ويمضي في تصوير حال المنافقين ، وسبب توليهم عن الإيمان بعد إذ شارفوه فيتبين أنه تآمرهم مع اليهود ، ووعدهم لهم بالطاعة فيما يدبرون :
( إن الذين ارتدوا على أدبارهم - من بعد ما تبين لهم الهدى - الشيطان سول لهم وأملى لهم . ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله : سنطيعكم في بعض الأمر . والله يعلم إسرارهم ) . .
والتعبير يرسم معنى رجوعهم عن الهدى بعدما تبين لهم ، في صورة حركة حسية ، حركة الارتداد على الأدبار . ويكشف ما وراءها من وسوسة الشيطان وتزيينه وإغرائه . فإذا ظاهر هذه الحركة وباطنها مكشوفان مفهومان ! وهم المنافقون الذين يتخفون ويتسترون !
ارتدّوا على أدبارهم : رجعوا إلى الكفر .
وأملَى لهم : مدّ لهم الأماني والآمال .
إن الذين رجعوا إلى الكفر بعد أن ظهر لهم طريق الحق والهداية ، إنما زين لهم الشيطانُ الكفر وأغراهم بالنفاق ، ومد لهم في الآمال الباطلة .
قرأ أبو عمرو : وأُمليَ لهم ، بالبناء للمجهول . وقرأ يعقوب : وأملي لهم ، بضم الهمزة وكسر اللام على الإخبار . والباقون : وأَملَى لهم بفتح الهمزة واللام على أنه فعل ماضٍ .
{ إن الذين ارتدوا على أدبارهم } : أي رجعوا كافرين بنفاقهم .
{ من بعد ما تبين لهم الهدى } : أو من بعدما تبين لهم صدق الرسول وصحة دينه بالحجج والبراهين .
{ الشيطان سول لهم وأملى لهم } : أي زيّن له الشيطان نفاقهم وأملى لهم أي واعدهم بطول العمر وَمنَّاهم .
وقوله تعالى { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } أي رجعوا إلى الكفر بقلوبهم دون ألسنتهم وهم المنافقون من بعد ما تبين لهم الهدى أي صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة دينه الإِسلام هؤلاَء المرتدون الشيطان سوَّل له أي زين لهم ذلك الارتداد وأملى لهم أي واعدهم ممنيّا لهم بطول العمر والبقاء الطويل في الحياة والعيش الطيب الواسع فيها .
- الارتداد عن الإِسلام كالرجوع عن الطاعة إلى المعصية سببهما تزيين الشيطان للعبد ذلك وإملاؤه له بالتمنيّي والوعد الكاذب .
- من الردة التعاون مع الكافرين على المؤمنين بأي شكل من أشكال التعاون ضد الإِسلام والمسلمين .
{ 25-28 } { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }
يخبر تعالى عن حالة المرتدين عن الهدى والإيمان على أعقابهم إلى الضلال والكفران ، ذلك لا عن دليل دلهم ولا برهان ، وإنما هو تسويل من عدوهم الشيطان وتزيين لهم ، وإملاء منه لهم : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا }
قوله تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } رجعوا كفاراً ، { من بعد ما تبين لهم الهدى } قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوه ووجدوا نعته في كتابهم . وقال ابن عباس ، والضحاك ، والسدي : هم المنافقون . { الشيطان سول لهم } زين لهم القبيح ، { وأملى لهم } قرأ أهل البصرة بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على ما لم يسم فاعله ، وقرأ مجاهد بإرسال الياء على وجه الخبر من الله عز وجل عن نفسه أنه يفعل ذلك ، وتروى هذه القراءة عن يعقوب ، وقرأ الآخرون : ( وأملى لهم ) بفتح الألف ، أي : وأملى الشيطان لهم ، مد لهم في الأمل .
قوله تعالى : " إن الذين ارتدوا على أدبارهم " قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب ، كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا نعته عندهم ، قاله ابن جريج . وقال ابن عباس والضحاك والسدي : هم المنافقون ، قعدوا عن القتال بعد ما علموه في القرآن . " الشيطان سول لهم " أي زين لهم خطاياهم ، قاله الحسن . " وأملى لهم " أي مد لهم الشيطان في الأمل ووعدهم طول العمر ، عن الحسن أيضا . وقال : إن الذي أملى لهم في الأمل ومد في آجالهم هو الله عز وجل ، قاله الفراء والمفضل . وقال الكلبي ومقاتل : إن معنى " أملى لهم " أمهلهم ، فعلى هذا يكون الله تعالى أملى لهم بالإمهال في عذابهم . وقرأ أبو عمرو وابن إسحاق وعيسى بن عمرو أبو جعفر وشيبة " وأملي لهم " بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء ، على ما لم يسم فاعله . وكذلك قرأ ابن هرمز ومجاهد والجحدري ويعقوب ، إلا أنهم سكنوا الياء على وجه الخبر من الله تعالى عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم ، كأنه قال : وأنا أملي لهم . واختاره أبو حاتم ، قال : لأن فتح الهمزة يوهم أن الشيطان يملي لهم ، وليس كذلك ، فلهذا عدل إلى الضم . قال المهدوي : ومن قرأ " وأملى لهم " فالفاعل اسم الله تعالى . وقيل الشيطان . واختار أبو عبيد قراءة العامة ، قال : لأن المعنى معلوم ، لقوله : " لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه " {[13952]} [ الفتح : 9 ] رد التسبيح على اسم الله ، والتوقير والتعزير على اسم الرسول .
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأقفال قلوبهم ، بين منشأ ذلك ، فقال مؤكداً تنبهاً لمن لا يهتم به-{[59764]} على أنه مما ينبغي الاهتمام بالنظر فيه ليخلص الإنسان نفسه منه ، وتكذيباً لمن يقال : إن ذلك حسن : { إن الذين ارتدوا } أي عالجوا نفوسهم في منازعة{[59765]} الفطرة الأولى في الرجوع عن الإسلام ، وهو المراد بقوله : { على أدبارهم } أي من أهل الكتاب وغيرهم ، فقلبوا وجوه الأمور إلى ظهورها ، فوقعوا في الضلال فكفروا .
ولما كان الذي يلامون عليه ترك ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم مما أوحاه الله سبحانه إليه من الشريعة ، لا ما في غرائزهم من الملة التي يكفي في الهداية إليها نور العقل ، وكان الذم لاحقاً بهم ولو كان ارتدادهم في أدنى وقت ، أثبت الجار فقال : { من بعد ما تبين } غاية البيان {[59766]}الذي لا خفاء معه بوجه وظهر غاية الظهور{[59767]} { لهم } بالدلائل التي هي من شدة ظهورها غنية عن {[59768]}بيان مبين{[59769]} { الهدى } أي الذي أتاهم به رسولنا صلى الله عليه وسلم .
ولما كانوا قد أحرقوا بذلك أنفسهم وأبعدوها به غاية البعد عن كل خير ، عبر عن المغوي بما يدل على ذلك فقال تعالى{[59770]} : { الشيطان } أي المحترق باللعنة البعيد من الرحمة { سول } أي{[59771]} حسن { لهم } بتزيينه وإغوائه الذي حصل لهم منه استرخاء في عزائمهم وفتور{[59772]} في هممهم فجروا معه في مراده في طول الأمل ، والإكثار من مواقعه الزلل والأماني من جميع الشهوات والعلل ، بعد أن زين لهم سوء العمل{[59773]} ، بتمكين الله له منهم ، {[59774]}وهذا لما علم سبحانه منهم حال الفطرة الأولى{[59775]} { وأملى لهم * } أي أطال في ذلك ووسع بتكرار ذلك عليهم على تعاقب الملوين ومر الجديدين حتى{[59776]} نسوا المواعظ وأعرضوا عن الذكر هذا على قراءة الجماعة بفتح الهمزة واللام ، وأما على قراءة البصريين{[59777]} بضم الهمزة وكسر اللام فالمراد أن الله تعالى هو المملي - أي الممهل - لهم بإطالة العمر وإسباغ النعم ، وتسهيل الأماني والحلم ، عن المعاجلة بالنقم ، حتى اغتروا ، وهي أيضاً{[59778]} موافقة لقوله تعالى
{ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم {[59779]}إن كيدي متين{[59780]} }[ القلم : 45 ] ، وأما في قراءة أبي عمرو بفتح الياء فهو{[59781]} فعل ماض مبني للمفعول ، ودل على أن المملي هو الله سبحانه وتعالى قراءة يعقوب بإسكان الياء على أنه مضارع همزته للمتكلم .