في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ} (25)

16

وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة ، يعرض باختصار خط سير الرسالة ، وتاريخ هذه العقيدة ، من لدن نوح وإبراهيم ؛ مقررا حقيقتها وغايتها في دنيا الناس ؛ ملما بحال أهل الكتاب وأتباع عيسى - عليه السلام - بصفة خاصة .

( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب . إن الله قوي عزيز . ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم ، وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ، فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون . ثم قفينا على آثارهم برسلنا ، وقفينا بعيسى ابن مريم ، وآتيناه الإنجيل ، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ، ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ، إلا ابتغاء رضوان الله ، فما رعوها حق رعايتها ، فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .

فالرسالة واحدة في جوهرها ، جاء بها الرسل ومعهم البينات عليها ، ومعظمهم جاء بالمعجزات الخوارق . وبعضهم أنزل عليه كتاب . والنص يقول : ( وأنزلنا معهم الكتاب )بوصفهم وحدة ، وبوصف الكتاب وحدة كذلك ، إشارة إلى وحدة الرسالة في جوهرها .

( والميزان ) . . مع الكتاب . فكل الرسالات جاءت لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزانا ثابتا ترجع إليه البشرية ، لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والرجال ؛ وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء واختلاف الأمزجة ، وتصادم المصالح والمنافع . ميزانا لا يحابي أحدا لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع ، ولا يحيف على أحد لأن الله رب الجميع .

هذا الميزان الذي أنزله الله في الرسالة هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل والاضطرابات والخلخلة التي تحيق بها في معترك الأهواء ومضطرب العواطف ، ومصطخب المنافسة وحب الذات . فلا بد من ميزان ثابت يثوب إليه البشر ، فيجدون عنده الحق والعدل والنصفة بلا محاباة . ( ليقوم الناس بالقسط ) . . فبغير هذا الميزان الإلهي الثابت في منهج الله وشريعته ، لا يهتدي الناس إلى العدل ، وإن اهتدوا إليه لم يثبت في أيديهم ميزانه ، وهي تضطرب في مهب الجهالات والأهواء !

( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) . .

والتعبير [ بأنزلنا الحديد ] كالتعبير في موضع آخر بقوله : ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) . كلاهما يشير إلى إرادة الله وتقديره في خلق الأشياء والأحداث ، فهي منزلة بقدره وتقديره . فوق ما فيه هنا من تناسق مع جو الآية ، وهو جو تنزيل الكتاب والميزان ، فكذلك ما خلقه الله من شيء مقدر تقدير كتابه وميزانه .

أنزل الله الحديد ( فيه بأس شديد ) . . وهو قوة في الحرب والسلم ( ومنافع للناس ) . . وتكاد حضارة البشر القائمة الآن تقوم على الحديد . ( وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) . وهي إشارة إلى الجهاد بالسلاح ؛ تجيء في موضعها في السورة التي تتحدث عن بذل النفس والمال .

ولما تحدث عن الذين ينصرون الله ورسله بالغيب ، عقب على هذا بإيضاح معنى نصرهم لله ورسله ، فهو نصر لمنهجه ودعوته ، أما الله سبحانه فلا يحتاج منهم إلى نصر : ( إن الله قوي عزيز ) . .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ} (25)

البينات : المعجزات والحجج .

الكتاب : جميع الكتب المنزلة .

الميزان : العدل .

القِسط : الحق .

أنزلنا الحديد : خلقناه .

فيه بأسٌ شديد : فيه قوة عظيمة .

لقد أرسلنا رسُلنا الذين اصطفيناهم بالمعجزات القاطعة ، وأنزلنا معهم الكتب فيها الشرائع والأحكام ، والميزان الذي يحقق الإنصاف في التعامل ، ليتعامل الناس فيما بينهم بالعدل . كما خلقنا الحديد فيه قوة ومنافع للناس في شتى مجالات الحياة ، في الحرب والسلم ، والمواصلات برا وبحرا وجوا ، ومنافعه لا تحصى ، لينتفعوا به في مصالحهم ومعايشهم ، وليعلم الله من ينصر دينه ، وينصر رسله بالغيب ، { إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } لا يفتقر إلى عون أحد .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ} (25)

{ 25-27 } { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }

يقول تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } وهي الأدلة والشواهد والعلامات الدالة على صدق ما جاءوا به وحقيته .

{ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ } وهو اسم جنس يشمل سائر الكتب التي أنزلها الله لهداية الخلق وإرشادهم ، إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم ، { وَالْمِيزَانَ } وهو العدل في الأقوال والأفعال ، والدين الذي جاءت به الرسل ، كله عدل وقسط في الأوامر والنواهي وفي معاملات الخلق ، وفي الجنايات والقصاص والحدود [ والمواريث وغير ذلك ] ، وذلك { لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } قياما بدين الله ، وتحصيلا لمصالحهم التي لا يمكن حصرها وعدها ، وهذا دليل على أن الرسل متفقون في قاعدة الشرع ، وهو القيام بالقسط ، وإن اختلفت أنواع العدل ، بحسب الأزمنة والأحوال ، { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } من آلات الحرب ، كالسلاح والدروع وغير ذلك .

{ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } وهو ما يشاهد من نفعه في أنواع الصناعات والحرف ، والأواني وآلات الحرث ، حتى إنه قل أن يوجد شيء إلا وهو يحتاج إلى الحديد .

{ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } أي : ليقيم تعالى سوق الامتحان بما أنزله من الكتاب والحديد ، فيتبين من ينصره وينصر رسله في حال الغيب ، التي ينفع فيها الإيمان قبل الشهادة ، التي لا فائدة بوجود الإيمان فيها ، لأنه حينئذ يكون ضروريا .

{ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي : لا يعجزه شيء ، ولا يفوته هارب ، ومن قوته وعزته أن أنزل الحديد الذي منه الآلات القوية ، ومن قوته وعزته أنه قادر على الانتصار من أعدائه ، ولكنه يبتلي أولياءه بأعدائه ، ليعلم من ينصره بالغيب ، وقرن تعالى في هذا{[996]}  الموضع بين الكتاب والحديد ، لأن بهذين الأمرين ينصر الله دينه ، ويعلي كلمته بالكتاب الذي فيه الحجة والبرهان والسيف الناصر بإذن الله ، وكلاهما قيامه بالعدل والقسط ، الذي يستدل به على حكمة الباري وكماله ، وكمال شريعته التي شرعها على ألسنة رسله .


[996]:- في ب: بهذا.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ} (25)

قوله عز وجل :{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } بالآيات والحجج ، { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } يعني : العدل . وقال مقاتل بن سليمان : هو ما يوزن به ، أي : ووضعنا الميزان كما قال : { والسماء رفعها ووضع الميزان }( الرحمن- 7 ) { ليقوم الناس بالقسط } ، ليتعاملوا بينهم بالعدل . { وأنزلنا الحديد } روي عن ابن عمر يرفعه : إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : الحديد ، والنار ، والماء ، والملح . وقال أهل المعاني معنى قوله : { أنزلنا الحديد } أنشأنا وأحدثنا ، أي : أخرج لهم الحديد من المعادن وعلمهم صنعه بوحيه . وقال قطرب هذا من النزل كما يقال : أنزل الأمير على فلان نزلاً حسناً ، فمعنى الآية : أنه جعل ذلك نزلاً لهم . ومثله قوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج }( الزمر- 6 ) . { فيه بأس شديد } قوة شديدة ، يعني : السلاح للحرب . قال مجاهد : فيه جنة وسلاح يعني آلة الدفع وآلة الضرب ، { ومنافع للناس } مما ينتفعون به في مصالحهم كالسكين والفأس والإبرة ونحوها ، إذ هو آلة لكل صنعة ، { وليعلم الله } أي : أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق والعدل وليعلم الله وليرى الله ، { من ينصره } أي : دينه ، { ورسله بالغيب } أي : قام بنصرة الدين ولم ير الله ولا الآخرة ، وإنما يحمد ويثاب من أطاع الله بالغيب ، { إن الله قوي عزيز } قوي في أمره ، عزيز في ملكه .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ} (25)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} يعني بالآيات {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} يعني العدل {ليقوم الناس} يعني لكي يقوم الناس {بالقسط} يعني بالعدل. {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} يقول: من أمري كان الحديد فيه بأس شديد للحرب {ومنافع للناس} في معايشهم {وليعلم الله} يعني ولكي يرى الله {من ينصره} على عدوه {و} ينصر {ورسله} يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده فيعينه على أمره حتى يظهر ولم يره {بالغيب إن الله قوي} في أمره {عزيز} في ملكه...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: لقد أرسلنا رسلنا بالمفصّلات من البيان والدلائل، وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع، والميزان بالعدل...

وقوله:"لِيَقُومَ النّاسُ بالقِسْطِ "يقول تعالى ذكره: ليعمل الناس بينهم بالعدل.

وقوله: "وأنْزَلْنا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ" يقول تعالى ذكره: وأنزلنا لهم الحديد فيه بأس شديد: يقول: فيه قوّة شديدة، ومنافع للناس، وذلك ما ينتفعون به منه عند لقائهم العدوّ، وغير ذلك من منافعه...

وقوله: "وَلِيَعْلَمَ اللّهَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغَيْبِ" يقول تعالى ذكره: أرسلنا رسلنا إلى خلقنا وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليعدلوا بينهم، وليعلم حزب الله من ينصر دين الله ورسله بالغيب منه عنهم.

وقوله: "إنّ اللّهَ قَويّ عَزيزٌ" يقول تعالى ذكره: إن الله قويّ على الانتصار ممن بارزه بالمعاداة، وخالف أمره ونهيه، عزيز ف انتقامه منهم، لا يقدر أحد على الانتصار منه مما أحلّ به من العقوبة.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} يحتمل وجهين:

أحدهما: أي أرسلنا ما يبين، ويوضح أنهم رسل الله، وأن تلك الآيات التي أتوا بها من عند الله لا باختراع من عندهم لما هي خارجة عن وسع البشر.

والثاني: ما يبين صدق الرسل في خبرهم وعدلهم في حكمهم، أو يبين ما لهم وما عليهم.

{وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}... {والميزان} الموازين المعروفة التي بها تستوفى الحقوق في ما بين الناس وبها توفى وبها تحفظ حقوق الأموال التي بينهم وحدودها. فإن كان المراد هذا فكأنه قال: {وأنزلنا معهم الكتاب} الذي به يحفظ الدين وحدوده {والميزان} الذي به تحفظ حدود الأموال، لا يزاد على الحق، ولا ينقص منه، والله أعلم. وجائز أن يكون المراد بالميزان الحكمة إذ ذكره على إثر الكتاب كقوله: {ويعلمه الكتاب والحكمة} [آل عمران: 48] كأنه يقول... {وأنزلنا معهم الكتاب} والحكمة؛ فيكون الكتاب به تحفظ حدود الأفعال والأقوال، وتكون الحكمة ما يقوم الناس بها بالقسط. أو أن تكون الحكمة ما أودع في الكتاب من المعاني.

{وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} خص الله تعالى ذكر الحديد بما جعل فيه من البأس من بين غيره من الأشياء، وإن كان يشاركه غيره في احتمال الأذى والضرر به، ما يطعن به، فينفذ، ويضرب به... {ومنافع للناس} جعل الله تعالى في الحديد منافع، ليست تلك في غيره... {وأنزلنا الحديد} أي خلقنا كقوله: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6] أي خلقها وقوله تعالى: {قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوآتكم} [الأعراف: 26] ومعلوم أنه لم ينزل اللباس على ما هو عليه ولكن معناه خلقه لباسا لكم. كذلك هذا.

{وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب}...

أراد بإضافة النصر إلى نفسه نصر رسوله محمد وسائر رسله صلى الله عليه وسلم...

وجائز أن يكون المراد من إضافة النصر إليه نصر أنفسهم ودينهم؛ إذ هم المنتفعون بذلك، ولهم يحصل ذلك النفع وتلك المعونة، لكنه بفضله وكرمه سمى ذلك نصره وأضافه إلى نفسه على ما جعل لأعمالهم التي يعملونها لأنفسهم ثوابا، وذكر لهم على ذلك أجرا؛ كأنهم عاملون له، وهم المنتفعون بها المحتاجون إليها. فعلى ذلك جائز أن يكون ما عملوا لأنفسهم سماه نصرا، وإن كان النصر لهم...

وقوله تعالى: {إن الله قوي عزيز} ذكر هذا ليعلم أنه لم يأمر في ما أمرهم من القتال والنصر لحاجة نفسه، ولا استعملهم في ما استعمل من النصر والمعونة لنفسه، ولا أنه يكتسب بذلك العز لنفسه. أخبر أنه قوي بنفسه، عزيز بذاته. ولكن إنما أمرهم بما أمر، واستعملهم في ما استعمل لنصر أنفسهم ولقوتهم..

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{الكتاب} اسم جنس لجميع الكتب المنزلة.

{الحديد} هنا: أراد به جنسه من المعادن وغيرها.

ويترتب معنى الآية بأن الله أخبر أنه أرسل رسله وأنزل كتباً وعدلاً مشروعاً وسلاحاً يحارب به من عند ولم يهتد بهدي الله فلم يبق عذر، وفي الآية على هذا التأويل حض على القتال وترغيب فيه...

{وليعلم الله من ينصره} يقوي هذا التأويل، ومعنى قوله: {ليعلم} أي ليعلمه موجوداً فالتغير ليس في علم الله، بل في هذا الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات}...هي المعجزات الظاهرة والدلائل القاهرة...لأن نبوتهم إنما ثبتت بتلك المعجزات... {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}...

في وجه المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد وجوه؛ ... الكتاب إشارة إلى القوة النظرية، والميزان إلى القوة العملية، والحديد إلى دفع مالا ينبغي...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة، يعرض باختصار خط سير الرسالة، وتاريخ هذه العقيدة، من لدن نوح وإبراهيم؛ مقررا حقيقتها وغايتها في دنيا الناس؛ ملما بحال أهل الكتاب وأتباع عيسى -عليه السلام- بصفة خاصة.

(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب. إن الله قوي عزيز. ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم، وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب، فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون. ثم قفينا على آثارهم برسلنا، وقفينا بعيسى ابن مريم، وآتيناه الإنجيل، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم، إلا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها، فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون)..

فالرسالة واحدة في جوهرها، جاء بها الرسل ومعهم البينات عليها، ومعظمهم جاء بالمعجزات الخوارق. وبعضهم أنزل عليه كتاب. والنص يقول: (وأنزلنا معهم الكتاب) بوصفهم وحدة، وبوصف الكتاب وحدة كذلك، إشارة إلى وحدة الرسالة في جوهرها.

(والميزان).. مع الكتاب. فكل الرسالات جاءت لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزانا ثابتا ترجع إليه البشرية، لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والرجال؛ وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء واختلاف الأمزجة، وتصادم المصالح والمنافع. ميزانا لا يحابي أحدا لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع، ولا يحيف على أحد لأن الله رب الجميع.

هذا الميزان الذي أنزله الله في الرسالة هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل والاضطرابات والخلخلة التي تحيق بها في معترك الأهواء ومضطرب العواطف، ومصطخب المنافسة وحب الذات. فلا بد من ميزان ثابت يثوب إليه البشر، فيجدون عنده الحق والعدل والنصفة بلا محاباة. (ليقوم الناس بالقسط).. فبغير هذا الميزان الإلهي الثابت في منهج الله وشريعته، لا يهتدي الناس إلى العدل، وإن اهتدوا إليه لم يثبت في أيديهم ميزانه، وهي تضطرب في مهب الجهالات والأهواء!

(وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب)..

والتعبير ب"أنزلنا الحديد" كالتعبير في موضع آخر بقوله: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج). كلاهما يشير إلى إرادة الله وتقديره في خلق الأشياء والأحداث، فهي منزلة بقدره وتقديره. فوق ما فيه هنا من تناسق مع جو الآية، وهو جو تنزيل الكتاب والميزان، فكذلك ما خلقه الله من شيء مقدر تقدير كتابه وميزانه.

أنزل الله الحديد (فيه بأس شديد).. وهو قوة في الحرب والسلم (ومنافع للناس).. وتكاد حضارة البشر القائمة الآن تقوم على الحديد. (وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب). وهي إشارة إلى الجهاد بالسلاح؛ تجيء في موضعها في السورة التي تتحدث عن بذل النفس والمال.

ولما تحدث عن الذين ينصرون الله ورسله بالغيب، عقب على هذا بإيضاح معنى نصرهم لله ورسله، فهو نصر لمنهجه ودعوته، أما الله سبحانه فلا يحتاج منهم إلى نصر: (إن الله قوي عزيز)..

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

" الكتاب " هنا إشارة إلى سجل الوحي الإلهي المتضمن للشرائع والأحكام، و " الميزان " هنا رمز إلى العدل الإلهي الذي أرسل الله به ولإقامته جميع الرسل والأنبياء، وكما جاء " الميزان " هنا معطوفا على " الكتاب " لأنه هو هدفه الأسمى وغايته الأخيرة، فقد جاء " الكتاب والحكم " و " الكتاب والحكمة " متعاطفين في عامة القرآن، تأكيدا لتلازم الشريعة الإلهية مع الحكم بها بأسلوب حكيم، وإقامة العدل على أساسها السليم. وذكْرُ القرآن الكريم {للميزان " في هذا السياق بصفته " رمزا للعدل " هو السبب الذي نبه غير المسلمين إلى أن يقتبسوا منه هذا الرمز، ويجعلوا صورة " الميزان " رمزا للعدالة في أختامهم ومنشوراتهم الخاصة بالقضاء.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

... قال تعالى: {لَقَدْ أرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات..} أي: الآيات الواضحات التي تلفت الناس إلى وجود الحق سبحانه وتؤيد الرسل الذين بعثهم الله لهداية الخلْق.

والآيات إما كونية وإما معجزات تؤيد الرسل، وإما آيات الكتاب الحكيم، وهي التي تحمل المنهج وتحمل الأحكام من الله للخلق {وَأَنْزلْنَا مَعَهُم الكتَابَ..} أي: الكتب التي نزلت من عند الله، والكتاب هو الشيء المكتوب.

{وَالميزَانَ..} أي: ميزان الحق الذي يزن الأشياء ويُحدّدها ويبيّنها، والميزان لا يخصّ الأشياء المادية التي لها كثافة فقط، بل ميزان يزن بالحق كل شيء مادي ومعنوي فقال في الماديات: {وَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالمِيزان بالقسْطِ.. 152} [الأنعام] وأمر بإقامة هذا الميزان في كل شيء.

{وَإذا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أن تحْكُمُوا بالعدْلِ.. 58} [النساء] حتى في المحاكم تجدهم يتخذون الميزان رمزاً للعدالة ويرفعونه شعاراً لهم، والميزان له كفتان متساويتان ليدل على الحكم العادل.

والميزان الذي جاء به الرسل هو الميزان الذي يميز بين الحق والباطل، فما دامت هناك رسل وآيات بينات ومنهج ينفع الناس وينظم حياتهم، فلا بدّ أنْ تستقيم حركة الحياة.

لذلك قال حذيفة: لقد مرّ عليّ زمان ما كنت أبالي أيكم بايعتُ، فلئن كان مسلماً ليردّنه عليّ دينه، وإنْ كان يهودياً أو نصرانياً ليردنه عليّ ساعيه –والساعي الذي يرقب حركة الناس ويتابعها- أما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلاناً وفلانا.

إذن: لا تستقيم الأمور إلا في ظل هذا المنهج، ولا سعادة للخلق إلا به، فإنْ طمس هذا المنهج فلا بد أنْ يحدث الخلل في الميزان، فيصير الحق باطلاً والباطل حقاً...

إذن: ردّ رسول الله الميزان إلى الدين والشرع، وإلى الكتاب والبينات، فمن التزم بالكتاب والبينات لم يكُنْ عنده حقّ وباطل، بل هو حقّ واحد بيّن ليس غيره، فإذا اختلف الناسُ في البينات فلا بدّ أنْ ينشأ الباطل فيأتي الميزان ليميز بين الحق والباطل.

لذلك قال سبحانه بعدها: {وأنزلْنَا مَعَهُم الكتَابَ والميزَانَ ليَقُومَ النّاسُ بالقسْط..} أي: العدل، فالكتاب للتشريع وتنفيذ الأحكام، والميزان للغفلة إنْ حدثت أو المخالفة، فيبيّن الحق والباطل.

وما دام يقوم الناسُ بالقسط والعدل كلّ الدنيا ترتاح، إما قسط نابع من ضمير الأفراد، وإما قسط من القضاء الذي يحكم بينهم...

إذن: أنزلنا {الكتاب} للملتزم {والميزَانَ..} الذي يفرق بين الحق والباطل لغير الملتزم {لِيَقُوم النّاسُ..} جميعاً {بالقسْطِ..} فحين يقتصّ من القاتل وتُقطع يد السارق لا يجرؤ أحدٌ على القتل ولا على السرقة. ولم يقُلْ ليقوم المؤمنون بالقسط إنما الناس كلّ الناس.

{وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فيهِ بَأْسٌ ومنَافِعُ للنَّاسِ..} أي: كما أنزلنا الكتاب وأنزلنا الميزان أنزلنا كذلك الحديد، فالحديد وإنْ كان مكانه الأرض إلا أنّ أصله من أعلى، والحديد إشارة للقوة فمَن لم يردعه القرآن يردعه الحديد... فالحق سبحانه وتعلى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم كما أعطيناك القرآن أعطيناك الحديد والسيف فافعل به ما تشاء وجَابَه به الكفار والعصاة الذين لا يردعهم الكتاب...

وقوله تعالى {فيه بأْسٌ شَدِيدٌ.} دلّ على أن الحديد أقوى عدة في الحياة، والواقع يؤكد ذلك...

ثم هناك مهمة أخرى للحديد {وَلِيَعْلَمَ اللهُ من ينصُرُهُ ورُسُلُه بالغيب..} وهنا إشارة إلى السيف الذي تكون به النصرة، فالسيف لمن لم يجد معه الكتاب والبينات.

وقوله تعالى: {وليعْلَمَ اللهُ من ينصُرُه ورُسُلَهُ بالغيْبِ..} أي: علم الواقع وإلا فالله تعالى يعلم كل شيء أزلاً ولا يخفى عليه خافية، فليس المراد علم تقدير إنما علم واقع.

وقال: {من ينصُرُهُ ورُسُلَهُ.} لأن نُصْرة الله نُصْرة لرسل الله ونصرة رسُل الله نُصرة لله، لذلك قال: {وأَطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرّسُول.. 92} [المائدة] وقال: {من يُطع الرّسُول فَقدْ أَطَاعَ اللهَ.. 80} [النساء] لأن هنا تداخلاً في الأحكام...

وقوله {بالغَيْبِ..} بالإيمان بالغيب ومشهد السيف، هذا يدافع عن قضية غيبية هي القيامة والله الذي لا تراه يدافع عن قضية غيبية، إنما عندما يحيي الملل بالكتاب أو السيف.

لذلك لما أصرَّ الكفار على كفرهم قال الله لرسوله: {فأَعْرِض عَن من تولّى عن ذكْرِنَا.. 29} [النجم] فالهمزة في أعرض همزة الإزالة يعني: دعهم وانصرف عن دعوتهم بالآيات والبينات.

ومعنى نصرة الله كما قال سبحانه: {إن تنصُرُوا الله ينصُرْكُمْ.. 7} [محمد] إن تنصروا الله بقوتكم ينصركم بقوته، إذن: أنت ما عليك إلا أنْ توجه {وَمَا رَميتَ إذْ رَميْتَ ولكِنْ الله رَمَى.. 17} [الأنفال]

فالله تعالى قادر على إبادة هؤلاء الكفار في لمح البصر، فلماذا الحرب؟ قالوا: لو أهلكهم الله بأمر غيبي وبدون تدخّل المسلمين في حرب لقالوا آية كونية، لذلك قال تعالى: {قَاتَلوهُم يُعذّبُهُم الله بأيْديكُم.. 14} [التوبة] بأيديكم أنتم فيكون الأمر أنكى.

وتختتم الآية بقوله سبحانه: {إنّ الله قوّي عزيزٌ} تؤكد أن الله تعالى هو صاحب القوة وصاحب العزة، حتى لا نفهم من قوله تعالى: {ليَعْلم الله من ينصرُهُ ورُسُلُه بالغيب..} أن الله يحتاج إلى النصرة من خلقه.

فالله هو ذو القوة الغالب العزيز الذي لا يُغلب، وإنما قال لكم: انصروني لتكون أيديكم في يد الإمام وتكون النصرة بكم رفعة لكم، وحين يُقهر الأعداء يقهرون بكم ويذلون لكم أنتم.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

المقصود من (كتاب) هو نفس الكتب السماوية، ولأنّ روح وحقيقة الجميع شيء واحد، لذا فإنّ التعبير ب (كتاب) جاء بصيغة مفرد.

وأمّا «الميزان» فيعني وسيلة للوزن والقياس...ومن الواضح أنّ المقصود هو المصداق المعنوي، أي الشيء الذي نستطيع أن نقيس به كلّ أعمال الإنسان، وهي الأحكام والقوانين الإلهيّة أو الأفكار والمفاهيم الربّانية...وبهذه الصورة فإنّ الأنبياء كانوا مسلّحين بثلاث وسائل وهي: «الدلائل الواضحة»، و «الكتب السماوية»، و «معيار قياس الحقّ من الباطل» والجيّد من الرديء... (ليقوم الناس بالقسط) أي أن يتحرّك الناس أنفسهم لتحقيق القسط، وليس المقصود أن يلزم الأنبياء على إقامة القسط، ولهذا يمكن القول بأنّه المراد من الآية وهدفها هو أن يعمل الناس بمفاهيم القسط ويتحرّكوا لتطبيقها...ثمّ إنّ أي مجتمع إنساني مهما كان مستواه الأخلاقي والاجتماعي والعقائدي والروحي عالياً، فإنّ ذلك لا يمنع من وجود أشخاص يسلكون طريق العتو والطغيان، ويقفون في طريق القسط والعدل، واستمرارا لمنهج الآية هذه يقول سبحانه: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس).

والمقصود من «المنافع» هنا هو كلّ ما يفيد الإنسان من الحديد، وتتبيّن الأهميّة البالغة للحديد في حياة الإنسان أنّ البشرية قد بدأت عصراً جديداً بعد اكتشافه، سمّي بعصر الحديد، لأنّ هذا الاكتشاف قد غيّر الكثير من معالم الحياة في أغلب المجالات، وهذا يمثّل أبعاد كلمة (المنافع) في الآية الكريمة أعلاه...

ثمّ يشير سبحانه إلى هدف آخر من أهداف إرسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية، وخلقه وتسخيره الوسائل المفيدة للإنسان كالحديد مثلا، حيث يقول تعالى: (فليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب). المقصود من (علم الله) هنا هو التحقّق العيني ليتوضّح من هم الأشخاص الذين يقومون بنصرة الله ومبدئه، ويقومون بالقسط؟ ومن هم الأشخاص الذين يتخلّفون عن القيام بهذه المسؤولية العظيمة؟ ومفهوم هذه الآية يشبه ما ورد في قوله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتّى يميّز الخبيث من الطيّب). وبهذه الصورة نلاحظ أنّ المسألة هنا مسألة اختبار وتمحيص واستخراج الصفوة التي استجابت لمسؤوليتها والقيام بواجبها الإلهي، وهذا هو هدف آخر من الأهداف الأساسية في هذا البرنامج.

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ} (25)

{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } بالدلالات الواضحات { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } العدل { ليقوم الناس بالقسط } ليتعامل الناس بينهم بالعدل { وأنزلنا الحديد } وذلك أن آدم عليه السلام نزل الى الأرض بالعلاة والمطرقة وآلة الحدادين { فيه بأس شديد } قوة وشدة يمتنع بها ويحارب { ومنافع للناس } يستعملونه في أدواتهم { وليعلم الله } أي أرسلنا الرسل ومعهم هذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق وليرى الله من ينصر دينه { ورسله بالغيب } في الدنيا

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ} (25)

ولما ظهرت الأدلة حتى{[62616]} لم يبق لأحد علة ، وانتشر نورها حتى ملأ الأكوان ، وعلا علواً تضاءل دون عليائه كيوان ، وكان فيما تقدم شرح مآل الدنيا وبيان حقيقتها ، وأن الأدمي إذا خلي ونفسه ارتكب{[62617]} ما لا يليق من التفاخر وما شاكله{[62618]} وترك ما يراد به مما دعي إليه من الخير جهلاً منه وانقياداً مع طبعه ، وكان ختم الآية السابقة ربما أوهم المشاركة ، قال تعالى نافياً ذلك في جواب من توقع الإخبار عن سائر الأنبياء : هو أوتوا من البيان ما أزال اللبس ، مؤكداً لإزالة العذر بإقامة الحجج بإرسال الرسل بالمعجزات الحاضرة والكتب الباقية ، معلماً أن من أعرض كلف الإقبال بالسيف ، فإن الحكيم العظيم تأبى عظمته وحكمته أن يخلي المعرض عن بينة ترده عما هو فيه ، وقسر يكفه عما يطغيه{[62619]} : { لقد أرسلنا } أي بما لنا من العظمة { رسلنا } أي {[62620]}الذين لهم نهاية{[62621]} الإجلال بما لهم بنا من الاتصال من الملائكة {[62622]}إلى الأنبياء{[62623]} على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية{[62624]} والإكرام ، ومن الأنبياء إلى الأمم{[62625]} { بالبينات } أي الموجبة للإقبال في الحال لكونها لا لبس فيها أصلاً ، ودل على عظمة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بأنهم لعلو مقاماتهم{[62626]} بالإرسال كأنهم{[62627]} أتوا إلى العباد من موضع عال جداً فقال : { وأنزلنا } بعظمتنا التي لا شيء أعلى منها { معهم الكتاب } أي الحافظ في زمن الاستقبال في الأحكام والشرائع .

ولما كان فهم الكتاب ربما أشكل فإنه يحتاج{[62628]} إلى ذهن صقيل وفكر طويل ، وصبر كبير وعلم كثير - قال الرازي : وبهذا قيل{[62629]} : لولا الكتاب لأصبح العقل حائراً ولولا العقل{[62630]} لم ينتفع بالكتاب ، عقبه بما يشترك في معرفته الكبير والصغير ، والجاهل والنحرير ، وهو أقرب الأشياء إلى الكتاب في {[62631]}العلم بمطابقة{[62632]} الواقع لما يراد فقال : { والميزان } أي العدل والحكمة ، ولعله كل ما يقع به التقدير حساً أو معنى ، وتعقيبه به إشارة إلى أن عدم زيغه لعدم حظ ونحوه ، فمن حكم الكتاب خالياً عن حظ نفس وصل إلى المقصود { ليقوم الناس } أي الذين فيهم قابلية التحرك إلى المعالي كلهم { بالقسط } أي العدل الذي لا مزيد عليه لانتظام جميع أحوالهم ، هذا{[62633]} لمن أذعن للبينات لذات من أقامها أو{[62634]} للرغبة فيها عنده .

ولما كان الإعراض بعد الإبلاغ في الإيضاح موجباً للرد عن الفساد بأنواع الجهاد ، قال مهدداً وممتناً ترغيباً وترهيباً معبراً عن الخلق بالإنزال تشريفاً وتعظيماً : { وأنزلنا } أي خلقنا خلقاً عظيماً بما لنا من القدرة{[62635]} { الحديد } أي المعروف على وجه من القوة والصلابة واللين والحدة لقبول التأثير يعد به كالبائن لما في الأرض ، فلذلك سمي إيجاده إنزالاً ، ولأن الأوامر بالإيجاد والإعدام تنزل من السماء على أيدي{[62636]} الملائكة لأن السماء محل الحوادث الكبار ، والبدائع والأسرار{[62637]} ، لأن الماء{[62638]} الذي هو أصله وأصل{[62639]} كل نام ينزل من السماء وتكون الأرض له بمنزلة الرحم للنطفة .

ولما وقع التشوف إلى سبب إنزاله ، قال : { فيه بأس } أي قوة وشدة{[62640]} وعذاب { شديد } لما فيه من الصلابة الملائمة للمضاء والحدة { ومنافع للناس } بما يعمل منه من مرافقهم ومعاونهم لتقوم أحوالهم بذلك ، قال البيضاوي : ما من صنعة إلا والحديد آلتها . ولما كان التقدير : ليعلم الله من يعصيه ويخذل أولياءه ، بوضع{[62641]} بأسه في غير ما{[62642]} أمر به نصرة لشيطانه وهواه وافتنانه ، عطف عليه قوله : { وليعلم الله } أي الذي له جميع العظمة علم شهادة لأجل إقامة الحجة بما يليق بعقول الخلق فيكون الجزاء على العمل لا على العلم ، وأوقع ضمير الدين عليه{[62643]} سبحانه تعظيماً له لأنه شارعه فقال : { من ينصره } أي يقبل مجداً على الاستمرار على نصر دينه { ورسله } بالذب عنهم والدعاء إليهم ، كائناً ذلك النصر { بالغيب } من الوعد والوعيد ، أي{[62644]} بسبب تصديق الناصر لما{[62645]} غاب عنه من ذلك ، أو غائباً عن كل ما أوجب له النصرة ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ينصرونه ولا يبصرونه - انتهى . فلم يدع سبحانه في هذه الآية لأحد عذراً بالرسل الذين هم الجنس مع تأييدهم بما ينفي عنهم اللبس ، والكتاب العالي عن كلام الخلق ، والعقل الذي عرف العدل ، والسلاح الذي يرد أولي الجهل ، كما قال صلى الله عليه وسلم :

" بعثت بين يدي الساعة بالسيف " فبيان الشرائع بالكتاب ، وتقويم أبواب العدل بالميزان ، وتنفيذ هذه المعاني بالسيف ، فإن مصالح الدين من غير هيبة السلطان لا يمكن رعايتها ، فالملك والدين توأمان ، فالدين بلا ملك ضائع ، والملك من غير دين باطل ، والسلطان ظل الله في الأرض ، فظواهر الكتاب للعوام ، ووزن معارفه لأهل الحقائق بالميزان ، ومن خرج عن الطائفتين فله الحديد وهو السيف ، لأن تشويش{[62646]} الدين منه - نبه عليه الرازي .

ولما كان طلب النصرة مظنة لتوهم الضعف ، قال نافياً لذلك مؤكداً قطعاً لتعنت المتعنتين مظهراً للاسم الأعظم إشارة إلى أن من له جميع صفات الكمال لا يمكن أن تطرقه حاجة : { إن الله } أي الذي له العظمة كلها . ولما لم يكن هنا داع إلى أكثر من هذا التأكيد : بخلاف ما أشير إليه من الإخراج من الديار المذكورة في الحج ونحوه ، قال معلماً بأنه غني عن كل شيء معرياً الخبر من اللام : { قوي } أي فهو قادر على إهلاك جميع{[62647]} أعدائه وتأييد من ينصره من أوليائه { عزيز * } فهو غير مفتقر إلى نصر أحد ، وإنما دعا عباده إلى نصر دينه ليقيم الحجة عليهم فيرحم من أراد بامتثال المأمور ، ويعذب من يشاء بارتكاب المنهي ، ببنائه هذه الدار على حكمة ربط المسببات{[62648]} بالأسباب .


[62616]:- زيد من ظ.
[62617]:- من ظ، وفي الأصل: ارتكبت.
[62618]:- من ظ، وفي الأصل: يشاركه.
[62619]:- زيد في الأصل: قال تعالى، ولم تكن الزيادة في ظ فحذفناها.
[62620]:- من ظ، وفي الأصل: هم آية.
[62621]:- من ظن وفي الأصل: هم آية.
[62622]:- من ظ، وفي الأصل: للأنبياء.
[62623]:- من ظ، وفي الأصل: للأنبياء.
[62624]:- زيد من ظ.
[62625]:- من ظ، وفي الأصل: من.
[62626]:- في ظ: مقالهم.
[62627]:- من ظ، وفي الأصل: فإنهم.
[62628]:- من ظ، وفي الأصل: محتاج.
[62629]:- من ظ، وفي الأصل: محتاج.
[62630]:- زيد من ظ.
[62631]:- من ظ، وفي الأصل: مطابقته.
[62632]:- من ظ، وفي الأصل: مطابقته.
[62633]:زيد من ظ.
[62634]:- في ظ "و".
[62635]:- في ظ: العزة.
[62636]:- من ظ، وفي الأصل: يد.
[62637]:- زيد في الأصل: ولما كان كذلك، ولم تكن الزيادة في ظ فحذفناها.
[62638]:- من ظ، وفي الأصل: إن.
[62639]:- زيد من ظ.
[62640]:- من ظ، وفي الأصل: شدة وباس.
[62641]:- من ظ، وفي الأصل: اسمه فيما.
[62642]:- من ظ، وفي الأصل: اسمه فيما.
[62643]:- زيد من ظ.
[62644]:زيد من ظ.
[62645]:- من ظ، وفي الأصل: له.
[62646]:- من ظ، وفي الأصل: يشوش.
[62647]:- في الأصل وظ: جميع إهلاك.
[62648]:- من ظ، وفي الأصل: المسميات.
 
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي - تفسير الجلالين [إخفاء]  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ} (25)

{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز }

{ لقد أرسلنا رسلنا } الملائكة إلى الأنبياء { بالبينات } بالحجج القواطع { وأنزلنا معهم الكتاب } بمعنى الكتب { والميزان } العدل { ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد } أخرجناه من المعادن { في بأس شديد } يقاتل به { ومنافع للناس وليعلم الله } علم مشاهدة ، معطوف على ليقوم الناس { من ينصره } بأن ينصر دينه بآلات الحرب من الحديد وغيره { ورسوله بالغيب } حال من هاء ينصره ، أي غائباً عنهم في الدنيا ، قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه { إن الله قوي عزيز } لا حاجة له إلى النصرة لكنها تنفع من يأتي بها .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ} (25)

قوله تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز } يبين الله للناس أنه أرسل إليهم رسلا لهدايتهم وقد أرسل معهم الدلائل والحجج من معجزات وأحكام . وكذلك أنزل الله الحديد ليتخذ منه المؤمنون السلاح فيردوا كيد الظالمين المجرمين ، وليدفعوا عن أنفسهم وعن دينهم عدوان المعتدين وطغيان المفسدين المتجبرين . وهو قوله : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } أي بالمعجزات الباهرة والدلائل الظاهرة { وأنزلنا معهم الكتاب } أي الكتب التي فيها أخبار الآخرة وشرائع الدين { والميزان } أي العدل { ليقوم الناس بالقسط } يعني ليقوم الناس بينهم ، في معاملاتهم وشؤونهم بالحق والعدل .

قوله : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } خلق الله الحديد ليصنع منه المسلمون ما يتقوون به ويعظم به بأسهم وشوكتهم وهو السلاح فيكفّون عن أنفسهم الشر والضّرّ والعدوان . وذلك عقب البيان للمشركين والتوضيح لهم بالحكمة والأسلوب الحسن أن منهج الله لهو الحق وأن ما دونه من مناهج لهي الضلال والباطل ، كيما يصدقوا ويوقنوا وتستقيم أحوالهم وأوضاعهم وتصلح حياتهم ومعايشهم ، فإذا لم تجد أسباب الحجة والبرهان في إقناعهم ودفع عدوانهم وكيدهم عن الإسلام والمسلمين فما حيلة المسلمين بعد ذلك إلا أن يزجروا المعتدين الأشرار بالحديد وما يستفاد منه من مختلف أصناف السلاح وفقا للأحوال والأعراف والظروف التي تتغير وتتطور . فقد كانت السيوف والأسنّة عماد الآلات للحرب في الأزمنة السالفة . أما في العصر الراهن فليس من بد من الاستفادة من الحديد في المخترعات الحديثة ومنها آلالات الحرب المستعملة في البر والبحر والجو . وإذا تخلف المسلمون في الاستفادة من الحديد وتطويره لأحدث الأسلحة النافعة الرادعة حتى فاتهم المشركون الظالمون ، واستغفلهم الطغاة والمعتدون ، فليس للمسلمين بعد ذلك إلا أن يلوموا أنفسهم ، ثم يعاودوا محاسبة أنفسهم في تخلّفهم وتقصيرهم وتفريطهم حتى إذا استحرّت فيهم حرارة العقيدة ، وهاجت في ضمائرهم جذوة العزم والجد والغيرة والحماسة انتقلوا بأنفسهم أعظم نقلة كيما يزهقوا الباطل ويدمروا الطغيان والشر تدميرا ويعرضوا ما فاتهم من تقصير وتفريط .

قوله : { ومنافع للناس } منافع الحديد المستفادة كثيرة وهي مما يستعمله الناس في بيوتهم من الأواني ، وفي مصانعهم ومزارعهم من آلالات والمعدات على اختلاف أشكالها ومنافعها ومسمياتهم .

قوله : { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } معطوف على قوله : { ليقوم الناس بالقسط } أي أرسل الله رسله للناس وأنزل معهم الكتب والحق والعدل وجعل لهم من الحديد ما فيه سلاح وبأس ليستبين المؤمنون الذين ينصرون الله ورسله بالغيب عنهم . أي وهم لا يرونهم . قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه { إن الله قوي عزيز } الله قوي على أخذ من خالفه وبارزه بالمعصية والظلم وشاقّه بالجحود والعتو والفسق عن دينه وشرعه { عزيز } أي منيع الجانب لا يغلبه غالب{[4467]} .


[4467]:الكشاف جـ ص 66 وفتح القدير جـ 5 ص 178 وتفسير الطبري جـ 27 ص 137.