قوله تعالى : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
هذه السورة كما مرّ في المقدمة من أواخر السور نزولا ، وفيها على قِصَرها قواعدُ وتعاليم للمؤمنين ، وترسيخٌ لإيمانهم ، و تأديبٌ لهم ليتهيأوا لقيادة العالم .
والحُجرات التي ورد ذكرها في الآية الكريمة هي تسعُ حجرات كانت لكل زوجة حجرة من جريد النخل ، وعلى أبوابها المسوح من شعر أسود . وكانت غير مرتفعة يُتناول سقفها باليد ، وفي غاية البساطة . قال سعيد بن المسيب وهو أكبر التابعين في المدينة : وددتُ أنهم تركوها على حالها حتى يراها الناس بما فيها من البساطة ، فيروا ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، فيكون ذلك مما يزهِّد الناسَ في التفاخُر والتكاثر .
وقد أُدخلت هذه الحجرات في عهدِ الوليدِ بن عبد الملك بأمرِه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى الناس لذلك .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أي ولو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج لكان الصبر خيراً لهم من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم الموجبين للثناء والثواب أو لذلك والإسعاف بالمسؤول على أوفق وجه وأوقعه عندهم بناءً على حديث الأسارى بأن يطلق عليه الصلاة والسلام الجميع من غير فداء ، فإن المفتوحة المؤولة بالمصدر هنا فاعل فعل مقدر وهو ثبت كما اختاره المبرد والقرينة عليه معنى الكلام ، فإن أن تدل على الثبوت وهو إنما يكون في الماضي حقيقة ولذا يقدر الفعل ماضياً .
وضمير { كَانَ } للمصدر الدال عليه { صَبَرُواْ } كما في قولك : من كذب كان شراً له أي الكذب ومذهب سيبويه أن المصدر في موضع المبتدأ فقيل : خبره مقدر أي لو صبرهم ثابت وقيل : لا خبر له ؛ وأنت تعلم أن في تقدير الفعل إبقاء { لَوْ } على ظاهرها من دخولها على الفعل فإنها في الأصل شرطية مختصة به ، وجوز كون ضمير { كَانَ } لمصدر الفعل المقدر أي لكان ثبوت صبرهم ، وصنيع الزمخشري يقتضي أولويته .
وأوثرت { حتى } هنا على إلى لأنها موضوعة لما هو غاية في نفس الأمر ويقال له الغاية المضروبة أي المعينة وإلى لما هو غاية في نفس الأمر أو بجعل الجاعل ، وإليه يرجع قول المغاربة وغيرهم : إن مجرور حتى دون مجرور إلى لا بد من كونه آخر جزء نحو أكلت السمكة حتى رأسها أو ملاقياً له نحو { سلام هِىَ حتى مَطْلَعِ الفجر } [ القدر : 5 ] ولا يجوز سهرت البارحة حتى ثلثيها أو نصفها فيفيد الكلام معها أن انتظارهم إلى أن يخرج صلى الله عليه وسلم أمر لازم ليس لهم أن يقطعوا أمراً دون الانتهاء إليه ، فإن الخروج لما جعله الله تعالى غاية كان كذلك في الواقع ، وإلى هذا ذهب الزمخشري ، وتوهم ابن مالك أنه لم يقل به أحد غيره ، واعترض عليه بقوله :
عينت ليلة فما زلت حتى *** نصفها راجياً فعدت يؤسا
وأجيب بأنه على تسليم أنه من كلام من يعتد به مع أنه نادر شاذ لا يرد مثله نقضاً مدفوع بأن معنى عينت ليلة عينت وقتاً للزيارة وزيارة الأحباب يتعارف فيها أن تقع في أول الليل فقوله : حتى نصفها بيان لغاية الوقت المتعارف للزيارة الذي هو أول الليل والنصف ملاق له ، وهو أولى من قول ابن هشام في «المغني » : إن هذا ليس محل الاشتراط إذ لم يقل : فما زلت في تلك الليلة حتى نصفها وإن كان المعنى عليه ، وحاصله أن الاشتراط مخصوص فيما إذا صرح بذي الغاية إذ لا دليل على هذا التخصيص ، وخفاء عدم الاكتفاء بتقديم ليلة في صدر البيت .
نعم ما ذكر من أصله لا يخلو عن كلام كما يشير إليه كلام صاحب الكشف ، ولذا قال اوظهر : إنه أوثر حتى تخرج اختصاراً لوجوب حذف أن ووجوب الإظهار في إلى مع أن حتى أظهر دلالة على الغاية المناسبة للحكم وتخالف ما بعدها وما قبلها ولهذا جاءت للتعليل دون إلى ، وفي قوله تعالى : { إِلَيْهِمُ } إشعار بأنه عليه الصلاة والسلام لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم فليس زائداً بل قيد لا بد منه { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بليغ المغفرة والرحمة فلذا اقتصر سبحانه على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين الأدب التاركين تعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان مقتضى ذلك أن يعذبهم أو يهلكهم أو فلم تضق ساحة مغفرته ورحمته عز وجل عن هؤلاء إن تابوا وأصلحوا ، ويشير إلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم للأقرع بعد أن دنا منه عليه الصلاة والسلام وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله : «ما يضرك ما كان قبل هذا » ، وفي الآيات من الدلالة على قبح سوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى ، ومن هذا وأمثاله تقتطف ثمر الألباب وتقتبس محاسن الآداب كما يحكى عن أبي عبيد وهو في الفضل هو أنه قال : ما دققت باباً على عالم حتى يخرج في وقت خروجه ، ونقله بعضهم عن القاسم بن سلام الكوفي ، ورأيت في بعض الكتب أن الحبر ابن عباس كان يذهب إلى أبي في بيته لأخذ القررن العظيم عنه فيقف عند الباب ولا يدق الباب عليه حتى يخرج فاستعظم ذلك أبي منه فقال له يوماً : هلا دققت الباب يا ابن عباس ؟ فقال : العالم في قومه كالنبي في أمته وقد قال الله تعالى في حق نبيه عليه الصلاة والسلام : { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } وقد رأيت هذه القصة صغيراً فعملت بموجبها مع مشايخي والحمد لله تعالى على ذلك .
قوله : { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم } أي لو أنهم حبسوا أنفسهم عن ندائك من وراء الحجرات في جفاء مستقبح وغلظة ممجوجة وأسلوب مستهجن وانتظروا حتى تخرج إليهم لكان ذلك أصلح لهم في دينهم ودنياهم { والله غفور رحيم } الله يعفو لهؤلاء الجفاة عن ذنوبهم وسيئاتهم إن تابوا عقب مناداتهم المزعجة الذميمة من وراء الحجرات . وهو سبحانه رحيم بهم فلا يعاقبهم بعد أن يتوبوا{[4285]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَلَوْ أنّهُمْ صَبَرُوا حتى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكانَ خَيْرا لهُمْ "يقول تعالى ذكره: ولو أن هؤلاء الذين ينادونك يا محمد من وراء الحجرات صبروا فلم ينادوك حتى تخرج إليهم إذا خرجت، لكان خيرا لهم عند الله، لأن الله قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك، فهم بتركهم نداءك تاركون ما قد نهاهم الله عنه.
"واللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" يقول تعالى ذكره: الله ذو عفو عمن ناداك من وراء الحجاب، إن هو تاب من معصية الله بندائك كذلك، وراجع أمر الله في ذلك وفي غيره رحيم به أن يعاقبه على ذنبه ذلك من بعد توبته منه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولو أنهم صبروا حتى تخرُج إليهم لكان خيرا لهم} لأن ذلك أعظم لقدره وأجلّ لمنزلته وأعرف لحقّه وأحفظ لحُرمته.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... ولو ثبت صبرهم. والصبر: حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها... وهو حبس فيه شدَّة ومشقة على المحبوس، فلهذا قيل للحبس على اليمين أو القتل: صبر. وفي كلام بعضهم: الصبر مرّ لا يتجرّعه إلا حرّ. فإن قلت: هل من فرق بين {حتى تَخْرُجَ} وإلى أن تخرج؟ قلت: إنّ «حتى» مختصة بالغاية المضروبة. تقول: أكلت السمكة حتى رأسها، ولو قلت: حتى نصفها، أو صدرها: لم يجز، و«إلى» عامّة في كل غاية، فقد أفادت «حتى» بوضعها: أنّ خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم غاية قد ضربت لصبرهم، فما كان لهم أن يقطعوا أمراً دون الانتهاء إليه. فإن قلت: فأي فائدة في قوله: {إِلَيْهِمْ}؟ قلت: فيه أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم، للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أنّ خروجه إليهم...
{والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بليغ الغفران والرحمة واسعهما، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{لكان خيراً لهم} يعني في الثواب عند الله وفي انبساط نفس النبي صلى الله عليه وسلم وقضائه لحوائجهم ووده لهم، وذلك كله خير، لا محالة أن بعضه انزوى بسبب جفائهم.
وقوله تعالى: {والله غفور رحيم} ترجية لهم وإعلام بقبوله توبة التائب وغفرانه ورحمته لمن أناب ورجع...
إشارة إلى حسن الأدب الذي على خلاف ما أتوا به من سوء الأدب فإنهم لو صبروا لما احتاجوا إلى النداء، وإذا كنت تخرج إليهم فلا يصح إتيانهم في وقت اختلائك بنفسك أو بأهلك أو بربك، فإن للنفس حقا وللأهل حقا، وقوله تعالى: {لكان خيرا لهم} يحتمل وجهين (أحدهما) أن يكون المراد أن ذلك هو الحسن والخير كقوله تعالى: {خير مستقرا}...
{والله غفور رحيم} تحقيقا لأمرين؛
(أحدهما) لسوء صنيعهم في التعجل، فإن الإنسان إذا أتى بقبيح ولا يعاقبه الملك أو السيد يقال ما أحلم سيده لا لبيان حلمه، بل لبيان عظيم جناية العبد.
(وثانيهما) لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير، يغفر الله لهم سيئاتهم ويجعل هذه الحسنة كفارة لكثير من السيئات...
{أكثرهم لا يعقلون} كالعذر لهم...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
أي لو انتظروا خروجك لكان أصلح في دينهم ودنياهم. وكان صلى الله عليه وسلم لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيهما بمهمات نفسه، فكان إزعاجه في تلك الحالة من سوء الأدب وقيل: كانوا جاؤوا شفعاء في أسارى بني عنبر فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم نصفهم، وفادي على النصف. ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء. "والله غفور رحيم"...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولو أنهم} أي المنادي والراضي {صبروا} أي حبسوا أنفسهم ومنعوها عن مناداتهم...
{حتى تخرج} من تلقاء نفسك عند فراغ ما أنت فيه مما يهمك من واردات الحق ومصالح الخلق...
{إليهم} أي ليس لهم أن يكلموك حتى تفرغ لهم فتقصدهم فإنك لا تفعل شيئاً- في غير حينه بمقتضى أمر الرسالة {لكان} أي الصبر. ولما كان العرب أهل معال فهم بحيث لا يرضون إلا الأحسن فقال: {خيراً لهم} أي من استعجالهم في إيقاظك وقت الهاجرة وما لو قرعوا الباب بالأظافير كما كان يفعل غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم...
. {والله} أي المحيط بصفات الكمال {غفور} أي ستور لذنب من تاب من جهله {رحيم} يعامله معاملة الراحم فيسبغ عليه نعمه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبين لهم الأولى والأفضل وهو الصبر والانتظار حتى يخرج إليهم. وحبب إليهم التوبة والإنابة، ورغبهم في المغفرة والرحمة. وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع، وتجاوزوا به شخص رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى كل أستاذ وعالم. لا يزعجونه حتى يخرج إليهم؛ ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم.. يحكى عن أبي عبيد -العالم الزاهد الراوية الثقة- أنه قال: "ما دققت بابا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه"...