( أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ? بلى . إنه على كل شيء قدير ) . .
وهي لفتة إلى كتاب الكون المنظور ، الذي ورد ذكره في أول السورة . وكثيرا ما يتضمن السياق القرآني مثل هذا التناسق بين قول مباشر في السورة ، وقول مثله يجيء في قصة ، فيتم التطابق بين مصدرين على الحقيقة الواحدة .
وكتاب الكون يشهد بالقدرة المبدعة ابتداء لهذا الخلق الهائل : السماوات والأرض . ويوحي للحس البشري بيسر الإحياء بعد الموت . وهذا الإحياء هو المقصود . وصياغة القضية في أسلوب الاستفهام والجواب أقوى
وآكد في تقرير هذه الحقيقة . ثم يجيء التعقيب الشامل : ( إنه على كل شيء قدير ) . . فتضم الإحياء وغيره في نطاق هذه القدرة الشاملة لكل شيء كان أو يكون .
قوله تعالى : " أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض " الرؤية هنا بمعنى العلم . و " أن " واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية . " ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير " احتجاج على منكري البعث . ومعنى " لم يعي " يعجز ويضعف عن إبداعهن . يقال : عي بأمره وعيي إذا لم يهتد لوجهه ، والإدغام أكثر . وتقول في الجمع عيوا ، مخففا ، وعيوا أيضا بالتشديد . قال
عَيُّوا بأمرهمُ كما *** عَيَّتْ بِبَيْضَتِهَا الحَمَامَهْ{[13884]}
وعييت بأمري إذا لم تهتد لوجهه . وأعياني هو . وقرأ الحسن " ولم يعي " بكسر العين وإسكان الياء ، وهو قليل شاذ ، لم يأت إعلال العين وتصحيح اللام إلا في أسماء قليلة ، نحو غاية وآية . ولم يأت في الفعل سوى بيت أنشده الفراء ، وهو قول الشاعر :
فكأنها بين النساء سَبِيكَةٌ *** تمشِي بسدة{[13885]} بيتها فَتُعِيّ
" بقادر " قال أبو عبيدة والأخفش : الباء زائدة للتوكيد كالباء في قوله : " وكفى بالله شهيدا " [ النساء : 166 ] ، وقوله : " تنبت بالدهن " {[13886]} [ المؤمنون : 20 ] . وقال الكسائي والفراء والزجاج : الباء فيه خلف الاستفهام والجحد في أول الكلام . قال الزجاج : والعرب تدخلها مع الجحد تقول : ما ظننت أن زيدا بقائم . ولا تقول : ظننت أن زيدا بقائم . وهو لدخول " ما " ودخول " أن " للتوكيد . والتقدير : أليس الله بقادر ، كقوله تعالى : " أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر " {[13887]} [ يس : 81 ] . وقرأ ابن مسعود والأعرج والجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب " يقدر " واختاره أبو حاتم ، لأن دخول الباء في خبر " أن " قبيح . واختار أبو عبيد قراءة العامة ، لأنها في قراءة عبد الله " خلق السموات والأرض قادر " بغير باء . والله أعلم .
ولما أتم سبحانه وتعالى ما اقتضاه مقصود هذه السورة من أصول الدين وفروعه والتحذير من سطواته بذكر بعض مثلاته ، وختم بضلال من لم يجب الداعي ، نبه على أن أوضح الأدلة على إحاطته بالجلال والجمال وقدرته على الأجل المسمى الذي خلق الخلق لأجله ما جلى به مطلع السورة من إبداع الخافقين وما فيهما{[59157]} من الآيات الظاهرة{[59158]} للأذن والعين ، فقال مبكتاً لهم على ضلالهم عن إجابة الداعي ومنكراً عليهم وموبخاً لهم{[59159]} مرشداً بالعطف على{[59160]} غير مذكور إلى أن التقدير : ألم ير{[59161]} هؤلاء الضلال{[59162]} ما نصبنا في هذه السورة من أعلام الدلائل وواضح{[59163]} الرسائل في المقاصد والوسائل ، عاطفاً عليه قوله تعالى رداً لمقطع السورة بتقرير المعاد على{[59164]} مطلعها المقرر للبدء بخلق الكونين بالحق : { أو لم يروا } أي يعلموا علماً هو في الوضوح كالرؤية-{[59165]} { {[59166]}أن الله{[59167]} } و{[59168]}دل {[59169]}على هذا الاسم{[59170]} الأعظم بقوله : { الذي خلق السماوات } على ما احتوت عليه مما يعجز الوصف-{[59171]} من العبر { والأرض } على ما اشتملت عليه من الآيات المدركة بالعيان{[59172]} والخبر{[59173]} { ولم يعي } أي يعجز ، يقال : عيي بالأمر - إذ لم يهتد{[59174]} لوجه مراده أو عجز عنه ولم يطق إحكامه{[59175]} ، قال الزجاج : يقال : عييت بالأمر - إذا لم تعرف وجهه ، وأعييت : تعبت{[59176]} ، و{[59177]}في القاموس : وأعيى بالأمر : كل{[59178]} { بخلقهن } أي بسببه{[59179]} فإنه لو حصل له شيء من ذلك لأدى إلى نقصان فيهما أو في إحدهما ، وأكد الإنكار المتضمن للنفي بزيادة الجار في حيز " أن " فقال تعالى : { بقادر } أي قدرة عظيمة {[59180]}تامة بليغة{[59181]} { على أن يحيي } أي على سبيل التجديد مستمراً { الموتى } والأمر فيهم لكونه إعادة ولكونهم{[59182]} جزاء يسيراً منها ذكر اختراعه أصغر شأناً وأسهل صنعاً .
ولما كان هذا الاستفهام الإنكاري في معنى النفي ، أجابه بقوله تعالى { بلى } {[59183]}قد علموا أنه قادر على ذلك علماً هو في إتقانه كالرؤية بالبصر لأنهم يعلمون أنه المخترع لذلك ، وأن الإعادة أهون من الابتداء في مجاري عاداتهم ، ولكنهم عن ذلك ، غافلون لأنهم عنه معرضون ، ولما كانوا{[59184]} مع هذه الأدلة الواضحة التي هي أعظم من المشاهدة بالبصر ينكرون ما دلت عليه هذه الصنعة من إحاطة القدرة ، علل ذلك{[59185]} مؤكداً له بقوله مقرراً للقدرة على وجه عام يدخل فيه البعث الذي ذكر أول السورة أنه ما خلق هذا الخلق إلا لأجله ليختم بما بدأ به{[59186]} { إنه على كل شيء } أي هو أهل لأن تتعلق القدرة به { قدير * } .
قوله تعالى : { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير 33 يوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون 34 فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لو يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القول الفاسقون } .
ذلك برهان من الله يبين فيه أن الساعة حق وأنه سبحانه محيي الموتى ليلاقوا الحساب . ذلك أن الله خلق السموات والأرض ، وهذان خلقان هائلان عظيمان ، وفيهما من كبير الأجرام والأشياء ما يثير العجب ويدهش البال . لا جرم أن خالق ذلك لهو قادر على إحياء الموتى . فقال : { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى } الهمزة للإنكار ، والوار للعطف على مقدر . والمراد من هذه الآية إقامة الدلالة على أن الله تعالى قادر على إقامة الساعة وبعث الموتى ، فهو خالق السموات والأرض ، وخلقهما أعظم وأفخم من إعادة الحياة للأموات . ذلك أن الله القادر على الأقوى لهو أقدر على الأقل والأضعف . والمعنى : أو لم ير هؤلاء المكذبون بيوم القيامة المنكرون لبعث الناس من قبورهم أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعجزه خلقهن – لهو قادر على إحياء الموتى { بلى إنه على كل شيء قدير } بلى إن الله قادر على فعل ما يشاء وهو سبحانه لا يعجزه شيء .