في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (4)

ثم أشار إلى حادث وقع من وفد بني تميم حين قدموا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في العام التاسع . الذي سمي " عام الوفود " . . لمجيء وفود العرب من كل مكان بعد فتح مكة ، ودخولهم في الإسلام ، وكانوا أعرابا جفاة ، فنادوا من وراء حجرات أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] المطلة على المسجد النبوي الشريف : يا محمد . اخرج لنا . فكره النبي [ صلى الله عليه وسلم ] هذه الجفوة وهذا الإزعاج . فنزل قوله تعالى :

( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ، والله غفور رحيم ) . .

فوصفهم الله بأن أكثرهم لا يعقلون . وكره إليهم النداء على هذه الصفة المنافية للأدب والتوقير اللائق بشخص النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وحرمة رسول الله القائد والمربي .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (4)

الحجرات : مكان سكن النبي الكريم ، كان لكل زوجة حجرة ، بيت .

من وراء الحجرات : من خارجها .

كان الأعراب ( وهم قريبو عهد بالجاهلية ) أكثرهم جُفَاة يأتون إلى المدينة فيجتمعون عند حجُرات أزواج رسول الله ، وينادونه بأصواتهم المزعجة :

يا محمد ، اخرج إلينا . وكان هذا في العام التاسع من الهجرة وهو عام

« الوفود » لدخول الناس في دين الله أفواجا . فكان ذلك يؤذي النبيَّ الكريم عليه الصلاة والسلام .

فأدّبهم الله بهذا القرآن الكريم ، ووصفهم بأن أكثرهم لا يعقِلون ، ثم بين لهم أن النداء بهذا الجفاء منافٍ للأدب والتوقيرِ اللائق بشخص النبي الكريم ،

 
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (4)

{ إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات } من خارجها خلفها أو قدامها على أن { وَرَاء } من المواراة والاستتار فما استتر عنك فهو وراء خلفاً كان أو قداماً إذا لم تره فإذا رأيته لا يكون وراءك ، فالوارء بالنسبة إلى من في الحجرات ما كان خارجها لتواريه عمن فيها ، وقال بعض أهل اللغة إن وراء من الأضداد فهو مشترك لفظي عليه ومشترك معنوي على الأول وهو الذي ذهب إليه الآمدي . وجماعة .

و { الحجرات } جمع حجرة على وزن فعلة بضم الفاء وسكون العين وهي القطعة من الأرض المحجورة أي الممنوعة عن الدخول فيها بحائط ، وتسمى حظيرة الإبل وهي ما تجمع فيه وتكون محجورة بحطب ونحوه حجرة أيضاً فهي بمعنى اسم المفعول كالغرفة لما يغرف باليد من الماء ، وفي جمعها هنا ثلاثة أوجه ، ضم العين اتباعاً للفاء كقراءة الجمهور ، وفتحها وبه قرأ أبو جعفر . وشيبة ، وتسكينها للتخفيف وبه قرأ ابن أبي عبلة .

وهذه الأوجه جائزة في جمع كل اسم جامد جاء على هذا الومن ، والمراد حجرات نسائه عليه الصلاة والسلام وكانت تسعة لكل منهن حجرة ، وكانت كما أخرج ابن سعد عن عطاء الخراساني من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود . وأخرج البخاري في الأدب . وابن أبي الدنيا . والبيهقي عن داود بن قيس قال : رأيت الحجرات من جريد النخل مغشى من خارج بمسوح الشعر ، وأظن عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت ست أو سبع أذرع ، وأحرز البيت الداخل عشرة أذرع ، وأظن السمك بين الثمان والسبع .

وأخرجوا عن الحسن أنه قال : كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي ، وقد أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام وبكى الناس لذلك ، وقال سعيد بن المسيب يومئذٍ : والله لوددت أنهم تركوها على حالها لينشو أناس من أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها ، وقال نحو ذلك أبو أمامة بن سهل بن حنيف ، وفي ذكر { الحجرات } كناية عن خلوته عليه الصلاة والسلام بنسائه لأنها معدة لها ، ولم يقل : حجرات نسائك ولا حجراتك توقيراً له صلى الله عليه وسلم وتحاشياً عما يوحشه عليه الصلاة والسلام ، ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها فيكون القصد إلى الاستغراق العرفي أي جميع حجرات نسائه صلى الله عليه وسلم أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له عليه الصلاة والسلام على أن الاستغراق إفرادي لا شمولي مجموعي ولا أنه من مقابلة الجمع بالجمع المقتضية لانقسام الآحاد على الآحاد لأن من ناداه صلى الله عليه وسلم من وراء حجرة منها فقد ناداه من وراء الجميع على ما قيل ، وعلى هذا يكون إسناد النداء من إسناد فعل الإبعاض إلى الكل ، وقيل : إن الذي نادى رجل واحد كما هو ظاهر خبر أخرجه الترمذي وحسنه .

وجماعة عن البراء بن عازب ، وما أخرجه أحمد . وابن جرير . وأبو القاسم البغوي . والطبراني . وابن مردويه بسند صحيح من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أخرج إلينا فلم يجبه عليه الصلاة والسلام فقال : يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين فقال : ذاك الله فأنزل الله تعالى { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ } الخ ، وعليه يكون الإسناد إلى الكل لأنهم رضوا بذلك وأمروا به أو لأنه وجد فيما بينهم ، وظاهر الآية أن المنادي جمع وكذا جمع من الأخبار ، وسنذكر إن شاء الله تعالى بعضاً منها ، وحمل { الحجرات } على الجمع الحقيقي هو الظاهر الذي عليه غير واحد من المفسرين ، وجوز كون الحجرة واحدة وهي التي كان فيها الرسول عليه الصلاة والسلام وجمعت إجلالاً له صلى الله عليه وسلم على أسلوب حرمت النساء سواكم ، وأيضاً لأن حجرته عليه الصلاة والسلام لأنها أم الحجرات وأشرفها بمنزلة الكل على نحو أحد الوجهين في قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله } [ البقرة : 114 ] .

وفرق الزمخشري بين { مِن وَرَاء الحجرات } بإثبات { مِنْ } وراء الحجرات بإسقاطها بأنه على الثاني يجوز أن يجمع المنادي والمنادي الوراء ، وعلى الأول لا يجوز ذلك ، وعلله بأن الوراء يصير بدخول من مبتدأ الغاية ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن تكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد . واعترضه في «البحر » بأنه قد صرح الأصحاب في معاني { مِنْ } أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد وأن الشيء الواحد يكون محلاً لهما ونسبوا ذلك إلى سيبويه وقالوا : إن منه قولهم : أخذت الدرهم من زيد فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معاً قالوا : فمن تكون في أكثر المواضع لابتداء الغاية فقط ، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معاً .

وصاحب التقريب بقوله : فيه نظر لأن المبدأ والمنتهى إما المنادى والمنادى على ما هو التحقيق أو الجهة ، فإن كان الأول جاز أن يجمعها الوراء في إثبات { مِنْ } وفي إسقاطها لتغاير المبدأ والمنتهى ، وإن كان الثاني فالجهة إما ذات أجزاء أو عديمتها ، فإن كان الأول جاز أن يجمعهما في إثبات من أيضاً باعتبار أجزاء الجهة ، وإن كان الثاني لم يجز أن يجمعهما لا في إثبات من ولا في إسقاطها لاتحاد المورد .

ورد الأول بأن محل الانتهاء هو المتكلم ليس إلا كما ذكره ابن هشام في «المغني » ، وذكر أن ابن مالك قال : إن { مِنْ } في المثال للمجاوزة ، والثاني غير قادح في الفرق على ما ذكره صاحب الكشف قال : الحاصل أن المبدأ الجهة باعتبار تلبسها بالفاعل لأن حرف الابتداء دخل على الجهة والفعل مما ليست المسافة داخلة في مفهومه فيعتبر الأمران تحقيقاً لمقتضى الفعل والحرف ، ولما أوقع جميع الجهة مبدأ لم يجز أن يكون منتهى سواء كان منقسماً أو لا ، ثم لما كان الوراء مبهماً لم يكن مثل سرت من البصرة إلى جامعها إذ لا يتعين بعضها مبدأ وبعضها منتهى ، على أن ذلك أيضاً إذا أطلق يجب أن يحمل على أن المنتهى غير البصرة ، أما إذا عينت فيجوز مع تجوز والأصل عدمه إلا بدليل ، ثم هذا الجواز فيما كانت النهاية مكاناً أيضاً أما إذا اعتبرت باعتبار التلبس بالمفعول فلا ، وإذا لم يذكر حرف الابتداء لم يؤد هذا المعنى .

فهذا فرق محقق ومنه يظهر أن المذكور في التقريب من النظر غير قادح ، وما ذكر من أن التحقيق أن الفعل يبتدىء من الفاعل وينتهي إلى المفعول ويقع في الظرف وأن { مِن وَرَاء الحجرات } ووراءها كلاهما ظرف كصليت من خلف الإمام وخلفه ومن قبل اليوم وقبله ومعنى الابتداء غير محقق والفرق تعسف ظاهر في أن من زائدة لا فرق بين دخولها وخروجها وهو خلاف الظاهر وإلا لما اختلفوا في زيادتها في الإثبات لشيوع نحو هذا الكلام فيما بينهم ، ومتى لم تكن زائدة فلا بد من الفرق بين الكلامين لاسيما إذا كانا من كلامه عز وجل فتدبر . والتعبير عن النداء بصيغة المضارع مع تقدمه على النزول لاستحضار الصورة الماضية لغرابتها .

والموصول اسم إن ، وجملة قوله تعالى : { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } خبرها وتكرار الإسناد للمبالغة ، والمراد أنهم لا يجرون على مقتضى العقل من مراعاة الأدب لاسيما مع أجل خلق الله تعالى وأعظمهم عنده سبحانه صلى الله عليه وسلم وكثيراً ما ينزل وجود الشيء منزلة عدمه لمقتض ، والحكم على الأكثر دون الكل بذلك لأن منهم من لم يقصد ترك الأدب بل نادى لأمر ما على ما قيل ، وجوز أن يكون المراد بالقلة التي يدل عليها نفي الكثرة العدم فإنه يكنى بها عنه ، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك في صريح القلة لا في المفهوم من نفي الكثرة ، وكان هؤلاء من بني تميم كما صرح به أكثر أهل السير . أخرج ابن إسحاق . وابن مردويه عن ابن عباس قال : قدم وفد بني تميم وهم سبعون رجلاً أو ثمانون رجلاً منهم الزبرقان بن بدر . وعطارد بن حاجب بن زرارة . وقيس بن عاصم . وقيس بن الحرث . وعمرو بن الأهتم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق معهم عيينة بن حصن بن بدر الفزاري وكان يكون في كل سوأة حتى أتوا منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادوه من وراء الحجرات بصوت جاف يا محمد أخرج إلينا ثلاثاً فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد إن مدحنا زين وإن شتمنا شين نحن أكرم العرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذبتم بل مدح الله تعالى الزين وشتمه الشين وأكرم منكم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فقالوا : إنا أتيناك لنفاخرك فذكره بطوله وقال في آخره : فقال التميميون والله إن هذا الرجل لمصنوع له لقد قام خطيبه فكان أخطب من خطيبنا وفاه شاعره فكان أشعر من شاعرنا وفيهم أنزل الله تعالى : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات } من بني تميم { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } هذا في القراءة الأولى .

وذكر ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق الخبر بطوله وعد منهم الأقرع بن حابس وذكر أنه وعيينة شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنيناً والطائف ؛ وأن عمرو بن الأهتم خلفه القوم في ظهرهم وأن خطيبهم عطارد بن حاجب وخطيبه صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس وشاعرهم الزبرقان بن بدر وشاعره عليه الصلاة والسلام حسان بن ثابت وذكر الخطبتين وما قيل من الشعر وأنه لما فرغ حسان قال الأقرع : وأبى أن هذا الرجل لمؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا ولأصواتهم أعلى من أصواتنا ، وأنه لما فرغوا أسلموا وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم وأرسل لعمرو جائزته كالقوم ، وتعقب ابن هشام الشعر بعض التعقب . وفي «البحر » أيضاً ذكر الخبر بطوله مع مخالفة كلية لما ذكره ابن إسحاق ، وفيه أن الأقرع قام بعد أن أنشد الزبرقان ما أنشد وأجابه حسان بما أجاب فقال : إني والله لقد جئت لأمر وقد قلت شعراً فاسمعه فقال :

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا *** إذا خالفونا عند ذكر المكارم

وأنا رؤوس الناس من كل معشر *** وأن ليس في أرض الحجاز كدارم

وأن لنا المرباع في كل غارة *** تكون بنجد أو بأرض التهائم

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان : قم فأجبه فقال :

بني دارم لا تفخروا إن فخركم *** يصير وبالاً عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخرون وأنتم *** لنا خول من بين ظئر وخادم

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد كنت يا أخا دارم غنياً أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد نسوه فكان قوله عليه الصلاة والسلام : أشد عليهم من جميع ما قال حسان ثم رجع حسان إلى شعره فقال :

فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم *** وأموالكم أن يقسموا في المقاسم

فلا تجعلوا لله نداً وأسلموا *** ولا تفخروا عند النبي بدارم

وإلا ورب البيت قد مالت القنا *** على هامكم بالمرهفات الصوارم

/ فقال الأقرع بن حابس : والله ما أدري ما هذا الأمر تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولاً وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً ، ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ما يضرك ما كان قبل هذا انتهى ، وهذا ظاهر في أن إسلام الأقرع يومئذٍ ، ومعلوم أن سنة الوفود سنة تسع والطائف وحنين كانتا قبل ذلك ، وتقدم عن ابن إسحاق أن الأقرع شهدهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوهم منه أنه كان مسلماً إذ ذاك فيتناقض مع هذا بل في أول كلام ابن إسحاق وآخره ما يوهم التناقض ، والمذكور في «الصحاح » أنه وكذا عيينة كان إذ ذاك من المؤلفة قلوبهم .

وقد روى ابن إسحاق نفسه عن محمد بن إبراهيم أن قائلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه يوم قسمة ما أفاء الله تعالى عليه يوم حنين : يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري فقال : أما والذي نفس محمد بيده لجعيل خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع ولكن تألفتهما ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه ، وجاء ما يدل على أنهم من بني تميم مرفوعاً .

أخرج ابن مردويه من طريق يعلى بن الأشدق عن سعد بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ } الخ فقال : هم الجفاة من بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالاً للأعور الدجال لدعوت الله تعالى عليهم أن يهلكهم ، وفي «الصحيحين » ما يشهد بأنهم من أشد الأمة على الدجال وجعله أبو هريرة أحد أسباب حبهم ، وظاهر كثير من الأخبار أن سبب وفودهم المفاخرة ، وقال الواقدي وهو حاطب ليل : إن سببه هو أنهم كانوا قد جهروا السلاح على خزاعة فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن بدر في خمسين ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري فأسر منهم أحد عشر رجلاً وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبياً فقدم رؤساؤهم بسبب أسرائهم ويقال : قدم منهم سبعون أو ثمانون رجلاً في ذلك منهم عطارد . والزبرقان . وقيس بن عاصم . وقيس بن الحرث . ونعيم بن سعد . والأقرع بن حابس . ورياح بن الحرث . وعمرو بن الأهتم فدخلوا المسجد وقد أذن بلال الظهر والناس ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج إليهم فعجل هؤلاء فنادوه من وراء الحجرات فنزل فيهم ما نزل ، ثم ذكر أنه صلى الله عليه وسلم أجازهم كل رجل اثنيت عشرة أوقية وكساء ولعمرو بن الأهتم خمس أواق لحداثة سنه انتهى ، ولعل زيادة جائزته لما نيل منه أيضاً فقد ذكر ابن إسحاق أن عاصم بن قيس كان يبغض عمراً فقال : يا رسول الله إنه قد كان رجل منا في رحالنا وهو غلام حدث وازرى به فقال لما بلغه ذلك يخاطب قيساً :

ظللت مفترش الهلباء تشتمني *** عند الرسول فلم تصدق ولم تصب

سدناكم سؤدداً رهواً وسؤددكم *** باد نواجذه مقع على الذنب

وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنهم ناس من بني العنبر أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من ذراريهم فأقبلوا في فدائهم فقدموا المدينة ودخلوا المسجد وعجلوا أن يخرج إليهم النبي عليه الصلاة والسلام فجعلوا يقولون : يا محمد اخرج إلينا ، وذكر الخفاجي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى قوم من العرب هم بنو العنبر سرية أميرها عيينة بن حصن فهربوا وتركوا النساء والذراري فسباهم وقدم بهم عليه عليه الصلاة والسلام فجاء رجالهم راجين إطلاق الأسارى فنادوا من وراء الحجرات فخرج صلى الله عليه وسلم فأطلق النصف وفادى الباقي ، وظاهر كلامه أنهم ليسوا من بني تميم وإن كانت هذه السرية متحدة مع السرية التي أشار إليها الواقدي فيما تقدم ، ويقال : إن عيينة في الكلامين هو عيينة بن حصن بن بدر إلا أنه نسب هناك إلى جده وهنا إلى أبيه كان ذلك الكلام ظاهراً في أن القوم كانوا من بني تميم لا أناساً آخرين ، وفي «القاموس » العنبر أبو حي من تميم فبنو العنبر عليه منهم فلم يخرج الأمر عنهم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (4)

{ 4-5 } { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

نزلت هذه الآيات الكريمة ، في أناس من الأعراب ، الذين وصفهم الله تعالى بالجفاء ، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، قدموا وافدين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدوه في بيته وحجرات نسائه ، فلم يصبروا ويتأدبوا حتى يخرج ، بل نادوه : يا محمد يا محمد ، [ أي : اخرج إلينا ] ، فذمهم الله بعدم العقل ، حيث لم يعقلوا عن الله الأدب مع رسوله واحترامه ، كما أن من العقل وعلامته استعمال الأدب .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (4)

قوله تعالى : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون 4 ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم } .

ذلك تنديد من الله بأولئك الأجلاف الذين ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه ، وذلك في غلظة مستهجنة ما ينبغي أن تصدر عن مؤمنين كرام ولا يليق أن ينادي بها سيد الثقلين والأنام صلى الله عليه وسلم . وقد روى في سبب نزول الآية عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في الحجرة : يامحمد يا محمد . فأنزل الله الآية .

وذكر أنها نزلت في جفاة بني تميم ، إذ قدم وفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد فنادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجرته أن اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وإن ذمنا شين . فآذى ذلك من صياحهم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم ، فقالوا : جئناك يا محمد نفاخرك ، ونزل فيهم قوله : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } وكان فيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم{[4283]} .

و { الحجرات } جمع حجرة وهي البيت أو الغرفة{[4284]} وفي هذه الآية يخاطب الله نبيه صلى الله عليه وسلم مبينا له أن هؤلاء الغلاظ الأجلاف الذين ينادونك من وراء البيوت من غير أدب ولا توقير ولا تواضع { أكثرهم لا يعقلون } يعني أكثرهم جاهلون بدين الله لغلبة السفاهة والجفاء على عقولهم وقلوبهم .


[4283]:أسباب النزول للنيسابوري ص 259.
[4284]:المصباح المنير جـ 1 ص 132.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (4)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} آية نزلت في تسعة رهط ثمانية منهم من بني تميم، ورجل من قيس، فمنهم الأقرع بن حابس المجاشعي، وقيس بن عاصم المنقري، والزبرقان بن بدر الهذلي، وخالد بن مالك، وسويد بن هشام النهشليين، والقعقاع بن معبد، وعطاء بن حابس، ووكيع بن وكيع من بني دارم، وعيينة بن حصن الفزاري، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أصاب طائفة من ذراري بني العنبر، فقدموا المدينة في الظهيرة لفداء ذراريهم، فتذكروا ما كان من أمرهم فبكت الذراري إليهم، فنهضوا إلى المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم في منزله فاستعجلوا الباب لما أبطأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فنادى أكثرهم من وراء الحجرات: يا محمد، مرتين ألا تخرج إلينا فقد جئنا في الفداء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويلك ما لك حداك المنادي"، فقال: أما والله إن حمدي لك زين، وإن ذمي لك شين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ويلكم ذلكم الله"، فلم يصبروا حتى يخرج إليهم صلى الله عليه وسلم. فذلك قوله: {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن الذين ينادونك يا محمد من وراء حجراتكِ، والحجرات: جمع حجرة...

وقوله:"أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون "يقول: أكثرهم جهال بدين الله، واللازم لهم من حقك وتعظيمك. وذُكر أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في قوم من الأعراب جاؤوا ينادون رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته: يا محمد اخرج إلينا...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} وجهان:

أحدهما: لا يعلمون، فعبر عن العلم بالعقل لأنه من نتائجه...

الثاني: لا يعقلون أفعال العقلاء لتهورهم وقلة أناتهم، وهو محتمل...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والمراد: حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت لكل واحد منهنّ حجرة. ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرّقوا على الحجرات متطلبين له، فناداه بعض من وراء هذه، وبعض من وراء تلك، وأنهم قد أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها، وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها، ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمكان حرمته. والفعل وإن كان مسنداً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم، وكان الباقون راضين، فكأنهم تولوه جميعاً،...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{أكثرهم لا يعقلون} فيه بيان المعايب بقدر ما في سوء أدبهم من القبائح، وذلك لأن الكلام من خواص الإنسان، وهو أعلى مرتبة من غيره، وليس لمن دونه كلام، لكن النداء في المعنى كالتنبيه، وقد يحصل بصوت، يضرب شيء على شيء وفي الحيوانات العجم ما يظهر لكل أحد كالنداء، فإن الشاة تصيح وتطلب ولدها وكذلك غيرها من الحيوانات، والسخلة كذلك فكأن النداء حصل في المعنى لغير الآدمي، فقال الله تعالى في حقهم {أكثرهم لا يعقلون} يعني النداء الصادر منهم لما لم يكن مقرونا بحسن الأدب كانوا فيه خارجين عن درجة من يعقل وكان نداؤهم كصياح صدر من بعض الحيوان.

وقوله تعالى: {أكثرهم} فيه وجهان؛

(أحدهما) أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل، وإنما تأتي بالأكثر احترازا عن الكذب واحتياطا في الكلام، لأن الكذب مما يحبط به عمل الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل، ثم إن الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم، وفيه إشارة إلى لطيفة وهي أن الله تعالى يقول: أنا مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحسانا لتلك العادة وهي الاحتراز عن الكذب فلا تتركوها، واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلا قاطعا على رضائي بذلك.

(وثانيهما) أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون...

وفيه وجه ثالث وهو أن يقال لعل منهم من رجع عن تلك الأهواء، ومنهم من استمر على تلك العادة الرديئة فقال أكثرهم إخراجا لمن ندم منهم عنهم...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{إن الذين ينادونك} أي يجددون نداءك من غير توبة والحال أن نداءهم إياك كائن {من وراء} إثبات هذا الجار يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان داخلها، ولو سقط لم يفد ذلك...

{الحجرات} ولم يضفها إليه إجلالاً له، وليشمل كونه في غيرها أيضاً، والمعنى: مبتدئين النداء من جهة تكون الحجرات فيها بينك وبينهم فتكون موازية لك منهم ولهم منك...

{أكثرهم} أي المنادي والراضي- دون الساكت- لعذر {لا يعلقون} لأنهم لم يصبروا، بل فعلوا معه صلى الله عليه وسلم كما يفعل بعضهم مع من يماثله، والعقل يمنع من مثل ذلك لمن اتصف بالرئاسة فكيف إذا كانت رئاسة النبوة والرسالة عن الملك الجبار الواحد القهار.

تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :

{أكثرهم لا يعقلون} يعني ليس عندهم عقل، والمراد بالعقل هنا عقل الرشد؛ لأن العقل عقلان: عقل رشد، وعقل تكليف، فأما عقل الرشد فضده السفه، وأما عقل التكليف فضده الجنون، فمثلاً: إذا قلنا: يشترط لصحة الوضوء أن يكون المتوضىء عاقلاً مميزاً، فالمراد بالعقل هنا عقل التكليف، وإذا قلنا: يشترط للتصرف في المال أن يكون المتصرف عاقلاً، أي عقل رشد، يحسن التصرف، فالمراد بقوله هنا: {أكثرهم لا يعقلون} أي عقل رشد؛ لأنهم لو كانوا لا يعقلون عقل تكليف لم يكن عليهم لوم ولا ذم، لأن المجنون فاقد العقل لا يلحقه لوم ولا ذم، وهذا واضح، وقوله: {أكثرهم لا يعقلون} يفهم منه أن بعضهم يعقل وأنه لم يحصل منه رفع صوت، بل هو متأدب مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُراتِ} التي يشتمل عليها بيتك، عندما تكون في حالة استرخاء تستسلم إليه طلباً لبعض الراحة الجسدية، واستعداداً لمرحلة جديدةٍ من العمل، فيرفعون أصواتهم ليقتحموا عليك لحظات نومك وراحتك دون اعتبارٍ لمقامك وحالتك، {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} لأن العقل يدفع صاحبه إلى احترام أوضاع الناس الخاصة ومشاعرهم الذاتية، وإلى عدم الإساءة إليهم في ذلك كله، الأمر الذي يجعل من لا يراعون ذلك في سلوكهم العملي ممن لا يعقلون...