وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة ، يعرض باختصار خط سير الرسالة ، وتاريخ هذه العقيدة ، من لدن نوح وإبراهيم ؛ مقررا حقيقتها وغايتها في دنيا الناس ؛ ملما بحال أهل الكتاب وأتباع عيسى - عليه السلام - بصفة خاصة .
( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب . إن الله قوي عزيز . ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم ، وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ، فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون . ثم قفينا على آثارهم برسلنا ، وقفينا بعيسى ابن مريم ، وآتيناه الإنجيل ، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ، ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ، إلا ابتغاء رضوان الله ، فما رعوها حق رعايتها ، فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .
فالرسالة واحدة في جوهرها ، جاء بها الرسل ومعهم البينات عليها ، ومعظمهم جاء بالمعجزات الخوارق . وبعضهم أنزل عليه كتاب . والنص يقول : ( وأنزلنا معهم الكتاب )بوصفهم وحدة ، وبوصف الكتاب وحدة كذلك ، إشارة إلى وحدة الرسالة في جوهرها .
( والميزان ) . . مع الكتاب . فكل الرسالات جاءت لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزانا ثابتا ترجع إليه البشرية ، لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والرجال ؛ وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء واختلاف الأمزجة ، وتصادم المصالح والمنافع . ميزانا لا يحابي أحدا لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع ، ولا يحيف على أحد لأن الله رب الجميع .
هذا الميزان الذي أنزله الله في الرسالة هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل والاضطرابات والخلخلة التي تحيق بها في معترك الأهواء ومضطرب العواطف ، ومصطخب المنافسة وحب الذات . فلا بد من ميزان ثابت يثوب إليه البشر ، فيجدون عنده الحق والعدل والنصفة بلا محاباة . ( ليقوم الناس بالقسط ) . . فبغير هذا الميزان الإلهي الثابت في منهج الله وشريعته ، لا يهتدي الناس إلى العدل ، وإن اهتدوا إليه لم يثبت في أيديهم ميزانه ، وهي تضطرب في مهب الجهالات والأهواء !
( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) . .
والتعبير [ بأنزلنا الحديد ] كالتعبير في موضع آخر بقوله : ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) . كلاهما يشير إلى إرادة الله وتقديره في خلق الأشياء والأحداث ، فهي منزلة بقدره وتقديره . فوق ما فيه هنا من تناسق مع جو الآية ، وهو جو تنزيل الكتاب والميزان ، فكذلك ما خلقه الله من شيء مقدر تقدير كتابه وميزانه .
أنزل الله الحديد ( فيه بأس شديد ) . . وهو قوة في الحرب والسلم ( ومنافع للناس ) . . وتكاد حضارة البشر القائمة الآن تقوم على الحديد . ( وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) . وهي إشارة إلى الجهاد بالسلاح ؛ تجيء في موضعها في السورة التي تتحدث عن بذل النفس والمال .
ولما تحدث عن الذين ينصرون الله ورسله بالغيب ، عقب على هذا بإيضاح معنى نصرهم لله ورسله ، فهو نصر لمنهجه ودعوته ، أما الله سبحانه فلا يحتاج منهم إلى نصر : ( إن الله قوي عزيز ) . .
فيه بأسٌ شديد : فيه قوة عظيمة .
لقد أرسلنا رسُلنا الذين اصطفيناهم بالمعجزات القاطعة ، وأنزلنا معهم الكتب فيها الشرائع والأحكام ، والميزان الذي يحقق الإنصاف في التعامل ، ليتعامل الناس فيما بينهم بالعدل . كما خلقنا الحديد فيه قوة ومنافع للناس في شتى مجالات الحياة ، في الحرب والسلم ، والمواصلات برا وبحرا وجوا ، ومنافعه لا تحصى ، لينتفعوا به في مصالحهم ومعايشهم ، وليعلم الله من ينصر دينه ، وينصر رسله بالغيب ، { إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } لا يفتقر إلى عون أحد .
قوله عز وجل :{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } بالآيات والحجج ، { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } يعني : العدل . وقال مقاتل بن سليمان : هو ما يوزن به ، أي : ووضعنا الميزان كما قال : { والسماء رفعها ووضع الميزان }( الرحمن- 7 ) { ليقوم الناس بالقسط } ، ليتعاملوا بينهم بالعدل . { وأنزلنا الحديد } روي عن ابن عمر يرفعه : إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : الحديد ، والنار ، والماء ، والملح . وقال أهل المعاني معنى قوله : { أنزلنا الحديد } أنشأنا وأحدثنا ، أي : أخرج لهم الحديد من المعادن وعلمهم صنعه بوحيه . وقال قطرب هذا من النزل كما يقال : أنزل الأمير على فلان نزلاً حسناً ، فمعنى الآية : أنه جعل ذلك نزلاً لهم . ومثله قوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج }( الزمر- 6 ) . { فيه بأس شديد } قوة شديدة ، يعني : السلاح للحرب . قال مجاهد : فيه جنة وسلاح يعني آلة الدفع وآلة الضرب ، { ومنافع للناس } مما ينتفعون به في مصالحهم كالسكين والفأس والإبرة ونحوها ، إذ هو آلة لكل صنعة ، { وليعلم الله } أي : أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق والعدل وليعلم الله وليرى الله ، { من ينصره } أي : دينه ، { ورسله بالغيب } أي : قام بنصرة الدين ولم ير الله ولا الآخرة ، وإنما يحمد ويثاب من أطاع الله بالغيب ، { إن الله قوي عزيز } قوي في أمره ، عزيز في ملكه .
{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } بالدلالات الواضحات { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } العدل { ليقوم الناس بالقسط } ليتعامل الناس بينهم بالعدل { وأنزلنا الحديد } وذلك أن آدم عليه السلام نزل الى الأرض بالعلاة والمطرقة وآلة الحدادين { فيه بأس شديد } قوة وشدة يمتنع بها ويحارب { ومنافع للناس } يستعملونه في أدواتهم { وليعلم الله } أي أرسلنا الرسل ومعهم هذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق وليرى الله من ينصر دينه { ورسله بالغيب } في الدنيا
قوله تعالى : " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات " أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة . وقيل : الإخلاص لله تعالى في العبادة ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، بذلك دعت الرسل : نوح فمن دونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم . " وأنزلنا معهم الكتاب " أي الكتب ، أي أوحينا إليهم خبر ما كان قبلهم " والميزان " قال ابن زيد : هو ما يوزن به ويتعامل " ليقوم الناس بالقسط " أي بالعدل في معاملاتهم . وقوله : " بالقسط " يدل على أنه أراد الميزان المعروف وقال قوم : أراد به العدل . قال القشيري : وإذا حملناه على الميزان المعروف ، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان فهو من باب :
ويدل على هذا قوله تعالى : " والسماء رفعها ووضع الميزان " [ الرحمن : 7 ] ثم قال : " وأقيموا الوزن بالقسط " [ الرحمن : 9 ] وقد مضى القول فيه{[14730]} . " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : الحديد والنار والماء والملح ) . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام : الحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثلج ، وعصا موسى وكانت من آس الجنة ، طولها عشرة أذرع مع طول موسى ، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء : السندان والكلبتان والمِيقَعَة وهي المطرقة ، ذكره الماوردي . وقال الثعلبي : قال ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين : السندان ، والكلبتان ، والمِيقَعَة ، والمطرقة ، والإبرة . وحكاه القشيري قال : والميقعة ما يحدد به ، يقال وقَعَت الحديدة أقعها أي حددتها . وفي الصحاح : والميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه ، وخشبة القصار التي يدق عليها ، والمطرقة والمسن الطويل . وروي أن الحديد أنزل في يوم الثلاثاء . " فيه بأس شديد " أي لإهراق الدماء . ولذلك نهي عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء ؛ لأنه يوم جرى فيه الدم . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( في يوم الثلاثاء ساعة لا يرقأ فيها الدم ) . وقيل : " أنزلنا الحديد " أي أنشأناه وخلقناه ، كقوله تعالى : " وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج{[14731]} " [ الزمر : 6 ] وهذا قول الحسن . فيكون من الأرض غير منزل من السماء . وقال أهل المعاني : أي أخرج الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه . " فيه بأس شديد " يعني السلاح والكراع والجنة . وقيل : أي فيه من خشية القتل خوف شديد . " ومنافع للناس " قال مجاهد : يعني جنة . وقيل : يعني انتفاع الناس بالماعون من الحديد ، مثل السكين والفأس والإبرة ونحوه . " وليعلم الله من ينصره " أي أنزل الحديد ليعلم من ينصره . وقيل : هو عطف على قوله تعالى : " ليقوم الناس بالقسط " أي أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب ، وهذه الأشياء ، ليتعامل الناس بالحق ، " وليعلم الله من ينصره " وليرى الله من ينصر دينه وينصر رسله " ورسله بالغيب " قال ابن عباس : ينصرونهم لا يكذبونهم ، ويؤمنون بهم " بالغيب " أي وهم لا يرونهم . " إن الله قوي " " قوي " في أخذه " عزيز " أي منيع غالب . وقد تقدم . وقيل : " بالغيب " بالإخلاص .
{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز }
{ لقد أرسلنا رسلنا } الملائكة إلى الأنبياء { بالبينات } بالحجج القواطع { وأنزلنا معهم الكتاب } بمعنى الكتب { والميزان } العدل { ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد } أخرجناه من المعادن { في بأس شديد } يقاتل به { ومنافع للناس وليعلم الله } علم مشاهدة ، معطوف على ليقوم الناس { من ينصره } بأن ينصر دينه بآلات الحرب من الحديد وغيره { ورسوله بالغيب } حال من هاء ينصره ، أي غائباً عنهم في الدنيا ، قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه { إن الله قوي عزيز } لا حاجة له إلى النصرة لكنها تنفع من يأتي بها .