في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} (4)

ويتغير السياق من الحكاية عن حادث وقع إلى مواجهة وخطاب للمرأتين كأن الأمر حاضر :

( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما . وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير ) . .

وحين نتجاوز صدر الخطاب ، ودعوتهما إلى التوبة لتعود قلوبهما فتميل إلى الله ، فقد بعدت عنه بما كان منها . . حين نتجاوز هذه الدعوة إلى التوبة نجد حملة ضخمة هائلة وتهديدا رعيبا مخيفا . .

ومن هذه الحملة الضخمة الهائلة ندرك عمق الحادث وأثره في قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى احتاج الأمر إلى إعلان موالاة الله وجبريل وصالح المؤمنين . والملائكة بعد ذلك ظهير ! ليطيب خاطر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويحس بالطمأنينة والراحة من ذلك الأمر الخطير !

ولا بد أن الموقف في حس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وفي محيطه كان من الضخامة والعمق والتأثير إلى الحد الذي يتناسب مع هذه الحملة . ولعلنا ندرك حقيقته من هذا النص ومما جاء في الرواية على لسان الأنصاري صاحب عمر - رضي الله عنهما - وهو يسأله : جاءت غسان ? فيقول لا بل أعظم من ذلك وأطول . وغسان هي الدولة العربية الموالية للروم في الشام على حافة الجزيرة ، وهجومها إذ ذاك أمر خطير . ولكن الأمر الآخر في نفوس المسلمين كان أعظم وأطول ! فقد كانوا يرون أن استقرار هذا القلب الكبير ، وسلام هذا البيت الكريم أكبر من كل شأن . وأن اضطرابه وقلقه أخطر على الجماعة المسلمة من هجوم غسان عملاء الروم ! وهو تقدير يوحي بشتى الدلالات على نظرة أولئك الناس للأمور . وهو تقدير يلتقي بتقدير السماء للأمر ، فهو إذن صحيح قويم عميق .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} (4)

إن تتوبا : يعني حفصة وعائشة .

صغت قلوبكما : مالت إلى ما يجب للرسول الكريم من تعظيم وإجلال .

وإن تظاهرا عليه : تتظاهرا وتتعاونا على إيذاء الرسول .

ظهير : معين .

ثم وجّه تعالى الخطابَ إلى حفصةَ وعائشة مبالغةً في العتاب والتحذير فقال :

{ إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا }

إن ترجعا إلى الله بالتوبة عن مثلِ هذه الأعمال التي تؤذي النبيَّ فقد مالت قلوبُكما إلى الحقّ والخير .

ثم بيّن الله أنه حافظٌ لرسوله الأمين وحارسُه فلا يَضُرُّه أذى مخلوقٍ فقال :

{ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } .

إن تتعاونا يا عائشة وحفصة في العمل على ما يؤذي النبيَّ ويسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء السر ، فلن يضرّه ذلك شيئا ، فالله ناصرهُ وجبريلُ والمؤمنون الصالحون والملائكة كلّهم مظاهرون له ومعينون .

قراءات :

قرأ أهل الكوفة : تظاهرا بفتح التاء والظاء من غير تشديد . وقرأ الباقون : تظاهرا بفتح التاء والظاء المشددة .

قرأ حفص ونافع وأبو عمرو وابن عامر : جبريل بكسر الجيم والراء من غير همزة . وقرأ أبو بكر : جبرئيل بفتح الجيم والراء وهمزة قبل الياء .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} (4)

{ إن تتوبا إلى الله } أي من التعاون على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء . يخاطب عائشة وحفصة ، { فقد صغت قلوبكما } أي زاغت ومالت عن الحق واستوجبتما التوبة . قال ابن زيد : مالت قلوبهما بأن سرهما ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب عن الزهري ، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، أنبأنا عبد الله بن عباس قال : لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى لهما : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } حتى حج وحججت معه ، وعدل وعدلت معه بإداوة ، فتبرز ثم جاء ، فسكبت على يديه من الإداوة فتوضأ ، فقلت له : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى لهما :{ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } فقال : واعجباً لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة . ثم استقبل عمر الحديث يسوقه فقال : إني كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ، وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت حدثته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره ، وإذا نزل فعل مثله . وكنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصحت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ولم تنكر أن أراجعك ! فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل . فأفزعني فقلت : خابت من فعلت منهن بعظيم . ثم جمعت علي ثيابي فدخلت على حفصة ، فقلت : أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل ؟ قالت : نعم ، فقلت : خابت وخسرت ، أفتأمنين أن يغضب الله تعالى لغضب رسوله فتهلكي ، لا تستكثري على النبي صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه في شيء ، ولا تهجريه وسليني ما بدا لك ، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم -يريد عائشة- . قال عمر : وكنا تحدثنا أن غسان تبعث الخيل لتغزونا فنزل صاحبي يوم نوبته ، فرجع عشاء فضرب بابي ضرباً شديداً وقال : أثم هو ؟ ففزعت فخرجت إليه فقال : حدث أمر عظيم ؟ فقلت : ما هو أجاءت غسان ! قال : لا بل أعظم منه وأطول ، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه . فقلت : قد خابت حفصة وخسرت كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون . فجمعت علي ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخل مشربة فاعتزل فيها فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي ، فقلت : ما يبكيك ألم أكن حذرتك ؟ أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : لا أدري هو ذا في المشربة . فجئت إلى المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم ، فجلست معهم قليلاً ثم غلبني ما أجد ، فجئت المشربة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لغلام له أسود : استأذن لعمر ، فدخل فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلي فقال : قد كلمت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتك له فصمت ، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد فجئت فقلت للغلام : استأذن لعمر ، فدخل ثم رجع إلي فقال : قد ذكرتك له فصمت ، فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت : استأذن لعمر ، فاستأذن ثم رجع إلي فقال : قد ذكرتك له فصمت . فلما وليت منصرفاً ، فإذا الغلام يدعوني ، فقال : قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش ، قد أثر الرمال بجنبه متكئاً على وسادة من أدم حشوها ليف ، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم : يا رسول الله أطلقت نساءك ؟ فرفع إلي بصره فقال : لا ، فقلت : الله أكبر . ثم قلت وأنا قائم أستأنس : يا رسول الله لو رأيتني ، وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة إذا قوم تغلبهم نساؤهم ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قلت : يا رسول الله لو رأيتني ، ودخلت على حفصة فقلت لها : لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -يريد عائشة- فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى ، فجلست حين رأيته يبتسم فرفعت بصري في بيته ، فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة ، فقلت : يا رسول الله ادع الله تعالى فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسع عليهم وأعطوا من الدنيا وهم لا يعبدون الله تعالى ، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال : أو في هذا أنت يا ابن الخطاب ؟ إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا . فقلت : يا رسول الله استغفر لي . فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة تسعاً وعشرين ليلة ، وكان يقول : ما أنا بداخل عليهن شهراً -من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله تعالى . فلما مضت تسع وعشرون ليلة ، دخل على عائشة رضي الله عنها فبدأ بها ، فقالت له عائشة : يا رسول الله إنك كنت أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً فإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدها عداً ! فقال : الشهر تسع وعشرون ، وكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين ليلة . قالت عائشة : ثم أنزل الله آية التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه ، فاخترته ، ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل ما قالت عائشة " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن " أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه فبدأ بي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي بالجواب حتى تستأمري أبويك ، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ، ثم قال إن الله قال : { يا أيها النبي قل لأزواجك } إلى تمام الآيتين ، فقلت : أو في هذا استأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة " .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني زهير بن حرب ، حدثنا عمر بن يونس الحنفي ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن سماك ابن زميل حدثنا عبد الله بن عباس ، حدثني عمر بن الخطاب قال : " لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه وذكر الحديث . وقال : دخلت عليه فقلت : يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك . وقلما تكلمت -وأحمد الله تعالى- بكلام إلا رجوت أن الله يصدق قولي الذي أقول ، ونزلت هذه الآية : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن } و{ إن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } " . قوله : { وإن تظاهرا عليه } أي تتظاهرا وتتعاونا على أذى النبي صلى الله عليه وسلم . قرأ أهل الكوفة بتخفيف الظاء ، والآخرون بتشديدها . { فإن الله هو مولاه } أي وليه وناصره . قوله : { وجبريل وصالح المؤمنين } روي عن ابن مسعود وأبي بن كعب : { وصالح المؤمنين } أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، قال الكلبي : هم المخلصون الذي ليسوا بمنافقين . قوله :{ والملائكة بعد ذلك ظهير } قال مقاتل : بعد الله وجبريل وصالح المؤمنين ظهير ، أي : أعوان النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا من الواحد الذي يؤدي عن الجمع ، كقوله : { وحسن أولئك رفيقا }( النساء- 69 ) .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} (4)

{ إن تتوبا إلى الله } يعني عائشة وحفصة { فقد صغت قلوبكما } عدلت وزاغت عن الحق وذلك أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته { وإن تظاهرا عليه } تتعاونا على أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم { فإن الله هو مولاه } وليه وحافظه فلا يضره تظاهركما عليه وقوله { وصالح المؤمنين } قيل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وهو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم { والملائكة بعد ذلك ظهير } أي الملائكة بعد هؤلاء أعوان

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} (4)

قوله تعالى : " إن تتوبا إلى الله " يعني حفصة وعائشة ، حثهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم . " فقد صغت قلوبكما " أي زاغت ومالت عن الحق . وهو أنهما أحبتا ما كره النبي صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسل ، وكان عليه السلام يحب العسل والنساء . قال ابن زيد : مالت قلوبهما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده ، فسرهما ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : فقد مالت قلوبكما إلى التوابة . وقال : " فقد صغت قلوبكما " ولم يقل : فقد صغى قلباكما ، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين ، من اثنين جمعوهما ؛ لأنه لا يشكل . وقد مضى هذا المعنى في " المائدة " في قوله تعالى : " فاقطعوا أيديهما{[15133]} " [ المائدة : 38 ] . وقيل : كلما ثبتت الإضافة فيه مع التثنية فلفظ الجمع أليق به ؛ لأنه أمكن وأخف . وليس قوله : " فقد صغت قلوبكما " جزاء للشرط ، لأن هذا الصغو كان سابقا ، فجواب الشرط محذوف للعلم به . أي إن تتوبا كان خيرا لكما ، إذ قد صغت قلوبكما .

قوله تعالى : " وإن تظاهرا عليه " أي تتظاهرا وتتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له ، حتى خرج حاجا فخرجت معه ، فلما رجع فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك{[15134]} لحاجة له ، فوقفت حتى فرع ، ثم سرت معه فقلت : يا أمير المؤمنين ، من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه ؟ فقال : تلك حفصة وعائشة . قال فقلت له : والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك . قال : فلا تفعل ، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه ، فإن كنت أعلمه أخبرتك . . . وذكر الحديث .

" فإن الله هو مولاه " أي وليه وناصره ، فلا يضره ذلك التظاهر منهما . " وجبريل وصالح المؤمنين " قال عكرمة وسعيد بن جبير : أبو بكر وعمر ، لأنهما أبوا عائشة وحفصة ، وقد كانا عونا له عليهما . وقيل : صالح المؤمنين علي رضي الله عنه . وقيل : خيار المؤمنين . وصالح : اسم جنس كقوله تعالى : " والعصر . إن الإنسان لفي خسر " [ العصر : 2 ] ، قاله الطبري . وقيل : " صالح المؤمنين " هم الأنبياء ، قاله العلاء بن زيادة وقتادة وسفيان . وقال ابن زيد : هم الملائكة . السدي : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : " صالح المؤمنين " ليس لفظ الواحد وإنما هو صالحو المؤمنين ، فأضاف الصالحين إلى المؤمنين ، وكتب بغير واو على اللفظ ؛ لأن لفظ الواحد والجمع واحد فيه . كما جاءت أشياء في المصحف متنوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه قال دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون{[15135]} بالحصى ويقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه{[15136]} - وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب - فقال عمر : فقلت لأعلمن ذلك اليوم ، قال فدخلت على عائشة فقلت : يا ابنة أبي بكر ، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقالت : مالي ومالك يا ابن الخطاب ! عليك بِعَيْبَتِك{[15137]} ! قال : فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها : يا حفصة ، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ! والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك ، ولولا أنا لطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فبكت أشد البكاء ، فقلت لها : أين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : هو في خزانته في المشربة . فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا على أُسْكُفّة{[15138]} المشربة مدل رجليه على نقير من خشب ، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر . فناديت : يا رباح ، استأذن لي عندك على رسول الله ، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا . ثم قلت : يا رباح ، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا . ثم رفعت صوتي فقلت : يا رباح ، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة ، والله لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها ، ورفعت صوتي فأومأ إلي أن اِرْقَه ؛ فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير ، فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره ، وإذا الحصير قد أثر في جنبه ، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة ؛ وإذا أَفِيقٌ{[15139]} معلق - قال - فابتدرت عيناي . قال : ( ما يبكيك يا ابن الخطاب ) ؟ قلت يا نبي الله ، ومالي لا أبكى وهذا الحصير قد أثر في جنبك ، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى ! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته ، وهذه خزانتك ! فقال : ( يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا ) قلت : بلى . قال : ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب ، فقلت : يا رسول الله ، ما يشق عليك من شأن النساء ، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل ، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك . وقلما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله عز وجل يصدق قولي الذي أقول{[15140]} ونزلت هذه الآية ، آية التخيير : " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن " [ التحريم : 5 ] . " وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير " .

وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت : يا رسول الله ، أطلقتهن ؟ قال : ( لا ) . قلت : يا رسول الله ، إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن ؟ قال : ( نعم إن شئت ) . فلم أزل أحدثه حتى تَحَسَّر الغضب عن وجهه ، وحتى كَشَر{[15141]} فضحك ، وكان من أحسن الناس ثغرا . ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ونزلت ، فنزلت أتشبث بالجذع ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده . فقلت : يا رسول الله ، إنما كنت في الغرفة تسعا وعشرين . قال : ( إن الشهر يكون تسعا وعشرين ) فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه . ونزلت هذه الآية : " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم{[15142]} " [ النساء : 83 ] . فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر ، وأنزل الله آية التخيير .

قوله تعالى : " وجبريل " فيه لغات تقدمت في سورة " البقرة{[15143]} " . ويجوز أن يكون معطوفا على " مولاه " والمعنى : الله وليه وجبريل وليه ، فلا يوقف على " مولاه " ويوقف على " جبريل " ويكون " وصالح المؤمنين " مبتدأ " والملائكة " معطوفا عليه . و " ظهير " خبرا ، وهو بمعنى الجمع . وصالح المؤمنين أبو بكر ، قاله المسيب بن شريك . وقال سعيد بن جبير : عمر . وقال عكرمة : أبو بكر وعمر . وروي شقيق عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى : " فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين " قال : إن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر . وقيل : هو علي . عن أسماء بنت عميس قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( " وصالح المؤمنين " علي بن أبي طالب ) . وقيل غير هذا مما تقدم القول فيه . ويجوز أن يكون " وجبريل " مبتدأ وما بعده معطوفا عليه . والخبر ( ( ظهير " وهو بمعنى الجمع أيضا . فيوقف على هذا على " مولاه " . ويجوز أن يكون " جبريل وصالح المؤمنين " معطوفا على " مولاه " فيوقف على " المؤمنين " ويكون " والملائكة بعد ذلك ظهير " ابتداء وخبرا . ومعنى " ظهير " أعوان . وهو بمعنى ظهراء ، كقوله تعالى : " وحسن أولئك ، رفيقا{[15144]} " [ النساء : 69 ] . وقال أبو علي : قد جاء فعيل للكثرة كقوله تعالى : " ولا يسأل حميم حميما . يبصرونهم{[15145]} " [ المعارج :11 ] . وقيل : كان التظاهر منهما في التحكم على النبي صلي اله عليه وسلم في النفقة ، ولهذا آلى منهن شهرا واعتزلهن . وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال : دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا - قال - فقال لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ( هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ) . فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ! فقلن : والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده . ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين . ثم نزلت عليه هذه الآية : " يا أيها النبي قل لأزواجك " حتى بلغ " للمحسنات منكن أجرا عظيما " [ الأحزاب : 28 ] الحديث . وقد ذكرناه في سورة{[15146]} " الأحزاب " .


[15133]:راجع جـ 6 ص 173.
[15134]:الأراك: الشجر، واحدته أراكة.
[15135]:أي يضربون به الأرض، كفعل المهموم المفكر.
[15136]:ما بين المربعين ساقط من أ، ح، س.
[15137]:أي عليك بوعظ بنتك حفصة، والعيبة: وعاء يجعل الإنسان فيه أفضل ثيابه ونفيس متاعه، فشبهت ابنته بها.
[15138]:الأسكفة: العتبة.
[15139]:الأفيق: هو الجلد الذي لم يتم دباغه.
[15140]:زيادة من صحيح مسلم.
[15141]:أي أبدى أسنانه تبسما.
[15142]:راجع جـ 5 ص 291.
[15143]:راجع جـ 2 ص 37.
[15144]:راجع جـ 5 ص 271.
[15145]:راجع ص 284 من هذا الجزء.
[15146]:راجع جـ 14 ص 162.
 
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي - تفسير الجلالين [إخفاء]  
{إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} (4)

{ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير }

{ إن تتوبا } أي حفصة وعائشة { إلى الله فقد صغت قلوبكما } مالت إلى تحريم مارية ، أي سركما ذلك مع كراهة النبي صلى الله عليه وسلم له وذلك ذنب ، وجواب الشرط محذوف أي تقبلا ، وأطلق قلوب على قلبين ولم يعبر به لاستثقال الجمع بين تثنيتين فيما هو كالكلمة الواحدة { وإن تظَّاهرا } بإدغام التاء الثانية في الأصل في الظاء ، وفي قراءة بدونها تتعاونا { عليه } أي النبي فيما يكرهه { فإن الله هو } فصل { مولاه } ناصره { وجبريل وصالح المؤمنين } أبو بكر وعمر رضي الله عنهما معطوف على محل اسم إن فيكونون ناصريه { والملائكة بعد ذلك } بعد نصر الله والمذكورين { ظهير } ظهراء أعوان له في نصره عليكما .