ثم يحدثهم عن خصومهم ، من هم في ميزان الله ? وكيف ينظر إلى أعمالهم وصدهم للمؤمنين عن بيته الحرام . وكيف ينظر إليهم هم عكس ما ينظر إلى خصومهم المعتدين :
هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام ، والهدي معكوفا أن يبلغ محله ، ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، أن تطأوهم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء . لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما . إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ؛ فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وألزمهم كلمة التقوى ، وكانوا أحق بها وأهلها ، وكان الله بكل شيء عليما . .
هم في ميزان الله واعتباره ، الكافرون حقا ، الذين يستحقون هذا الوصف الكريه : ( هم الذين كفروا ) . . يسجله عليهم كأنهم متفردون به ، عريقون في النسبة إليه ، فهم أكره شيء إلى الله الذي يكره الكفر والكافرين ! كذلك يسجل عليهم فعلهم الكريه الآخر ، وهو صدهم للمؤمنين عن المسجد الحرام ، وصد الهدي وتركه محبوسا عن الوصول إلى محل ذبحه المشروع :
( وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) . .
وهي كبيرة في الجاهلية وفي الإسلام . كبيرة في الأديان كلها التي يعرفونها في الجزيرة من لدن أبيهم إبراهيم . كريهة في عرفهم وفي عقيدتهم وفي عقيدة المؤمنين . . فلم يكن إذن كف الله للمؤمنين عنهم بقيا عليهم لأن جرمهم صغير . كلا ! إنما كان ذلك لحكمة أخرى يتلطف الله سبحانه فيكشف عنها للمؤمنين :
( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، أن تطأوهم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم . . )
فلقد كان هنالك بعض المستضعفين من المسلمين في مكة لم يهاجروا ، ولم يعلنوا إسلامهم تقية في وسط المشركين . ولو دارت الحرب ، وهاجم المسلمون مكة ، وهم لا يعرفون أشخاصهم ، فربما وطأوهم وداسوهم وقتلوهم . فيقال : إن المسلمين يقتلون المسلمين ! ويلزمون بدياتهم حين يتبين أنهم قتلوا خطأ وهم مسلمون . .
ثم هنالك حكمة أخرى وهي أن الله يعلم أن من بين الكافرين الذين صدوهم عن المسجد الحرام ، من قسمت له الهداية ، ومن قدر له الله الدخول في رحمته ، بما يعلمه من طبيعته وحقيقته ؛ ولو تميز هؤلاء وهؤلاء لأذن الله للمسلمين في القتال ، ولعذب الكافرين العذاب الأليم :
( ليدخل الله في رحمته من يشاء . لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) . .
وهكذا يكشف الله للجماعة المختارة الفريدة السعيدة عن جانب من حكمته المغيبة وراء تقديره وتدبيره .
الهدي : ما يقدَّم قربانا لله في مناسك الحج والعمرة من الأنعام .
محله : المكان الذي يسوغ فيه نحره وهو مِنى .
لو تزيّلوا : لو تفرقوا وتميزوا .
بعد أن بين الله أنه كفّ أيدي المؤمنين عن الكافرين ، وكف أيدي الكافرين عن المؤمنين ، ذكر هنا أن المكان هو البيتُ الحرام الذي صدّوا المؤمنين عنه ، فيقول : إن أهل مكة هم الذين كفروا ومنعوكم من دخول المسجِد الحرام ومنعوا الهَدْيَ الذي سُقتموه معكم تقرباً إلى الله من بلوغِ مكانه الذي يُنحر فيه .
ثم وضّح أكثر أن في مكة مؤمنين ومؤمناتٍ لا تعلمونهم ، ولولا كراهةُ أن تصيبوهم فتقتلوهم بغير علم بهم ، فتكونوا قتلتم إخوانكم فيلحقكم من أجل قتلهم { مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أيْ عار وخزي - لسلطانكم عليهم .
ثم أكد ميزة هذا الصلح العظيم بقوله تعالى : { لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } أي ليفتح الباب أمام الذين يرغبون في دخول دين الله . وبين بوضوح بأنه لو أمكن تميُّز المسلمين من الكفار في مكة لسلّط المؤمنين على الكافرين ولعاقبهم عقاباً أليما .
{ هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } أن تصلوا إليه وتطوفوا به { والهدى } بالنصب عطف على الضمير المنصوب في { صَدُّوكُمْ } أي وصدوا الهدي وهو ما يهدي إلى البيت ، قال الأخفش : الواحدة هدية ويقال للأنثى هدى كأنه مصدر وصف به . وفي «البحر » إسكان داله لغة قريش وبها قرأ الجمهور ، وقرأ ابن هرمز . والحسن . وعصمة عن عاصم . واللؤلوى . وخارجة عن أبي عمرو وبكسر الدال وتشديد الياء وذلك لغة ، وهو فعيل بمعنى مفعول على ما صرح به غير واحد ، وكان هذا الهدي سبعين بدنة على ما هو المشهور ، وقال مقاتل : كان مائة بدنة . وقرأ الجعفي عن أبي عمرو { الهدى } بالجر على أنه عطف على المسجد الحرام بحذف المضاف أي ونحر الهدي . وقرئ بالرفع على إضمار وصد الهدي ، وقوله سبحانه : { مَعْكُوفاً } حال من { الهدى } على جميع القراآت ، وقيل : على قراءة الرفع يجوز أن يكون { الهدى } مبتدأ والكلام نحو حكمك مسمطاً ، وقوله تعالى : { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [ يوسف : 8 ] على قراءة النصب وهو كما ترى ، والمعكوف المحبوس يقال : عكفت الرجل عن حاجته حبسته عنها ، وأنكر أبو علي تعدية عكف وحكاها ابن سيده . والأزهري . وغيرهما ، وظاهر ما في الآية معهم ، وقوله تعالى : { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } بدل اشتمال من { الهدى } كأنه قيل : وصدوا بلوغ الهدى محله أو صدوا عن بلوغ الهدي أو وصد بلوغ الهدي حسب اختلاف القراآت ، وجوز أن يكون مفعولاً من أجله للصد أي كراهة أن يبلغ محله ، وأن يكون مفعولاً من أجله مجروراً بلام مقدرة لمعكوفاً أي محبوساً لأجل أن يبلغ محله ويكون الحبس من المسلمين ، وأن يكون منصوباً بنزع الخافض وهو من أو عن أي محبوساً من أو عن أن يبلغ محله فيكون الحبس من المشكرين على ما هو الظاهر ، ومحل الهدي مكان يحل فيه نحره أي يسوغ أو مكان حلوله أي وجوه ووقوعه كما نقل عن الزمخشري ، والمراد مكانه المعهود وهو مني ، أما على رأي الشافعي رضي الله تعالى عنه فلأن مكانه لمن منع حيث منع فيكون قد بلغ محله بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ولذا نحروا هناك أعني في الحديبية ، وأما على رأي أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فلأن مكانه الحرم مطلقاً وبعض الحديبية حرم عنده ؛ وقد رووا أن مضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل منها ومصلاه في الحرم والنحر قد وقع فيما هو حرم فيكون الهدي بالغاً محله غير معكوف عن بلوغه فلا بد من إرادة المعهود ليتسنى ذلك ، وزعم الزمخشري أن الآية دليل لأبي حنيفة على أن الممنوع محل هديه الحرم ثم تكلم بما لا يخفى حاله على من راجعه .
ومن الناس من قرر الاستدلال بأن المسجد الحرام يكون بمعنى الحرم وهم لما صدوهم عنه ومنعوا هديهم أن يدخله فيصل إلى محله دل بحسب الظاهر على أنه محله ، ثم قال : ولا ينافيه أنه عليه الصلاة والسلام نحر في طرف منه كما لا ينافي الصد عنه كون مصلاه عليه الصلاة والسلام فيه لأنهم منعوهم فلم يمتنعوا بالكلية وهو كما ترى .
والإنصاف أنه لا يتم الاستدلال بالآية على هذا المطلب أصلاً . وطعن بعض أجلة الشافعية في كون شيء من الحديبية من الحرم فقال : إنه خلاف ما عليه الجمهور وحدود الحرم مشهورة من زمن إبراهيم عليه السلام ، ولا يعتد بروابة شذبها الواقدي كيف وقد صرح بخلافها البخاري في صحيحه عن الثقات ، والرواية عن الزهري ليست بثبت انتهى ، ولعل من قال : بأن بعضها من الحرم استند في ذلك إلى خبر صحيح . ومن قواعدهم أن المثبت مقدم على النافي والله تعالى أعلم { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } صفة { رِجَالٌ . وَنِسَاء } على تغليب المذكر على المؤنث . وكانوا على ما أخرج أبو نعيم بسند جيد . وغيره عن أبي جمعة جنبذ بن سبع تسعة نفر سبعة رجال وهو منهم وامرأتين ، وقوله تعالى : { أن تطؤوهم } بدل اشتمال منهم وجوز كونه بدلاً من الضمير المنصوب في { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } واستبعده أبو حيان ، والوطء الدوس واستعير هنا للإهلاك وهي استعارة حسنة واردة في كلامهم قديماً وحديثاً ، ومن ذلك قول الحرث بن وعلة الذهلي :
ووطئتنا وطأ على حنق *** وطء المقيد نابت الهرم
وقوله : صلى الله عليه وسلم من حديث : «وإن آخر وطأة وطئها الله تعالى بِوَجّ » وقوله عليه الصلاة والسلام : «اللهم اشدد وطأتك على مضر » { فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ } أي من جهتهم { مَّعَرَّةٌ } أي مكروه ومشقة مأخوذ من العر والعرة هو الجرب الصعب اللازم ، وقال غير واحد : هي مفعلة من عره إذا عراه ودهاه ما يكره ، والمراد بها هنا على ما روي عن منذر بن سعيد تعيير الكفار وقولهم في المؤمنين : أنهم قتلوا أهل دينهم ، وقيل : التأسف عليهم وتألم النفس مما أصابهم .
وقال ابن زيد : المأثم بقتلهم . وقال ابن إسحاق : الدية ، قال ابن عطية : وكلا القولين ضعيف لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب : وقال الطبري ، هي الكفارة . وتعقب بعضهم هذا أيضاً بأن في وجوب الكفارة خلافاً بين الأئمة . وفي الفصول العمادية ذكر في تأسيس النظائر في الفقه قال أصحابنا : دار الحرب تمنع وجوب ما يندرىء بالشبهات لأن أحكامنا لا تجري في دارهم وحكم دارهم لا يجري في دارنا ، وعند الشافعي دار الحرب لا تمنع وجوب ما يندرىء بالشبهات ، بيان ذلك حربي أسلم في دار الحرب وقتل مسلماً دخل دارهم بأمان لا قصاص عليه عندنا ولا دية وعند الشافعي عليه القصاص وعلى هذا لو أن مسلمين متسامنين دخلا دار الحرب وقتل أحدهما صاحبه لا قصاص عليه عندنا وعند الشافعي عليه ذلك ، ثم ذكر مسألة مختلفاً فيها بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد فقال : إذا قتل أحد الأسيرين صاحبه في دار الحرب لا شيء عليه عند أبي حنيفة وأبي يوسف إلا الكفارة لأنه تبع لهم فصار كواحد من أهل الحرب ، وعند محمد تجب الدية لأن له حكم نفسه فاعتبر حكم نفسه على حدة انتهى .
ونقل عن الكافي أن من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا وقتله مسلم عمداً أو خطأ وله ورثة مسلمون ثم لا يضمن شيئاً إن كان عمداً وإن كان خطأ ضمن الكفارة دون الدية انتهى وتمام الكلام في هذا المقام يطلب في محله ، والزمخشري فسر المعرة بوجوب الدية والكفارة وسوء قالة المشركين والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير وهو كما ترى .
{ بِغَيْرِ عِلْمٍ } في موضع الحال من ضمير المخاطبين في { فاسمعون قِيلَ } ولا تكرار مع قوله تعالى : { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } سواء كان { أن تطؤهم } بدل اشتمال من { رِجَالٌ وَنِسَاء } أو بدلاً من المنصوب في { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } أما على الثاني فلأن حاصل المعنى ولولا مؤمنون لم تعلموا وطأتهم وإهلاكهم وأنتم غير عالمين بإيمانهم لأن احتمال أنهم يهلكون من غير شعور مع إيمانهم سبب الكف فيعتبر فيه العلمان فمتعلق العلم في الأول : الوطأة وفي الثاني : أنفسهم باعتبار الإيمان ، وأما على الأول فلأن قوله تعالى : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } لما كان حالاً من فاعل { تطؤهم } كان العلم بهم راجعاً إلى العلم باعتبار الإهلاك كما تقول أهلكته من غير علم فلا الإهلاك من غير شعور ولا العلم بإيمانهم حاصل والأمران لكونهما مقصودين بالذات صرح بهما وإن تقاربا أو تلازماً في الجملة .
وجوز أن يجعل { مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } كناية عن الاختلاط كما يلوح إليه كلام الكشاف ، وفيه ما يدفع التكرار أيضاً ، وفي ذلك بحث يدفع بالتأمل وجوز أن يكون حالاً من ضمير { مِنْهُمْ } وأن يكون متعلقاً بتصيبكم أو صفة لمعرة قيل : وهو على معنى فتصيبكم منهم معرة بغير علم من الذي يعركم ويعيب عليكم ، يعني إن وطئتموهم غير عالمين لزمكم سبة من الكفار بغير علم أي لا يعلمون أنكم معزورون فيه أو على معنى لم تعلموا أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم منكم أي فتقتلوهم بغير علم منكم أو تؤذوهم بغير علم فافهم ولا تغفل . وجواب { لَوْلاَ } محذوف لدلالة الكلام عليه ، والمعنى على ما سمعت أولاً لولا كراهة أن تهلكوا أناساً مؤمنين بين ظهراني الكفار جاهلين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم ، وحاصله أنه تعالى ولو لم يكف أيديكم عنهم لانجر الأمر إلى إهلاك مؤمنين بين ظهرانيهم فيصيبكم من ذلك مكروه وهو عز وجل يكره ذلك .
وقال ابن جريج : دفع الله تعالى عن المشركين يوم الحديبية بأناس من المسلمين بين أظهرهم ، وظاهر الأول على ما قيل أن علة الكف صون المخاطبين عن إصابة المعرة ، وظاهر هذا أن علته صون أولئك المؤمنين عن الوطء والأمر فيه سهل ، وقوله تعالى : { لّيُدْخِلَ الله فِى رَحْمَتِهِ } علة لما يدل عليه الجواب المحذوف على ما اختاره في «الإرشاد » كأنه قيل : لكنه سبحانه كفها عنهم ليدخل بذلك الكف المؤدي إلى الفتح بلا محذور في رحمته الواسعة { مَن يَشَآء } وهم أولئك المؤمنون وذلك بأمنهم وإزالة استضعافهم تحت أيدي المشركين وبتوفيقهم لإقامة مراسم العبادة على الوجه الأتم ، والتعبير عنهم بمن يشاء دون الضمير بأن يقال : ليدخلهم الله رحمته للإشارة إلى أن علة الإدخال المشيئة المبنية على الحكم الجمة والمصالح ، وجعله بعضهم علة لما يفهم من صون من بمكة من المؤمنين والرحمة توفيقهم لزيادة الخير والطاعة بإبقائهم على عملهم وطاعتهم ، وجوز أن يراد بمن يشاء بعض المشركين ويراد بالرحمة الإسلام فإن أولئك المؤمنين إذا صانهم الكف المذكور أظهروا إيمانهم لمعاينة قوة الدين فيقتدي بهم الصائرون للإسلام ، واستحسن بعضهم كونه علة للكف المعلل بالصون .
وجوز أن يراد بمن يشاء المؤمنون فيراد بالرحمة التوفيق لزيادة الخير ، والمشركون فيراد بها الإسلام ، وبين وجه التعليل بأنهم إذا شاهدوا منع تعذيبهم بعد الظفر عليهم لاختلاط المؤمنين بهم اعتناءً بشأنهم رغبوا في الإسلام والانخراط في سلك المرحومين وأن المؤمنين إذا علموا منع تعذيب المشركين بعد الظفر عليهم لاختلاطهم بهم أظهروا إيمانهم فيقتدى بهم ، وقال : لا وجه لجعل اللام مستعارة من معنى التعليل لما يترتب على الشيء لأنه عدول عن الحقيقة المتبادرة من غير داع ، وما يظن من أن تعليل الكف بما ذكر مع أنه معلل بالصون فاسد لما فيه من اجتماع علتين على معلول واحد شخصي فاسد لأن العلل إذا لم تكن تامة حقيقة لا يضر تعددها وما هنا كذلك .
هذا وجعل ذلك علة لما دل عليه الجواب على ما سمعت أولاً أولى عندي لما فيه من شدة التحام النظم الجليل ، وحمل { مَن يَشَآء } على المؤمنين المستضعفين دون بعض المشركين أوفق بقوله تعالى : { لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } والتزيل التفرق والتميز ، وجوز في ضمير { تَزَيَّلُواْ } كونه للمؤمنين المذكورين فيما سبق أي لو تفرق أولئك المؤمنون والمؤمنات وتميزوا عن الكفار وخرجوا من مكة ولم يبقوا بينهم لعذبنا الخ ، وكونه للمؤمنين والكفار أي لو افترق بعضهم من بعض ولم يبقوا مختلطين لعذبنا الخ .
واختار غير واحد الأول فمنهم للبيان ، والمراد تعذيبهم في الدنيا بالقتل والسبي كما قال مجاهد وغيره وإلا لم يكن للو موقع . والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها ، وجوز الزمخشري أن يكون قوله تعالى : { لَوْ تَزَيَّلُواْ } كالتكرار لقوله تعالى : { لَوْلاَ رِجَالٌ } لأن مرجعهما في المعنى شيء واحد ويكون لعذبنا هو الجواب للولا السابقة . واعترضه أبو حيان بأن التغاير ظاهر فلا يكون تكراراً ولا مشابهاً . وأجيب بأن كراهة وطئهم لعدم تميزهم عن الكفار الذي هو مدلول الثاني فيكون كبدل الاشتمال ويكفي ذلك في كونه كالتكرار ، وقال ابن المنير : إنما كان مرجعهما واحداً وإن كانت { لَوْلاَ } تدل على امتناع لوجود و { لَوْ } تدل على امتناع لامتناع وبين هذين تناف ظاهر لأن { لَوْلاَ } ههنا دخلت على وجود ولو دخلت على { تَزَيَّلُواْ } وهو راجع إلى عدم وجودهم وامتناع عدم الوجود ثبوت فآلا إلى آمر واحد من هذا الوجه قال : وكان جدي يختار هذا الوجه ويسميه تطرية وأكثر ما يكون إذا تطاول الكلام وبعد عهد أوله واحتيج إلى بناء الآخر على الأول فمرة يطري بلفظه ومرة بلفظ آخر يؤدي مؤداه انتهى .
وأنت تعلم أن في حذف الجواب دليلاً على شدة غضب الله تعالى وأنه لولا حق المؤمنين لفعل بهم ما لا يدخل تحت الوصف ولا يقاس ، ومنه يعلم أن ذلك الوجه أرجح من جعل { لَوْ تَزَيَّلُواْ } بمنزلة التكرار للتطرية فتطرية الجواب وتقويته أولى وأوفق لمقتضى المقام ، واختار الطيبي الأول أيضاً معللاً له بأنه حينئذٍ يقرب من باب الطرد والعكس لأن التقدير لولا وجود مؤمنين مختلطين بالمشركين غير متميزين منهم لوقع ما كان جزاء لكفرهم وصدهم ولو حصل التمييز وارتفع الاختلاط لحصل التعذيب ، ثم إن تقدير الجواب ما تقدم عند القائلين بالحذف هو الذي ذهب إليه كثير ، وجوز بعضهم تقديره لعجل لهم ما يستحقون وجعل قوله تعالى : { هُمُ الذين كَفَرُواْ } الخ فكأنه قيل : هم الذين كفروا واستحقوا التعجيل في إهلاكهم ولولا رجال مؤمنون الخ لعجل لهم ذلك وهو أيضاً أولى من حديث التكرار ، وقرأ ابن أبي عبلة . وابن مقسم . وأبو حيوة . وابن عون { لَوْ } على وزن تفاعلوا .
وفي الآية على ما قال الكيا دليل على أنه لا يجوز خرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسرى من المسلمين وكذلك رمى الحصون إذا كانوا بها والكفار إذا تترسوا بهم ، وفيه كلام في كتب الفروع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال: {هم الذين كفروا} يعني كفار مكة {وصدوكم عن المسجد الحرام} أن تطوفوا به {و} صدوا {والهدى} في عمرتكم يوم الحديبية {معكوفا} يعني محبوسا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في عمرته مائة بدنة، ويقال: ستين بدنة، فمنعوه {أن يبلغ} الهدي {محله} يعني منحره.
ثم قال: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم} أنهم مؤمنون {أن تطئوهم} بالقتل بغير علم تعلمونه منهم {فتصيبكم منهم معرة بغير علم} يعني فينالكم من قتلهم عنت، فيها تقديم، لأدخلكم من عامكم هذا مكة {ليدخل} لكي يدخل {الله في رحمته من يشاء} منهم عياش بن أبي ربيعة، وأبو جندل بن سهيل بن عمرو... كلهم من قريش، وعبد الله بن أسد الثقفي. يقول: {لو تزيلوا} يقول: لو اعتزل المؤمنون الذين بمكة من كفارهم {لعذبنا الذين كفروا منهم} يعني كفار مكة {عذابا أليما} يعني وجيعا، وهو القتل بالسيف...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هؤلاء المشركون من قريش هم الذين جحدوا توحيد الله، وصدّوكم أيها المؤمنون بالله عن دخول المسجد الحرام، وصدّوا" الهَدي معكوفا": يقول: محبوسا عن أن يبلغ مَحِلّه...
وعنى بقوله تعالى ذكره: "أنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ "أن يبلغ محلّ نحره، وذلك دخول الحرم، والموضع الذي إذا صار إليه حلّ نحره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سَفرته تلك سبعين بدنة...
وأقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معتمرين في ذي القعدة، ومعهم الهدي، حتى إذا كانوا بالحُديبية، صدّهم المشركون، فصالحهم نبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم على أن يرجع من عامه ذلك، ثم يرجع من العام المقبل، فيكون بمكة ثلاث ليال، ولا يدخلها إلا بسلاح الراكب، ولا يخرج بأحد من أهلها، فنحروا الهدي، وحلقوا، وقصّروا، حتى إذا كان من العام المقبل، أقبل نبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة معتمرين في ذي القعدة، فأقام بها ثلاث ليال، وكان المشركون قد فجروا عليه حين ردّوه، فأقصه الله منهم فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردّوه فيه، فأنزل الله "الشّهْرُ الْحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ والحُرُماتُ قِصَاصٌ"...
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهريّ، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، قال: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم زمن الحُديبية في بضع عشرة مئة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحُلَيْفة قلّد الهدي وأشعره، وأحرم بالعمرة، وبعث بين يديه عينا له من خُزاعة يخبره عن قريش، وسار النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من قُعَيقعان، أتاه عينه الخزاعيّ، فقال: إني تركت كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشِيرُوا عَليّ، أتَرَوْنَ أنْ نَمِيلَ على ذَرَارِي هَؤُلاءِ الّذِينَ أعانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ، فإنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْزُونِين وإنْ لحّوا تَكنْ عُنُقا قَطَعَها اللّهُ؟ أمْ تَرَوْنَ أنّا نَؤُمّ البَيْتَ، فمَنْ صَدّنا عَنْهُ قاتَلْناهُ؟» فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله: إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فَروّحُوا إذًا» وكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قطّ كان أكثر مُشاورة لأصحابه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ خالِدَ بنَ الوَلِيدِ بالغَمِيم في خَيْل لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً، فخُذُوا ذَاتَ اليْمِينِ»، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بُقْترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية التي يُهبْط عليهم منها، بركت به راحلته فقال الناس: حَلْ حَل، فقال: ما حَلْ؟ فقالوا: خَلأَتِ القَصْواء، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما خَلأَتْ وَما ذَاكَ لَهَا بخُلُقٍ، ولَكِنّها حَبَسَها حابِسُ الفِيلِ»، ثم قال: «والّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسألُونِي خُطّةً يُعَظّمُونَ بها حُرُماتِ اللّهِ إلاّ أعْطَيْتُهُم إيّاها»، ثم زُجِرت فوثبت فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحُديبية على ثمد قليل الماء، إنما يتبرّضه الناس تبرّضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشُكِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فنزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالرّيّ حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك جاء بُدَيل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خُزاعة، وكانوا عَيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لُؤَيّ، وعامر بن لُؤَيّ، قد نزلوا أعداد مياه الحُديبية معهم العوْذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّا لَمْ نأْتِ لِقِتال أَحَدٍ، وَلَكِنّا جِئْنا مُعْتَمِرِينَ، وإنّ قُرَيْشا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الحَرْبُ، وأَضَرّتْ بِهمْ، فإنْ شاؤوُا مادَدْناهُمْ مُدّةً، ويُخْلُوا بَيْنِي وَبَينَ النّاسِ، فإنْ أظْهَرْ فإنْ شاؤوا أن يَدْخُلُوا فِيما دَخَلَ فِيهِ النّاسُ فَعَلُوا، وَإلاّ فَقَدْ جَمّوا وَإنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالّذي نَفْسي بِيَدِهِ لأَقُاتِلَنّهُمْ عَلى أمْرِي هَذَا حتى تَنْفَرِدَ سالِفَتِي، أوْ لَيُنْفِذَن اللّهُ أمْرَهُ» فقال بديل: سنبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا، فقال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا قال سفهاؤهم: لا حاجة لنا في أن تحدّثنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم هات ما سمعته يقول: قال سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام عُروة بن مسعود الثقفي، فقال: أيْ قوم، ألستم بالولد؟ قالوا: بلى أو لست بالوالد؟ قالوا: بلى قال: فهل أنتم تتهموني؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا عليّ جئتكم بأهلي وَولدِي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى قال: فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته فقالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوا من مقالته لبُديل فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت قومك، فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك، وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأوباشا من الناس خليقا أن يفرّوا ويدعوك، فقال أبو بكر: امصصْ بظر اللات، واللاتُ: طاغية ثقيف الذي كانوا يعبدون، أنحن نفرّ وندعه؟ فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر، فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه السيف، وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنصل السيف، وقال: أخّر يدك عن لحيته، فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، قال: أي غُدَرُ أو لست أسعى في غدرتك. وكان المُغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أمّا الإسْلامُ فَقَدْ قَبِلْناهُ، وأمّا المَالُ فإنّه مالُ غَدْرٍ لا حاجَةَ لَنا فِيهِ». وإن عُروة جعل يرمق أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بعينه، فوالله إن تنخم النبيّ صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له، فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشيّ، والله ما رأيت مَلِكا قطّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته فلما أشرف على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا فُلانٌ، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له»، فبعثت له، واستقبله قوم يلبون فلما رأى ذلك قال سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فقام رجل منهم يقال له مِكْرز بن حفص، فقال: دعوني آته، فقالوا ائته، فلما أشرف على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا مِكْرِز بْنُ حَفْصٍ، وَهُوَ رَجُلٌ فاجِرٌ» فجاء فجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه، إذ جاء سُهَيل بن عمرو، قال أيوب، قال عكرِمة: إنه لما جاء سُهَيل، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قد سهل لكم من أمركم». قال الزهري. فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات نكتب بيننا وبينك كتابا فدعا الكاتب فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبْ: بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ»، فقال: ما الرحمن؟ فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبْ: باسْمِكَ اللّهُمّ» ثم قال: «اكْتُبْ: هَذَا ما قاضَى عَلَيْهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ االلّهِ»، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وَاللّهِ إنّي لَرَسُولُ اللّهِ وَإنْ كَذّبْتُمُوني، ولَكِنِ اكْتُبْ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ» قال الزهري: وذلك لقوله: «وَاللّهِ لا يَسأَلُوني خُطّةً يُعَظّمُونَ بِها حُرُماتِ اللّهِ إلاّ أعْطَيْتُهُمْ إيّاها» فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «عَلى أنْ تُخَلّوا بَيْنَنا وَبَينَ البَيْتِ، فَنَطُوفُ بِهِ» قال سُهيل: والله لا تتحدّث العرب أُنا أُخِذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل، فكتب فقال سهيل، وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، فقال المسلمون: سبحان الله، وكيف يُرَدّ إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك، إذا جاء أبو جَنْدل بن سُهيل بن عمرو يوسُف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أوّل من أقاضيك عليه أن تردّه إلينا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فَأَجِرْهُ لي»، فقال: ما أنا بمجيره لك، قال: «بلى فافعل»، قال: ما أنا بفاعل قال صاحبه مِكْرزٍ وسهيل إلى جنبه: قد أجرناه لك فقال أبو جندل أي معاشر المسلمين، أأُردّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ كان قد عُذّب عذابا شديدا في الله.
قال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذٍ، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: «بلى»، قلت: فلِم نعطَى الدنية في ديننا إذن؟ قال: «إنّي رَسُولُ اللّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ ناصِري»، قلت: ألست تحدّثنا أنا سنأتي البيت، فنطوف به؟ قال: «بَلى»، قال: «فأخبرتك أنك تأتيه العام»؟ قلت: لا قال: «فإنّكَ آتِيهِ وَمُتَطَوّفٌ به» قال: ثم أتيت أبا بكر، فقلت: أليس هذا نبيّ الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطَى الدنية في ديننا إذا؟ قال أيها الرجل إنه رسول الله، وليس يعصِي ربه، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحقّ قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومتطوّف به. قال الزُهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً فلما فرغ من قصته، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قُومُوا فانْحَرُوا ثُمّ احْلِقُوا»، قال: فوالله ما قام منا رجل حتى قال ذلك ثلاث مرّات فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أمّ سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أمّ سلمة: يا رسول الله أتحبّ ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحرُ بُدْنَك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم كلمة، حتى نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما... ثم رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير، رجل من قريش، وهو مسلم، فأرسل في طلبه رجلان، فقالا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به، حتى إذا بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فاستله الاَخر فقال: والله إنه لجيد، لقد جربت به وجربت فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه، فضربه به حتى برد وفرّ الاَخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «رأى هَذَا ذُعْرا»، فقال: والله قتل صاحبي، وإني والله لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: قد والله أوفى الله ذمتك ورددتني إليهم، ثم أغاثني الله منهم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ امّهِ مِسْعَرُ حَرْب لَوْ كانَ لَهُ أحَدٌ» فلما سمع عرف أنه سيردّه إليهم قال: فخرج حتى أتى سيف البحر، وتفلّت أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لهم فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يناشدونه الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن فأنزل الله "وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ" حتى بلغ "حميَةَ الجَاهِليّةِ" وكانت حميتهم أنهم لم يقرّوا أنه نبيّ، ولم يقرّوا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت...
وقوله: "وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتَ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أنْ تَطُئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِنْهُمْ مَعَرّةٌ بغَيرِ عِلْمٍ" يقول تعالى ذكره: ولولا رجال من أهل الإيمان ونساء منهم أيها المؤمنون بالله أن تطئوهم بخيلكم ورجلكم لم تعلموهم بمكة، وقد حبسهم المشركون بها عنكم، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم فتقتلوهم...
واختلف أهل التأويل في المعرة التي عناها الله في هذا الموضع؛
وقال آخرون: عنى بها غرم الدية...
والمعرّة: هي المفعلة من العرّ، وهو الجرب. وإنما المعنى: فتصيبكم من قبلهم معرّة تعرّون بها، يلزمكم من أجلها كفّارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة، من أطاق ذلك، ومن لم يطق فصيام شهرين.
وإنما اخترت هذا القول دون القول الذي قاله ابن إسحاق، لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها، ولم يكن قاتله علم إيمانه الكفارة دون الدية، فقال: "وإنْ كانَ مِنْ قَوْم عَدُوَ لَكُمْ وهُوَ مُؤْمِنٌ، فَتَحْرِيرُ رقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ" لم يوجب على قاتله خطأ ديته، فلذلك قلنا: عنى بالمعرّة في هذا الموضع الكفارة، وأن من قوله: "أنْ تَطَئُوهُمْ" في موضع رفع ردّا على الرجال، لأن معنى الكلام: ولولا أن تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم، فتصيبكم منهم معرّة بغير علم لأذن الله لكم أيها المؤمنون في دخول مكة، ولكنه حال بينكم وبين ذلك "لِيُدْخِلَ اللّهُ في رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ" يقول: ليدخل في الإسلام من أهل مكة من يشاء قبل أن تدخلوها، وحذف جواب لولا استغناء بدلالة الكلام عليه.
وقوله: "لَوْ تَزَيّلوا" يقول: لو تميز الذين في مشركي مكة من الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات الذين لم تعلموهم منهم، ففارقوهم وخرجوا من بين أظهرهم "لَعَذّبْنا الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُم عَذَابا ألِيما" يقول: لقتلنا من بقي فيها بالسيف، أو لأهلكناهم ببعض ما يؤلمهم من عذابنا العاجل...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} تَفْضيلٌ لِلصَّحَابَةِ، وَإِخْبَارٌ عَنْ صِفَتِهِمْ الْكَرِيمَةِ من الْعِفَّةِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَالْعِصْمَةِ عَنْ التَّعَدِّي، حَتَّى إنَّهُمْ لَوْ أَصَابُوا من أُولَئِكَ أَحَدًا لَكَانَ من غَيْرِ قَصْدٍ، وَهَذَا كَمَا وُصِفَتْ النَّمْلَةُ عَنْ جُنْدِ سُلَيْمَانَ فِي قَوْلِهَا: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ...
{هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله}. إشارة إلى أن الكف لم يكن لأمر فيهم لأنهم كفروا وصدوا وأحصروا، وكل ذلك يقتضي قتالهم، فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا، ولم يبق بينهما خلاف واصطلحوا، ولم يبق بينهما نزاع، بل الاختلاف باق والنزاع مستمر، لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوا فازدادوا كفرا وعداوة، وإنما ذلك للرجال المؤمنين والنساء المؤمنات... {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم}. وصف الرجال والنساء، يعني لولا رجال ونساء يؤمنون غير معلومين...
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
والوطء عبارة عن الإيقاع والإبادة...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
والوَطْءُ هنا: الإهلاك بالسيف وغيره... ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرٍ"...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{هم} أي أهل مكة ومن- لافهم {الذين كفروا} أي أوغلوا في هذا الوصف بجميع بواطنهم وتمام ظواهرهم {وصدوكم} زيادة على كفرهم في عمرة الحديبية هذه {عن المسجد الحرام} أي مكة، ونفس المسجد الحرام، والكعبة، للإخلال بما أنتم فيه من شعائر الإحرام بالعمرة -{والهدي} أي وصدوا ما أهديتموه إلى مكة المشرفة لتذبحوه بها وتفرقوه على الفقراء...
{معكوفاً} أي حال كونه مجموعاً محبوساً مع رعيكم له وإصلاحه لما أهدى لأجله {أن يبلغ محله} أي الموضع الذي هو أولى المواضع لنحره، وهو الذي إذا أطلق انصرف الذهن إليه، وهو في العمرة المروة، ويجوز الذبح في الحج والعمرة في أي موضع كان من الحرم...
{ولولا رجال} أي مقيمون بين أظهر الكفار بمكة {مؤمنون} أي عريقون في الإيمان فكانوا لذلك أهلاً للوصف بالرجولية {ونساء مؤمنات} أي- كذلك حبس الكل عن الهجرة العذر لأن الكفار لكثرتهم استضعفوهم فمنعوهم الهجرة، على أن ذلك شامل لمن جبله الله على الخير وعلم منه الإيمان وإن كان في ذلك الوقت مشركاً {لم تعلموهم} أي لم يحط علمكم بهم من جميع الوجوه لتميزوهم بأعيانهم عن المشركين لأنهم ليس لهم قوة التمييز زمنهم بأنفسهم وأنتم لا تعرفون أماكنهم لتعاملوهم بما هم له أهل ولا سيما في حال الحرب والطعن والضرب، ثم أبدل من "الرجال والنساء " قوله: {أن تطؤوهم} أي تؤذوهم بالقتل أو ما يقاربه من الجراح والضرب والنهب ونحوه من الوطء الذي هو الإيقاع بالحرب...
{فتصيبكم} أي فيتسبب عن هذا الوطء أن يصيبكم {منهم} أي من جهتهم وبسببهم {معرة} أي مكروه وأذى هو كالحرب في انتشاره وأذاه، وإثم وخيانة بقتال دون إذن خاص، وبعدم الإمعان في البحث، وغرم وكفارة ودية وتأسف وتعيير ممن لا علم له...
. {بغير علم} أي بأنهم من المؤمنين. ولما دل السياق على أن جواب " لولا " محذوف تقديره: لسلطكم عليهم وما كف أيديكم عنهم، ولكنه علم ذلك، وعلم أنه سيؤمن ناس من المشركين فمن عليكم بأن رفع حرج إصابتهم بغير علم عنكم، وسبب لكم أسباب الفتح الذي كان يتوقع بسبب تسليطكم عليهم بأمر سهل، وكف أيديكم ولم يسلطكم عليه {ليدخل الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {في رحمته} أي إكرامه وإنعامه {من يشاء} من المشركين بأن يعطفهم إلى الإسلام، ومن المؤمنين بأن يستنقذهم منهم على أرفق وجه، ولما كان ذلك، أنتج قوله تعالى: {لو تزيلوا} أي تفرقوا فزال أحد الفريقين عن الآخر زوالاً عظيماً بحيث لا يختلط صنف بغيره فيؤمن وطء المؤمنين له بغير علم {لعذبنا} أي بأيديكم بتسليطنا...
{الذين كفروا} أي أوقعوا ستر الإيمان. ولما كان هذا عاماً لجميع من اتصف بالكفر من أهل الأرض، صرح بما دل عليه السياق فقال: {منهم} أي الفريقين وهم الصادون {عذاباً أليماً} أي شديد الإيجاع بأيديكم أو من عندنا لنوصلكم إلى قصدكم من الاعتمار والظهر على الكفار...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(هم الذين كفروا).. يسجله عليهم كأنهم متفردون به، عريقون في النسبة إليه، فهم أكره شيء إلى الله الذي يكره الكفر والكافرين! كذلك يسجل عليهم فعلهم الكريه الآخر، وهو صدهم للمؤمنين عن المسجد الحرام، وصد الهدي وتركه محبوسا عن الوصول إلى محل ذبحه المشروع: (وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله).. وهي كبيرة في الجاهلية وفي الإسلام. كبيرة في الأديان كلها التي يعرفونها في الجزيرة من لدن أبيهم إبراهيم. كريهة في عرفهم وفي عقيدتهم وفي عقيدة المؤمنين.. فلم يكن إذن كف الله للمؤمنين عنهم بقيا عليهم لأن جرمهم صغير. كلا! إنما كان ذلك لحكمة أخرى يتلطف الله سبحانه فيكشف عنها للمؤمنين: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم، أن تطؤوهم، فتصيبكم منهم معرة بغير علم..) فلقد كان هنالك بعض المستضعفين من المسلمين في مكة لم يهاجروا، ولم يعلنوا إسلامهم تقية في وسط المشركين. ولو دارت الحرب، وهاجم المسلمون مكة، وهم لا يعرفون أشخاصهم، فربما وطؤوهم وداسوهم وقتلوهم. فيقال: إن المسلمين يقتلون المسلمين! ويلزمون بدياتهم حين يتبين أنهم قتلوا خطأ وهم مسلمون.. ثم هنالك حكمة أخرى وهي أن الله يعلم أن من بين الكافرين الذين صدوهم عن المسجد الحرام، من قسمت له الهداية، ومن قدر له الله الدخول في رحمته، بما يعلمه من طبيعته وحقيقته؛ ولو تميز هؤلاء وهؤلاء لأذن الله للمسلمين في القتال، ولعذب الكافرين العذاب الأليم: (ليدخل الله في رحمته من يشاء. لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما).. وهكذا يكشف الله للجماعة المختارة الفريدة السعيدة عن جانب من حكمته المغيبة وراء تقديره وتدبيره.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وهذه الآية تشير إلى طائفة (من الرجال والنساء) المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام في مكّة ولم يهاجروا إلى المدينة لأسباب خاصة. فلو قاتل المسلمون أهل مكّة لأوقعوا أرواح هؤلاء المستضعفين في خطر ولامتدت ألسنة المشركين بالقول: إنّ جنود الإسلام لم يرحموا لا أعداءهم ومخالفيهم ولا أتباعهم ومؤالفيهم، وهذا عيب وعار كبير! وقال بعضهم أيضاً، إنّ المراد من هذا العيب لزوم الكفارة ودية قتل الخطأ، لكنّ المعنى الأوّل أكثر مناسبةً ظاهراً...