ويمضي في وصف الذين كفروا . وصف نفوسهم من الداخل . بعد تسجيل صفتهم وعملهم الظاهر :
( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ) . .
حمية لا لعقيدة ولا لمنهج . إنما هي حمية الكبر والفخر والبطر والتعنت . الحمية التي جعلتهم يقفون في وجه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه ، يمنعونهم من المسجد الحرام ، ويحبسون الهدي الذي ساقوه ، أن يبلغ محله الذي ينحر فيه . مخالفين بذلك عن كل عرف وعن كل عقيدة . كي لا تقول العرب ، إنه دخلها عليهم عنوة . ففي سبيل هذه النعرة الجاهلية يرتكبون هذه الكبيرة الكريهة في كل عرف ودين ؛ وينتهكون حرمة البيت الحرام الذي يعيشون على حساب قداسته ؛ وينتهكون حرمة الأشهر الحرم التي لم تنتهك في جاهلية ولا إسلام ! وهي الحمية التي بدت في تجبيههم لكل من أشار عليهم - أول الأمر - بخطة مسالمة ، وعاب عليهم صد محمد ومن معه عن بيت الله الحرام . وهي كذلك التي تبدت في رد سهيل بن عمرو لاسم الرحمن الرحيم ، ولصفة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في أثناء الكتابة . وهي كلها تنبع من تلك الجاهلية المتعجرفة المتعنتة بغير حق .
وقد جعل الله الحمية في نفوسهم على هذا النحو الجاهلي ، لما يعلمه في نفوسهم من جفوة عن الحق والخضوع له . فأما المؤمنون فحماهم من هذه الحمية . وأحل محلها السكينة ، والتقوى :
( فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين . وألزمهم كلمة التقوى . وكانوا أحق بها وأهلها ) . .
والسكينة الوقورة الهادئة ، كالتقوى المتحرجة المتواضعة كلتاهما تليق بالقلب المؤمن الموصول بربه ، الساكن بهذه الصلة . المطمئن بما فيه من ثقة . المراقب لربه في كل خالجة وكل حركة ، فلا يتبطر ولا يطغى ؛ ولا يغضب لذاته ، إنما يغضب لربه ودينه . فإذا أمر أن يسكن ويهدأ خشع وأطاع . في رضى وطمأنينة .
ومن ثم كان المؤمنون أحق بكلمة التقوى ، وكانوا أهلها . وهذا ثناء آخر من ربهم عليهم . إلى جانب الامتنان عليهم بما أنزل على قلوبهم من سكينة ، وما أودع فيها من تقوى . فهم قد استحقوها في ميزان الله ، وبشهادته ؛ وهو تكريم بعد تكريم ، صادر عن علم وتقدير :
الحمية : الأنَفَة ، والعصبيّة . وحمية الجاهلية : حمية في غير موضعها لا يؤيدها دليل ولا برهان .
كلمة التقوى : هي لا اله إلا الله ، والسير على هدى الإسلام .
فهؤلاء قد جعلوا في قلوبهم أنَفَة الجاهلية ، لذا أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وألزمهم كلمة التقوى ( يعني العملَ بالتقوى ) وضبْط النفس ، فقبلوا الصلح في الحديبية على الرغم من كبرياء المشركين وحَمِيّتهم وعتوّهم .
{ إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ } منصوب باذكر على المفعولية أو بعذبنا على الظرفية أو بصدوكم كذلك ، وقيل : بمضمر هو أحسن الله تعالى إليكم . وأياً ما كان فالذين فاعل { جَعَلَ } ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة وتعليل الحكم به ، والجعل إما بمعنى الإلقاء فقوله تعالى : { فِى قُلُوبِهِمُ الحمية } متعلق به أو بمعنى التصيير فهو متعلق بمحذوف هو مفعول ثان له أي جعلوا الحمية راسخة في قلوبهم ولكونها مكتسبة لهم من وجه نسب جعلها إليهم ، وقال النيسابوري : يجوز أن يكون فاعل { جَعَلَ } ضمير الله تعالى و { فِى قُلُوبِهِمْ } بيان لمكان الجعل ومآل المعنى إذ جعل الله في قلوبهم الذين كفروا الحمية وهو كما ترى ، والحمية الآنفة يقال : حميت عن كذا حمية إذا أنفت منه وداخلك عار منه .
وقال الراغب : عبر عن القوة الغضبية إذا ثارت وكثرت بالحمية فقيل : حميت على فلان أي غضبت عليه ، وقوله تعالى : { حَمِيَّةَ الجاهلية } بدل من الحمية أي حمية الملة الجاهلية أو الحمية الناشئة من الجاهلية لأنها بغير حجة وفي غير موضعها ، وقوله تعالى : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين } عطف على { جَعَلَ } على تقدير جعل { إِذْ } معمولاً لأذكر ، والمراد تذكير حسن صنيع الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بتوفيق الله تعالى وسوء صنيع المشركين وعلى ما يدل عليه الجملة الامتناعية على تقدير جعلها طرفاً لعذبنا كأنه قيل : فلم يتزيلوا فلم نعذب فأنزل الخ ، وعلى مضمر عامل فيها على الوجه الأخير المحكي ويكون هذا كالتفسير لذاك ، وأما على جعلها ظرفاً لصدوكم فقيل : العطف على { جَعَلَ } وقيل : على { صَدُّوكُمْ } وهو نظير الطائر فيغضب زيد الذباب ؛ والأولى من هذه الأوجه لا يخفى ، والسكينة الاطمئنان والوقار ، روى غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بمن معه إلى الحديبية حتى إذا كان بذي الحليفة قلد الهدى وأشعره وأحرم بالعمرة وبعث بين يديه عيناً من خزاعة يخبره عن قريش وسار عليه الصلاة والسلام حتى كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتاه عينه فقال : إن قريشاً جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فاستشار الناس في الإغارة على ذراري من أعانهم فقال أبو بكر : الله تعالى ورسوله أعلم يا نبي الله إنما جئنا معتمرين ولم نجيء لقتال أحد ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه فقال صلى الله عليه وسلم : امضوا على اسم الله فسار حتى نزل بأقصى الحديبية فجاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه فقال له إني قد تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي نزلوا قريباً معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال عليه الصلاة والسلام : إنا لم نجيء لقتال أحد ولكن معتمرين وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا وأن أظهرني الله تعالى عليهم دخلوا في الإسلام وافرين وإن لم يفعلوا قاتلتهم وبهم قوة فما تظن قريش فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله تعالى به حتى يظهره الله تعالى أو تنفرد هذه السالفة فقال بديل : سأبلغهم ما تقول فبلغهم فقال عروة بن مسعود الثقفي لهم : دعوني آته فأتاه عليه الصلاة والسلام فقال له نحو ما قال لبديل وجرى من الكلام ما جرى ورأى من احترام الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم إياه ما رأى فرجع إلى أصحابه فأخبرهم بذلك وقال لهم : إنه قد عرض عليكم خطة رشد فأقبلوها فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال عليه الصلاة والسلام : هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت واستقبله القوم يلبون فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت فرجع وأخبر أصحابه فقال رجل يقال له مكرز بن حفص : دعوني آته فلما أشرف قال عليه الصلاة والسلام : هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي فقال صلى الله عليه وسلم : قد سهل لكم من أمركم وكان قد بعثه قريش وقالوا له : ائت محمداً فصالحه ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبداً فلما انتهى إليه عليه الصلاة والسلام تكلم فأطال وانتهى الأمر إلى الصلح وكتابة كتاب في ذلك فدعا النبي صلى الله عليه وسلم علياً كرم الله تعالى وجهه فقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل : لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اكتب باسمك اللهم فكتبها ثم قال : اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو فقال سهيل : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فقال عليه الصلاة والسلام : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو صلحاً على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا أسلال ولا أغلال وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه وأن محمداً يرجع عن مكة عامه هذا فلا يدخلها وأنه إذا كان عام قابل خرج أهل مكة فدخلها بأصحابه فأقام بها ثلاثاً معه سلاح الراكب السيوف في القرب لا يدخلها بغيرها .
وظاهر هذا الخبر أن سهيلاً لم يرض أن يكتب محمد رسول الله قبل أن يكتب ؛ وجاء في رواية أنه كتب فلم يرض فقال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي كرم الله تعالى وجهه : امحه فقال : ما أنا بالذي امحاه ، وجاء هذا في رواية للبخاري ، ولمسلم وفي رواية للبخاري في المغازي فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، وكذا أخرجه النسائي . وأحمد ولفظه فأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب فكتب مكان رسول الله هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، وتمسك بظاهر هذه الرواية كما في «فتح الباري » أبو الوليد الباجي على أن النبي عليه الصلاة والسلام كتب بعد إن لم يكن يحسن أن يكتب ووافقه على ذلك شيخه أبو ذر الهروي . وأبو الفتح النيسابوري . وآخرون من علماء أفريقية ، والجمهور على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكتب ، وأن قوله : وأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب لبيان أنه عليه الصلاة والسلام احتاج لأن يريه علي كرم الله تعالى وجهه موضع الكلمة التي امتنع من محوها لكونه كان لا يحسن الكتابة ، وقوله : فكتب بتقدير فمحاها فأعاد الكتاب لعلي فكتب أو أطلق فيه كتب على أمر بالكتابة ، وتمام الكلام في محله فكانت حميتهم على ما في «الدر المنثور » عن جماعة أنهم لم يقروا أنه صلى الله عليه وسلم رسول ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بين المسلمين والبيت وقدهم المؤمنون لذلك أن يبطشوا بهم فأنزل الله تعالى سكينته عليهم فتوقروا وحلموا . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في حمية الجاهلية : حمت قريش أن يدخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لا يدخلها علينا أبداً ، وقال ابن بحر : كما في «البحر » حميتهم عصبيتهم لآلهتهم والانفة أن يعبدوا غيرها ، وفي توسيط علي بين الرسول والمؤمنين إيماءً إلى أنه سبحانه أنزل على كل سكينة لائقة به .
ووجه تقديم الإنزال على الرسول عليه الصلاة والسلام لا يخفى ؛ وقال الإمام : في هذه الآية لطائف معنوية وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين المؤمنين والكافرين حيث باين بين الفاعلين إذ فاعل { جَعَلَ } هو الكفار وفاعل { أَنَزلَ } هو الله تعالى ، وبين المفعولين إذ تلك حمية وهذه سكينة .
وبين الإضافتين إضافة الحمية إلى الجاهلية وإضافة السكينة إليه تعالى ، وبين الفعلين { جَعَلَ . وَأَنزَلَ } فالحمية مجعولة في الحال كالعرض الذي لا يبقى والسكينة كالمحفوظة في خزانة الرحمة فأنزلها والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحاً بالإضافة إلى الجاهلية والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسناً بإضافتها إلى الله عز وجل ، والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة والمجازاة تقول : أكرمني زيد فأكرمته فيدل على أن إنزال السيكنة لجعلهم الحمية في قلوبهم حتى أن المؤمنين لم يغضبوا ولم ينهزموا بل صبروا ، وهو بعيد في العادة فهو من فضل الله تعالى انتهى وهو مما لا بأس به { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } هي لا إله إلا الله كما أخرج ذلك الترمذي . وعبد الله بن أحمد . والدارقطني . وغيرهم عن أبي بن كعب مرفوعاً وكما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة . وسلمة بن الأكوع كذلك ؛ وأخرج أحمد . وابن حبان . والحاكم عن حمران أن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال : «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقاً من قلبه إلا حرم على النار فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : أنا أحدثكم ما هي كلمة الإخلاص التي ألزمها الله سبحانه محمداً وأصحابه وهي كلمة التقوى التي ألاص عليها نبي الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله » وروي ذلك أيضاً عن علي كرم الله تعالى وجهه على ما نقل أبو حيان . وابن عمر . وابن عباس . وعكرمة . ومجاهد . والحسن . وقتادة . وسعيد بن جبير في آخرين ، وأخرج ذلك عبد بن حميد . وابن جرير عن عطاء الخراساني بزيادة محمد رسول الله ، وأضيفت إلى التقوى لأنها بها يتقي الشرك ومن هنا قال ابن عباس فيما أخرجه ابن المنذر . وغيره : هي رأس كل تقوى ، وظاهر كلام عمر رضي الله تعالى عنه أن ضمير هم في { ألزمهم } للرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه وإلزامهم إياها بالحكم والأمر بها ، وأخرج عبد الرزاق . والحاكم وصححه . والبيهقي في الأسماء والصفات . وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : هي لا إله إلا الله والله أكبر ، وروي عن ابن عمر أيضاً نحوه ؛ وأخرج ابن أبي حاتم . والدارقطني في الإفراد عن المسور بن مخرمة قال : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وعن عطاء بن أبي رباح . ومجاهد أيضاً أنها لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، وأخرج عبد بن حميد .
وابن جرير . وغيرهما عن الزهري قال : هي بسم الله الرحمن الرحيم ، وضم بعضهم إلى هذا محمد رسول الله ، والمراد بإلزامهم إياها اختيارها لهم دون من عدل عنها إلى باسمك اللهم ومحمد بن عبد الله ، وقيل : هي الثبات والوفاء بالعهد ، ونسبه الخفاجي إلى الحسن ، وإلزامهم إياه أمرهم به ، وإطلاق الكلمة على الثبات على العهد والوفاء به قيل : لما أن كلا يتوصل به إلى الغرض وهو نظير ما قيل في إطلاق الكلمة على عيسى عليه السلام من أن ذلك لأن كلاً منهما يهتدى به ، وجعلت الإضافة على كونها بمعنى الثبات من باب إضافة السبب إلى المسبب فهي إضافة لأدنى ملابسة ، وجوز أن تكون اختصاصية حقيقية بتقدير مضاف أي كلمة أهل التقوى ، وأريد بالعهد على ما يقتضيه ظاهر سبب النزول عهد الصلح الذي وقع بينه صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة ؛ وقيل : ما يعم ذلك وسائر عهودهم معه عز وجل .
وأنت تعلم أن الوجه المذكور في نفسه غير ظاهر ، ومثله ما قيل : المراد بالكلمة قولهم في الأصلاب : بلى مقرين بوحدانيته جل شأنه ، وبالإلزام الأمر بالثبات والوفاء بها ، وقيل : هي قول المؤمنين سمعاً وطاعة حين يؤمرون أو ينهون ، والظاهر عليه كون الضمير للمؤمنين ، وأرجح الأقوال في هذه الكلمة ما روي مرفوعاً وذهب إليه الجم الغفير ، ولعل ما ذكر في الأخبار السابقة من باب الاكتفاء ، والمراد لا إله إلا الله محمد رسول الله .
{ وَكَانُواْ } عطف على ما تقدم أو حال من المنصوب في { ألزمهم } بتقدير قد أو بدونه والظاهر في الضمير عوده كسابقه كما اقتضاه كلام عمر رضي الله تعالى عنه على الرسول والمؤمنين ، واستظهر بعضهم عوده على المؤمنين وكأنه اعتبر الأول عائداً عليهم أيضاً وهو مما لا بأس فيه ، ولعله اعتبر الأقربية ، فالمعنى وكان المؤمنون في علم الله تعالى { وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا } أي بكلمة التقوى ، وأفعل لزيادة الحقية في نفسها أي متصفين بمزيد استحقاق لها أو على ما هو المشهور فيه والمفضل عليه محذوف أي أحق بها من كفار مكة لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وقيل : من اليهود والنصارى ، وقيل من جميع الأمم لأنهم خير أمة أخرجت للناس .
وحكى المبرد أن الذين كانوا قبلنا لم يكن لأحد منهم أن يقول : لا إله إلا الله في اليوم والليلة إلا مرة واحدة لا يستطيع أن يقولها أكثر من ذلك ، وكان قائلها يمد بها صوته إلى أن ينقطع نفسه تبركاً بذكر الله تعالى ، وقد جعل الله عز وجل لهذه الأمة أن يقولوها متى شاءوا وهو قوله تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } أي ندبهم إلى ذكرها ما استطاعوا وكانوا أحق بها ، وهذا مما لم يثبت ، وجوز الإمام كون التفضيل بالنسبة إلى غير كلمة التقوى أي أحق بها من كلمة غير كلمة تقوى وقال : وهذا كما تقول زيد أحق بالإكرام منه بالإهانة ، وقولك إذا سئل شخص عن زيد بالطب أعلم أو بالفقه : زيد أعلم بالفقه أي من الطب ، وفيه غفلة لا تخفى { وَأَهْلُهَا } أي المستأهل لها وهو أبلغ من الأحق حتى قيل بينه وبين الأحق كما بين الأحق والحق ، وقيل : إن أحقيتهم بها من الكفار تفهم رجحانهم رجحاناً ما عليهم ولا تثبت الأهلية كما إذا اختار الملك اثنين لشغل وكل واحد منهما غير صالح له لكن أحدهما أبعد عن الاستحقاق فيقال للأقرب إليه إذا كان ولا بد فهذا أحق كما يقال : الحبس أهون من القتل ، ولدفع توهم مثل هذا فيما نحن فيه قال سبحانه : { وَأَهْلُهَا } وقيل : أريد أنهم أحق بها في الدنيا وأهلها بالثواب في الآخرة ، وقيل : في الآية تقديم وتأخير والأصل وكانوا أهلها وأحق بها ، وكذلك هي في مصحف الحرث بن سويد صاحب ابن مسعود وهو الذي دفن مصحفه لمخالفته الإمام أيام الحجاج وكان من كبار تابعي الكوفة وثقاتهم ، وقيل : ضمير { كَانُواْ } عائد على كفار مكة أي وكان أولئك الكفار الذين جعلوا في قلوبهم الحمية أحق بكلمة التقوى لأنهم أهل حرم الله تعالى ومنهم رسوله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم إنذارهم لولا ما سلبوا من التوفيق ، وفيه ما فيه سواء رجع ضمير { *ألزمهم } إلى كفار مكة أيضاً أم لا ، وأظن في قائله نزغة رافضية دعته إلى ذلك لكنه لا يتم به غرضه ، وقيل : ضمير { وَلَوْ كَانُواْ } للمؤمنين إلا أن ضميري { بِهَا . وَأَهْلَهَا } للسكينة ، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع ، وقيل : هما لمكة أي وكانوا أحق بمكة أن يدخلوها وأهلها ، وأشعر بذكر مكة ذكر المسجد الحرام في قوله تعالى : { وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } [ الفتح : 25 ] وكذا محل الهدى في قوله سبحانه : { والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25 ] وفيه ما لا يخفى { وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } فيعلم سبحانه حق كل شيء واستئهاله لما يستأهله فيسوق عز وجل الحق إلى مستحقه والمستأهل إلى مستأهله أو فيعلم هذا ويعلم ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إنزال السكينة والرضا بالصلح فيكون تذييلاً لجميع ما تقدم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {إذ جعل الذين كفروا} من أهل مكة {في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عام الحديبية في ذي القعدة معتمرا، ومعه الهدى، فقال كفار مكة: قتل آباءنا وإخواننا، ثم أتانا يدخل علينا في منازلنا ونساءنا، وتقول العرب: إنه دخل على رغم آنافنا، والله لا يدخلها أبدا علينا، فتلك الحمية التي في قلوبهم.
{فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم} يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم {كلمة التقوى} يعني كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله {وكانوا أحق بها} من كفار مكة {و} كانوا {وأهلها} في علم الله عز وجل {وكان الله بكل شيء عليما} بأنهم كانوا أهل التوحيد في علم الله عز وجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"إذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِم الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الجاهِلِيّةِ "حين جعل سُهيل بن عمرو في قلبه الحمية، فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين: بسم الله الرحمن الرحيم، وأن يكتب فيه: محمد رسول الله، وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه ذلك... و«إذ» من قوله: "إذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُوا" من صلة قوله: لعذّبنا. وتأويل الكلام: لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما، حين جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية، والحمية فعيلة من قول القائل: حمى فلان أنفه حمية ومحمية... يحمي: يمنع. وقال "حَمِيّةَ الجاهِلِيّةِ" لأن الذي فعلوا من ذلك كان جميعه من أخلاق أهل الكفر، ولم يكن شيء منه مما أذن الله لهم به، ولا أحد من رسله.
وقوله: "فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعلى المُؤْمِنِينَ" يقول تعالى ذكره فأنزل الله الصبر والطمأنينة والوقار على رسوله وعلى المؤمنين، إذ حمى الذين كفروا حمية الجاهلية، ومنعوهم من الطواف بالبيت، وأبوا أن يكتبوا في الكتاب بينه وبينهم بسم الله الرحمن الرحيم، ومحمد رسول الله. "وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى" يقال: ألزمهم قول لا إله إلا الله التي يتقون بها النار، وأليم العذاب... عن عليّ رضي الله عنه، في قوله: "وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى" قال: لا إله إلاّ الله، والله أكبر...
وقال آخرون: بل: هي كلمة التقوى، الإخلاص... وقال آخرون: هي قوله: بسم الله الرحمن الرحيم...
وقال آخرون: هي قول لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير...
وقوله: "وكانُوا أحَقّ بِها وأهْلَها" يقول تعالى ذكره: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون "أحقّ" بكلمة التقوى من المشركين "وأهلها": يقول: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أهل كلمة التقوى دون المشركين... وقوله: "وكانَ اللّهُ بكُلّ شَيْءٍ عَلِيما" يقول تعالى ذكره: ولم يزل الله بكل شيء ذا علم، لا يخفى عليه شيء هو كائن، ولعلمه أيها الناس بما يحدث من دخولكم مكة وبها رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات لم تعلموهم، لم يأذن لكم بدخولكم مكة في سفرتكم هذه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها} يحتمل هذا وجوها:
أحدها: ألزمهم كلمة بها يتّقون النار.
والثالث: يحتمل قوله: {وألزمهم} إظهار كلمة التقوى حتى تصير ظاهرة في الخلق أبدا إلى يوم القيامة، والله أعلم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: العصبية لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، والأنفة من أن يعبدوا غيرها...
الثاني: أنفتهم من الإقرار له بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم على عادته في الفاتحة، ومنعهم له من دخول مكة...
ويحتمل ثالثاً: هو الاقتداء بآبائهم، وألا يخالفوا لهم عادة، ولا يلتزموا لغيرهم طاعة كما أخبر الله عنهم...
{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤمِنِينَ} يعني الصبر الذي صبروا والإجابة إلى ما سألوا، والصلح الذي عقدوه حتى عاد إليهم في مثل ذلك الشهر من السنة الثانية قاضياً لعمرته ظافراً بطلبته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد...
قال في حق الكافر (جعل) وقال في حق المؤمن (أنزل) ولم يقل خلق ولا جعل سكينته إشارة إلى أن الحمية كانت مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى، وأما السكينة فكانت كالمحفوظة في خزانة الرحمة معدة لعباده فأنزلها.
قال الحمية ثم أضافها بقوله {حمية الجاهلية} لأن الحمية في نفسها صفة مذمومة وبالإضافة إلى الجاهلية تزداد قبحا، وللحمية في القبح درجة لا يعتبر معها قبح القبائح كالمضاف إلى الجاهلية. وأما السكينة في نفسها وإن كانت حسنة لكن الإضافة إلى الله فيها من الحسن ما لا يبقى معه لحسن اعتبار، فقال {سكينته} اكتفاء بحسن الإضافة...
{وألزمهم كلمة التقوى} فيه وجوه أظهرها أنه قول لا إله إلا الله فإن بها يقع الاتقاء عن الشرك، وقيل هو بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله فإن الكافرين أبوا ذلك والمؤمنون التزموه، وقيل هي الوفاء بالعهد إلى غير ذلك ونحن نوضح فيه ما يترجح بالدليل فنقول {وألزمهم} يحتمل أن يكون عائدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين جميعا يعني ألزم النبي والمؤمنين كلمة التقوى، ويحتمل أن يكون عائدا إلى المؤمنين فحسب...
. {وكانوا أحق بها وأهلها} معناه أنهم كانوا عند الله أكرم الناس فألزموا تقواه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقال سعيد بن جبير: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: لا إله إلا الله والجهاد في سبيله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إذ} أي حين {جعل الذين كفروا} أي ستروا ما تراءى من الحق في مرأى عقولهم {في قلوبهم} أي قلوب أنفسهم {الحمية} أي المنع الشديد والأنفة والإباء الذي هو في شدة حره ونفوذه في أشد الأجسام كالسم والنار...
{حمية الجاهلية} التي مدارها مطلق المنع أي سواء كان بحق أو بباطل، فتمنع من الإذعان للحق، ومبناها التشفي على مقتضى الغضب لغير الله فتوجب تخطي حدود الشرع...
{فأنزل الله} أي الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء بسبب حميتهم {سكينته} أي الشيء اللائق إضافته إليه سبحانه من الفهم عن الله و الروح الموجب لسكون القلب المؤثر للإقدام على العدو والنصر عليه، إنزالاً كائناً {على رسوله} صلى الله عليه وسلم الذي عظمته من عظمته، ففهم عن الله مراده في هذه القضية فجرى على أتم ما يرضيه {وعلى المؤمنين} رضي الله تعالى عنهم العريقين في الإيمان لأنهم أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وأنصار دينه فألزمهم قبول أمره الذي فهمه عن الله وخفي عن أكثرهم حتى فهمتموه- صلى الله عليه وسلم عند نزول سورة الفتح وحماهم عن همزات الشياطين، ولم يدخلهم ما دخل الكفار من الحمية ليقاتلوا غضباً لأنفسهم فيتعدوا حدود الشرع {وألزمهم} أي المؤمنين إلزام إكرام أو تشريف، لا إلزام إهانة وتعنيف {كلمة التقوى} وهي كل قول أو فعل ناشئ عن التقوى وإعلاء كلمة الإخلاص المتقدم في سورة القتال وهي لا إله إلا الله التي هي أحق الحق...
{وكانوا} أي جبلة وطبعاً. ولما كان من الكفار من يستحقها في علم الله فيصير مؤمناً، عبر فأفعل التفضيل فقال تعالى: {أحق بها} أي كلمة التقوى من الكفار والأعراب وغيرهم من جميع الخلق...
{وأهلها} أي ولاتها والملازمون لها ملازمة العشير بعشيره والدائنون لها والآلفون لها... {وكان الله} أي المحيط بالكائنات كلها علماً وقدرة {بكل شيء} من ذلك وغيره {عليماً *} أي محيط العلم الدقيق والجلي...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
{سكينته} أي: الشيء اللائق إضافته إليه سبحانه من الفهم عن الله والروح الموجب لسكون القلب المؤثر للإقدام على العدوّ والنصر عليه إنزالاً كافياً...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
عبر عن القوة الغضبية إذا ثارت وكثرت بالحمية فقيل: حميت على فلان أي غضبت عليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي في وصف الذين كفروا. وصف نفوسهم من الداخل. بعد تسجيل صفتهم وعملهم الظاهر:
(إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)..
حمية لا لعقيدة ولا لمنهج. إنما هي حمية الكبر والفخر والبطر والتعنت. الحمية التي جعلتهم يقفون في وجه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ومن معه، يمنعونهم من المسجد الحرام، ويحبسون الهدي الذي ساقوه، أن يبلغ محله الذي ينحر فيه. مخالفين بذلك عن كل عرف وعن كل عقيدة. كي لا تقول العرب، إنه دخلها عليهم عنوة. ففي سبيل هذه النعرة الجاهلية يرتكبون هذه الكبيرة الكريهة في كل عرف ودين؛ وينتهكون حرمة البيت الحرام الذي يعيشون على حساب قداسته؛ وينتهكون حرمة الأشهر الحرم التي لم تنتهك في جاهلية ولا إسلام! وهي الحمية التي بدت في تجبيههم لكل من أشار عليهم -أول الأمر- بخطة مسالمة، وعاب عليهم صد محمد ومن معه عن بيت الله الحرام. وهي كذلك التي تبدت في رد سهيل بن عمرو لاسم الرحمن الرحيم، ولصفة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في أثناء الكتابة. وهي كلها تنبع من تلك الجاهلية المتعجرفة المتعنتة بغير حق.
وقد جعل الله الحمية في نفوسهم على هذا النحو الجاهلي، لما يعلمه في نفوسهم من جفوة عن الحق والخضوع له. فأما المؤمنون فحماهم من هذه الحمية. وأحل محلها السكينة، والتقوى: (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين. وألزمهم كلمة التقوى. وكانوا أحق بها وأهلها)..
والسكينة الوقورة الهادئة، كالتقوى المتحرجة المتواضعة كلتاهما تليق بالقلب المؤمن الموصول بربه، الساكن بهذه الصلة. المطمئن بما فيه من ثقة. المراقب لربه في كل خالجة وكل حركة، فلا يتبطر ولا يطغى؛ ولا يغضب لذاته، إنما يغضب لربه ودينه. فإذا أمر أن يسكن ويهدأ خشع وأطاع. في رضى وطمأنينة.
ومن ثم كان المؤمنون أحق بكلمة التقوى، وكانوا أهلها. وهذا ثناء آخر من ربهم عليهم. إلى جانب الامتنان عليهم بما أنزل على قلوبهم من سكينة، وما أودع فيها من تقوى. فهم قد استحقوها في ميزان الله، وبشهادته؛ وهو تكريم بعد تكريم، صادر عن علم وتقدير: