في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

ثم يحدد الذين أحسنوا هؤلاء ، والذين يجزيهم بالحسنى . . فهم :

( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش . إلا اللمم ) . .

وكبائر الإثم هي كبار المعاصي . والفواحش كل ما عظم من الذنب وفحش . واللمم تختلف الأقوال فيه . فابن كثير يقول : وهذا استثناء منقطع لأن اللمم من صغار الذنوب ومحقرات الأعمال . قال الإمام أحمد : حدثنا عبدالرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة ، عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " إن الله تعالى إذا كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة . فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن ثور ، حدثنا معمر ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال : زنا العين النظر ، وزنا الشفتين التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي . ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه . فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم . وكذا قال مسروق والشعبي .

وقال عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له ابن لبابة الطائفي ، قال : سألت أبا هريرة عن قول الله : إلا اللمم قال : القبلة والنظرة والغمزة والمباشرة . فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل . وهو الزنا .

فهذه أقوال متقاربة في تعريف اللمم .

وهناك أقوال أخرى :

قال علي بن طلحة عن ابن عباس : إلا اللمم إلا ما سلف . وكذا قال زيد بن أسلم .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن منصور ، عن مجاهد ، أنه قال في هذه الآية : إلا اللمم قال : الذي يلم بالذنب ثم يدعه .

وقال ابن جرير : حدثني سليمان بن عبد الجبار : حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا عن ابن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) . . قال : هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب . وقال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]

إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما ?

وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن عثمان البصري عن أبي عاصم النبيل . ثم قال : هذا حديث صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق . وكذا قال البزار لا نعلمه يروى متصلا إلا من هذا الوجه .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيع . حدثنا يزيد بن زريع . حدثنا يونس ، عن الحسن ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - [ اراه رفعه ] في ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) . قال : اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود . واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود . واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود . قال : فذلك الإلمام . .

وروي مثل هذا موقوفا على الحسن .

فهذه طائفة أخرى من الأقوال تحدد معنى اللمم تحديدا غير الأول .

والذي نراه أن هذا القول الأخير أكثر تناسبا مع قوله تعالى بعد ذلك : ( إن ربك واسع المغفرة ) . . فذكر سعة المغفرة يناسب أن يكون اللمم هو الإتيان بتلك الكبائر والفواحش ، ثم التوبة . ويكون الاستثناء غير منقطع . ويكون الذين أحسنوا هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش . إلا أن يقعوا في شيء منها ثم يعودوا سريعا ولا يلجوا ولا يصروا . كما قال الله سبحانه : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) . . وسمى هؤلاء [ المتقين ] ووعدهم مغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض . . فهذا هو الأقرب إلى رحمة الله ومغفرته الواسعة .

وختم الآية بأن هذا الجزاء بالسوءى وبالحسنى مستند إلى علم الله بحقيقة دخائل الناس في أطوارهم كلها .

( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ) . .

فهو العلم السابق على ظاهر أعمالهم . العلم المتعلق بحقيقتهم الثابتة ، التي لا يعلمونها هم ، ولا يعرفها إلا الذي خلقهم . علم كان وهو ينشيء أصلهم من الأرض وهم بعد في عالم الغيب . وكان وهم أجنة في بطون أمهاتهم لم يروا النور بعد . علم بالحقيقة قبل الظاهر . وبالطبيعة قبل العمل .

ومن كانت هذه طبيعة علمه يكون من اللغو - بل من سوء الأدب - أن يعرفه إنسان بنفسه ، وأن يعلمه - سبحانه - بحقيقته ! وأن يثني على نفسه أمامه يقول له : أنا كذا وأنا كذا :

( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) . .

فما هو بحاجة إلى أن تدلوه على أنفسكم ، ولا أن تزنوا له أعمالكم ؛ فعنده العلم الكامل . وعنده الميزان الدقيق . وجزاؤه العدل . وقوله الفصل . وإليه يرجع الأمر كله .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

كبائر الإثم : الجرائم الكبرى كالقتل والسرقة وما يترتب عليه حد .

والفواحش : أيضا من الكبائر وهي ما عظُم قبحها .

اللّمم : مقاربة الذنب والدنو منه ، أو ما صغُر من الذنوب .

أنشأكم : خلقكم .

أجنّة : جمع جنين ، وهو الولد ما دام في بطن أمه .

وقد بيّن أوصافَ المحسِنين بقوله تعالى : { الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم }

يعني أن المحسنين هم الذين يبتعدون عن كبائرِ المعاصي والفواحش ، فإذا وقعوا في معصيةٍ وتابوا فَ { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة } يغفر كل ذنب كما قال تعالى : { قُلْ يا عبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } [ الزمر : 53 ] . وعلى هذا يكون اللَّمَمُ هو الإتيان بالمعصِية ( من أيّ نوعٍ ) ثم يتوب عنها .

ولذلك ختم الآية بأن هذا الجزاء ، بالسُّوء والحسنى ، مستند إلى علم الله بحقيقة دخائل الناس فقال : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } فهو أعلمُ بأحوالكم ، وعندَه الميزانُ الدقيق ، وجزاؤه العدْل ، واليه المرجع والمآل .

ويرى كثير من المفسرين أن الآية تعني أن الذي يجتنب الكبائرَ يكفِّر الله عنه الصغائرَ ، كما قال تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ النساء : 31 ] ، وهذه الآية مدنية . وعلى كل حالٍ فالله تعالى واسعُ المغفرة ، رؤوف بعباده حليم كريم .

قراءات :

قرأ حمزة والكسائي وخلف : الذين يجتنبون كبير الإثم بالإفراد ، والباقون : كبائر الإثم بالجمع .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

ثم ذكر وصفهم فقال : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ } أي : يفعلون ما أمرهم الله به من الواجبات ، التي يكون تركها من كبائر الذنوب ، ويتركون المحرمات الكبار ، كالزنا ، وشرب الخمر ، وأكل الربا ، والقتل ، ونحو ذلك من الذنوب العظيمة ، { إِلَّا اللَّمَمَ } وهي الذنوب الصغار ، التي لا يصر صاحبها عليها ، أو التي يلم بها العبد ، المرة بعد المرة ، على وجه الندرة والقلة ، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها مخرجا للعبد من أن يكون من المحسنين ، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات ، تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء ، ولهذا قال : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } فلولا مغفرته لهلكت البلاد والعباد ، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على الأرض ، ولما ترك على ظهرها من دابة . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن ، ما اجتنبت الكبائر " [ وقوله : ] { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } أي : هو تعالى أعلم بأحوالكم كلها ، وما جبلكم عليه ، من الضعف والخور ، عن كثير مما أمركم الله به ، ومن كثرة الدواعي إلى بعض{[902]}  المحرمات ، وكثرة الجواذب إليها ، وعدم الموانع القوية ، والضعف موجود مشاهد منكم حين أنشاكم{[903]}  الله من الأرض ، وإذ كنتم في بطون أمهاتكم ، ولم يزل موجودا فيكم ، وإن كان الله تعالى قد أوجد فيكم قوة على ما أمركم به ، ولكن الضعف لم يزل ، فلعلمه تعالى بأحوالكم هذه ، ناسبت الحكمة الإلهية والجود الرباني ، أن يتغمدكم برحمته ومغفرته وعفوه ، ويغمركم بإحسانه ، ويزيل عنكم الجرائم والمآثم ، خصوصا إذا كان العبد مقصوده مرضاة ربه في جميع الأوقات ، وسعيه فيما يقرب إليه في أكثر الآنات ، وفراره من الذنوب التي يتمقت بها عند مولاه ، ثم تقع منه الفلتة بعد الفلتة ، فإن الله تعالى أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين{[904]}  أرحم بعباده من الوالدة بولدها ، فلا بد لمثل هذا أن يكون من مغفرة ربه قريبا وأن يكون الله له في جميع أحواله مجيبا ، ولهذا قال تعالى : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } أي : تخبرون الناس بطهارتها على وجه التمدح{[905]} .

{ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [ فإن التقوى ، محلها القلب ، والله هو المطلع عليه ، المجازي على ما فيه من بر وتقوى ، وأما الناس ، فلا يغنون عنكم من الله شيئا ] .


[902]:- في ب: إلى فعل.
[903]:- في ب: حين أخرجكم.
[904]:- في ب: وأجود الأجودين.
[905]:- كذا في ب، وفي أ: تطهرونها، وتخبرون الناس بذلك على وجه التمدح.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

ثم وصفهم فقال قوله تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } اختلفوا في معنى الآية ، فقال قوم : هذا استثناء صحيح ، واللمم من الكبائر والفواحش ، ومعنى الآية ، إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب ، ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد ، والحسن ، ورواية عطاء عن ابن عباس . قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك . وقال السدي قال أبو صالح : سئلت عن قول الله تعالى : إلا اللمم فقلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده ، فذكرت ذلك لابن عباس فقال : لقد أعانك ملك كريم . وروينا عن عطاء عن ابن عباس في قوله : إلا اللمم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن تغفر اللهم تغفر جماً وأي عبد لك لا ألما " . وأصل اللمم والإلمام : ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ، ولا يكون له إعادة ، ولا إقامة . وقال آخرون : هذا استثناء منقطع ، مجازه : من الكبائر والفواحش ، ثم اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به ، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا ؟ فأنزل الله هذه الآية . وهذا قول زيد بن أسلم ، وقال بعضهم : هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي هريرة ، ومسروق ، والشعبي ، ورواية طاوس عن ابن عباس .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمود بن غيلان ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه ( باللمم ) مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أويكذبه " . ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزاد : " والعينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطأ " .

وقال الكلبي : اللمم على وجهين : كل ذنب لم يذكر الله عليه حداً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة ، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر والفواحش ، والوجه الآخر هو : الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه . وقال سعيد بن المسيب : هو ما لم على القلب يعني خطر . وقال الحسين بن الفضل : اللمم النظر من غير تعمد ، فهو مغفور ، فإن أعاد النظرة فليس بلمم وهو ذنب . { إن ربك واسع المغفرة } قال ابن عباس : لمن فعل ذلك وتاب ، تم الكلام ها هنا ، ثم قال : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض } يعني خلق أباكم آدم من التراب ، { وإذ أنتم أجنة } جمع جنين ، سمي جنيناً لاجتنانه في البطن ، { في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم } قال ابن عباس : لا تمدحوها . قال الحسن : علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة ، فلا تزكوا أنفسكم ، لا تبرئوها عن الآثام ، ولا تمدحوها بحسن أعمالها . قال الكلبي ومقاتل : كان الناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا ، وجهادنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية { هو أعلم بمن اتقى } أي : بر وأطاع وأخلص العمل لله تعالى .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

قوله تعالى : " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش " هذا نعت للمحسنين ، أي هم لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك ؛ لأنه أكبر الآثام . وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي " كبير " على التوحيد وفسره ابن عباس بالشرك . " والفواحش " الزنى : وقال مقاتل : " كبائر الإثم " كل ذنب ختم بالنار . " والفواحش " كل ذنب فيه الحد . وقد مضى في " النساء{[14392]} " القول في هذا . ثم استثنى استثناء منقطعا فقال : " إلا اللمم " وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه{[14393]} الله وحفظه . وقد اختلف في معناها ؛ فقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي : " اللمم " كل ما دون الزنى . وذكر مقاتل بن سليمان : أن هذه الآية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار ، كان له حانوت يبيع فيه تمرا ، فجاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها : إن داخل الدكان ما هو خير من هذا ، فلما دخلت راودها فأبت وانصرفت فندم نبهان ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته إلا الجماع ، فقال : ( لعل{[14394]} زوجها غاز ) فنزلت هذه الآية ، وقد مضى في آخر " هود{[14395]} " وكذا قال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق : إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة . وروى مسروق عن عبدالله بن مسعود قال : زنى العينين النظر ، وزنى اليدين البطش ، وزنى الرجلين المشي ، وإنما يصدق ذلك أو يكذبه الفرج ، فإن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لمما . وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) . والمعنى : أن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة هو في الفرج وغيره له حظ من الإثم . والله أعلم .

وفي رواية أبي صالح عن أبي هريرة{[14396]} عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه ) . خرجه مسلم . وقد ذكر الثعلبي حديث طاوس عن ابن عباس فذكر فيه الأذن واليد والرجل ، وزاد فيه بعد العينين واللسان : ( وزنى الشفتين القبلة ) . فهذا قول . وقال ابن عباس أيضا : هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب . قال : ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :

إن يغفرِ الله يغفر جَمّا *** وأي عبد لك لا أَلَمّا

رواه عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس{[14397]} . قال النحاس : هذا أصح ما قيل فيه وأجلها إسنادا . وروى شعبة عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله عز وجل " إلا اللمم " قال : هو أن يلم العبد بالذنب ثم لا يعاوده ، قال الشاعر{[14398]} :

إن تغفرِ اللهم تغفر جَمّا *** وأي عبد لك لا أَلَمّا

وكذا قال مجاهد والحسن : هو الذي يأتي الذنب ثم لا يعاوده ، ونحوه عن الزهري ، قال : اللمم أن يزني ثم يتوب فلا يعود ، وأن يسرق أو يشرب الخمر ثم يتوب فلا يعود . ودليل هذا التأويل قوله تعالى : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم{[14399]} " [ آل عمران : 135 ] الآية . ثم قال : " أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم{[14400]} " [ آل عمران : 136 ] فضمن لهم المغفرة ؛ كما قال عقيب اللمم : " إن ربك واسع المغفرة " فعلى هذا التأويل يكون " إلا اللمم " استثناء متصل . قال عبدالله بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك . وقيل : اللمم الذنب بين الحدين وهو ما لم يأت عليه حد في الدنيا ، ولا توعد عليه بعذاب في الآخرة تكفره الصلوات الخمس . قاله ابن زيد وعكرمة والضحاك وقتادة . ورواه العوفي والحكم بن عتيبة عن ابن عباس . وقال الكلبي : اللمم على وجهين : كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة ، فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش . والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلم به الإنسان المرة بعد المرة فيتوب منه . وعن ابن عباس أيضا وأبي هريرة وزيد بن ثابت : هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به . وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنما كنتم بالأمس تعملون معنا فنزلت وقاله زيد بن أسلم وابنه{[14401]} ؛ وهو كقوله تعالى : " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف{[14402]} " [ النساء : 23 ] . وقيل : اللمم هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة ، قاله نفطويه . قال : والعرب تقول ما يأتينا إلا لماما ، أي في الحين بعد الحين . قال : ولا يكون أن يلم ولا يفعل ؛ لأن العرب لا تقول ألم بنا إلا إذا فعل الإنسان لا إذا هم ولم يفعله . وفي الصحاح : وألم الرجل من اللمم وهو صغائر الذنوب ، ويقال : هو مقاربة المعصية من غير مواقعة . وأنشد غير الجوهري :

بزينبَ أَلْمِمْ قبل أن يرحل الرَّكْبُ *** وقلْ إن تَمَلِّينَا فما مَلَّكِ القلب

أي اقرب . وقال عطاء بن أبي رباح : اللمم عادة النفس الحين بعد الحين . وقال سعيد بن المسيب : هو ما ألم على القلب ، أي خطر . وقال محمد بن الحنفية : كل ما هممت به من خير أو شر فهو لمم . ودليل هذا التأويل قوله عليه الصلاة والسلام : ( إن للشيطان لَمّة وللملك لَمّة ) الحديث . وقد مضى في " البقرة{[14403]} " عند قوله تعالى : " الشيطان يعدكم الفقر " . وقال أبو إسحاق الزجاج : أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه ، يقال : ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه ، ويقال : ما فعلته إلا لمما وإلماما ، أي الحين بعد الحين . وإنما زيارتك إلمام ، ومنه إلمام الخيال ، قال الأعشى :

أَلَمّ خيالٌ من قُتَيْلَةَ بعدما *** وَهَى حَبْلُهَا من حبلنا فَتَصَرَّمَا

وقيل : إلا بمعنى الواو . وأنكر هذا الفراء وقال : المعنى إلا المتقارب من صغار الذنوب . وقيل : اللمم النظرة التي تكون فجأة .

قلت : هذا فيه بعد إذ هو معفو عنه ابتداء غير مؤاخذ به ؛ لأنه يقع من غير قصد واختيار ، وقد مضى في " النور{[14404]} " بيانه . واللمم أيضا طرف من الجنون ، ورجل ملموم أي به لمم . ويقال أيضا : أصابت فلانا لَمّة من الجن وهي المس والشيء القليل ، قال الشاعر{[14405]} :

فإذا وذلك يا كُبَيْشَةُ لم يكن *** إلا كَلَمَّةِ حالمٍ بِخَيَالِ

قوله تعالى : " إن ربك واسع المغفرة " لمن تاب من ذنبه واستغفر ، قاله ابن عباس . وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل وكان من أفاضل أصحاب ابن مسعود : رأيت في المنام كأني دخلت الجنة فإذا قباب مضروبة ، فقلت : لمن هذه ؟ فقالوا : لذي الكلاع وحوشب ، وكانا ممن قتل بعضهم بعضا ، فقلت : وكيف ذلك ؟ فقالوا : إنهما لقيا الله فوجداه واسع المغفرة . فقال أبو خالد : بلغني أن ذا الكلاع أعتق اثني عشر ألف بنت .

" هو أعلم بكم " من أنفسكم " إذ أنشأكم من الأرض " يعني أباكم آدم من الطين وخرج اللفظ على الجمع . قال الترمذي أبو عبدالله : وليس هو كذلك عندنا ، بل وقع الإنشاء على التربة التي رفعت من الأرض ، وكنا جميعا في تلك التربة وفي تلك الطينة ، ثم خرجت من الطينة المياه إلى الأصلاب مع ذَرْوِ النفوس على اختلاف هيئتها ، ثم استخرجها من صلبها على اختلاف الهيئات ، منهم كالدر يتلألأ ، وبعضهم أنور من بعض ، وبعضهم أسود كالحُمَمَة ، وبعضهم أشد سوادا من بعض ، فكان الإنشاء واقعا علينا وعليه . حدثنا عيسى بن حماد العسقلاني قال : حدثنا بشر بن بكر ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عرض علي الأولون والآخرون بين يدي حجرتي هذه الليلة ) فقال قائل : يا رسول الله ! ومن مضى من الخلق ؟ قال : ( نعم عرض علي آدم فمن دونه فهل كان خلق{[14406]} أحد ) قالوا : ومن في أصلاب الرجال وبطون الأمهات ؟ قال : ( نعم مثلوا في الطين فعرفتهم كما علم آدم الأسماء كلها ) .

قلت : وقد تقدم في أول " الأنعام{[14407]} " أن كل إنسان يخلق من طين البقعة التي يدفن فيها . " وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم " جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن ، سمي جنينا لاجتنانه واستتاره . قال عمرو بن كلثوم :

هِجَانُ اللون لم تَقْرَأْ جَنِينا{[14408]}

وقال مكحول : كنا أجنة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا رضعا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك ، وكنا فيمن بقي ثم صرنا شبابا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا شيوخا لا أبالك - فما بعد هذا ننتظر ؟ ! . وروى ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال : كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير : هو صديق ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد ) فأنزل الله تعالى عند ذلك هذه الآية : " هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض " إلى آخرها . ونحوه عن عائشة : ( كان اليهود ) . بمثله .

" فلا تزكوا أنفسكم " أي لا تمدحوها ولا تثنوا عليها ، فإنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع .

" هو أعلم بمن اتقى " أي أخلص العمل واتقى عقوبة الله ، عن الحسن وغيره . قال الحسن : قد علم الله سبحانه كل نفس ما هي عاملة ، وما هي صانعة ، وإلى ما هي صائرة . وقد مضى في " النساء " الكلام في معنى هذه الآية عند قوله تعالى : " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم{[14409]} " [ النساء : 49 ] فتأمله هناك . وقال ابن عباس : ما من أحد من هذه الأمة أزكيه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم . والله تعالى أعلم .


[14392]:راجع جـ 5 ص 158.
[14393]:في ب: "سلمه الله".
[14394]:راجع جـ 9 ص 111، ففيه بيان الإجمال في هذا الحديث برواية أخرى.
[14395]:راجع جـ 9 ص 111، ففيه بيان الإجمال في هذا الحديث برواية أخرى.
[14396]:من ب، ي.
[14397]:روى هذا الحديث الترمذي بهذا الإسناد وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
[14398]:هو أمية بن الصلت قاله عند احتضاره.
[14399]:راجع جـ 4 ص 209 و ص 215.
[14400]:راجع جـ 4 ص 209 و ص 215.
[14401]:في أ: "وأبوه" وما أثبتناه يوافق ما في تفسير أبي حيان والطبري".
[14402]:راجع جـ 5 ص 116.
[14403]:راجع جـ 3 ص 329.
[14404]:راجع جـ 12 ص 227.
[14405]:هو ابن مقبل. والواو في "وذلك" زائدة كقول أبي كبير الهذلي: فإذا وذلك ليس إلا حينه *** وإذا مضى شيء كأن لم يفعل
[14406]:كذا في أ، ز. وفي ح، هـ، س "فهل كان أحد". وفي ب: "فهل كان قبله أحد".
[14407]:راجع جـ 6 ص 388.
[14408]:وصدره: *ذراعي حرة أدماء بكر* وهي رواية أبي عبيدة. أي لم تضم في رحمها ولدا قط.
[14409]:راجع جـ 5 ص 246.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

ولما وعد الذين وقع منهم الإحسان ، وصفهم فقال : { الذين يجتنبون } أي يكلفون أنفسهم ويجهدونها على أن يتركوا { كبائر الإثم } أي ما عظم الشارع إثمه بعد تحريمه بالوعيد والحد ، وعطف على { كبائر الإثم } قوله : { والفواحش } والفاحشة من الكبائر ما يكرهه الطبع وينكره العقل ويستخسّه .

ولما أفهم هذا التقييد أن من خالط ما دون فما دون كان مغفوراً له ، صرح به فقال : { إلا } أي لكن { اللمم } معفو ، فمن خالطه لا يخرج عن عداد من أحسن ، فهو استثناء منقطع ، ولعله وضع فيه { إلا } موضع { لكن } إشارة إلى{[61730]} الصغير يمكن أن يكون كبيراً باستهانته مثلاً كما قال تعالى

{ وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم }{[61731]} واللمم هو صغار الذنوب ، والمراد هنا ما يحصل منها في الأحيان كأنه وقع في صاحبه فلتة بغير اختيار منه ، لا ما يتخذ عادة أو يكثر حتى يصير كالعادة ، قال الرازي في اللوامع : وأصله مقاربة الذنب ثم الامتناع منه قبل الفعل ، قال ذو النون : ذكر الفاحشة من العارف كفعلها من غيره - انتهى . يقال : وألم بالمكان - إذا قل لبثه فيه ، وقال البغوي{[61732]} : قال السدي : قال أبو صالح أنه سئل عن اللمم فقال : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده ، قال : فذكرت ذلك{[61733]} لابن عباس رضي الله عنهما فقال : لقد أعانك عليها ملك كريم ، ثم قال البغوي : فأصل اللمم والإلمام ما{[61734]} يعمله الإنسان الحين بعد الحين ، ولا يكون له إعادة{[61735]} ولا إقامة عليه{[61736]} - انتهى - وعلى هذا يصح أن يكون الاستثناء متصلاً .

ولما كان الملوك لا يغفرون لمن تكررت ذنوبه إليهم وإن صغرت ، فكان السامع يستعظم أن يغفر ملك الملوك سبحانه مثل هذا ، علل ذلك بقوله : { إن ربك } أي المحسن إليك بإرسالك رحمة للعالمين والتخفيف عن أمتك { واسع المغفرة } فهو يغفر الصغائر حقاً أوجبه على نفسه ويغفر الكبائر إن شاء بخلاف غيره من الملوك فإنه لو أراد ذلك ما أمكنه اتباعه ، ولو جاهد حتى تمكن من ذلك في وقت فسدت مملكته فأدى ذلك إلى زوال الملك من يده أو اختلاله .

ولما وصف الذين أحسنوا فكان ربما وقع في وهم أنه لا يعلمهم سبحانه إلا بأفعالهم ، وربما قطع من عمل بمضمون الآية أنه ممن أحسن ، قال نافياً لذلك : { هو أعلم بكم } أي بذواتكم وأحوالكم منكم بأنفسكم { إذ } أي حين { أنشاكم } ابتداء { من الأرض } التي طبعها طبع الموت : البرد واليبس بإنشاء أبيكم آدم عليه السلام منها وتهيئتكم للتكوين بعد أن لم يكن فيكم تقوية قريبة ولا بعيدة أصلاً يميز الثواب الذي يصلح لتكونكم منه والذي لا يصلح { وإذ } أي حين { أنتم أجنة } أي مستورون . ولما كان البشر قد يكون في بطن الأرض وإن كان الجنين معروفاً للطفل في البطن ، حقق معناه بقوله : { في بطون أمهاتكم } بعد أن مزج بذلك التراب البارد اليابس الماء والهواء ، فنشأت الحرارة والرطوبة ، فكانت هذه الأربعة الأخلاط الزكية والدنية ، ولكن لا علم لكم أصلاً ، فهو يعلم إذ ذاك ما أنتم صائرون إليه من خير وشر وإن عملتم مدة من العمر بخلاف ذلك فإنه يعلم ما جبلكم عليه من ذلك وأنتم لا تعلمون إلا ما يكون في أنفسكم حال كونه أنكم لا تحيطون به إذ ذاك علماً .

ولما كان من عادة من سلم من الذنوب أن يفتخر على من قارفها لما بني الإنسان عليه من محبة الفخر لما جبل عليه من النقصان ، وكان حاله قد يتبدل فيسبق عليه الكتاب فيشقى ، سبب عن ذلك قوله : { فلا تزكوا } أي تمدحوا بالزكاة وهو البركة والطهارة عن الدناءة { أنفسكم } أي حقيقة بان يثني على نفسه فإن تزكيته لنفسه من علامات كونه محجوباً عن الله - قاله القشيري - أو مجازاً بأن يثني على غيره من إخوانه فإنه كثيراً ما يثني بشيء فيظهر خلافه ، وربما حصل له الأذى بسببه " وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع " الحديث ، ولذلك علل بقوله : { هو أعلم } أي منكم ومن جميع الخلق { بمن اتقى } أي جاهد نفسه حتى حصل فيه تقوى ، فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين ، فكيف بمن صارت له التقوى وصفاً ثابتاً .


[61730]:- في الأصل: الا.
[61731]:- آية 15/ 24.
[61732]:-في المعالم بهامش اللباب 6/ 220.
[61733]:- زيد من المعالم.
[61734]:- زيد من المعالم.
[61735]:- من المعالم، وفي الأصل: عادة.
[61736]:- زيد من المعالم.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

قوله : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } الذين في موضع نصب على أنه بدل أو صفة لقوله : { الذين أحسنوا بالحسنى } {[4379]} أي هم لا يفعلون كبائر الإثم وهو الشرك فإنه أكبر الكبائر جميعا وأما الفواحش فالمراد بها الزنا .

قوله : { إلا اللمم } استثناء منقطع{[4380]} والمراد باللمم صغائر الذنوب . واللمم أيضا طرف من الجنون . ورجل ملموم أي به لمم . ويقال : أصابت فلانا من الجن ( لمة ) وهو المسّ . والملمة بمعنى النازلة من نوازل الدنيا . والعين اللامة ، التي تصيب بسوء . يقال : أعيذه من كل هامة ولامّة {[4381]} . والمراد به في الآية صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال التي لا ينجو منها إلا صانه الله بعصمة أو رعاية . واللمم في قول كثير من العلماء أنه ما دون الزنا . وقيل : ما دون الوطء ، من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة . وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله كتب على آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العينين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدّق ذلك أو يكذبه " قال القرطبي في تفسير ذلك : والمعنى أن الفاحشة العظيمة والزنا التام الموجب للحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة هو في الفرج ، وغيره له حظ من الإثم . وذكر عن ابن مسعود قال : زنا العينين النظر ، وزنا الفم التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه . فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم . وسئل أبو هريرة عن قول الله { إلا اللمم } فقال : القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة . فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وهو الزنا .

وقيل : اللمم كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة . فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش . وقيل : هو الذنب العظيم يلمّ به الإنسان المرة بعد المرة فيتوب منه .

فقد روي عن ابن عباس قال : اللمم الذي يلم المرة . أي يلم بالذنب الكبير ثم يتوب . قوله : { إن ربك واسع المغفرة } الله غفار للذنوب وإن كثرت ، إذا اجتنبت الكبائر . فما كان من لمم وهي الصغائر والمحقرات من السيئات إذ تلبس بها المرء فإن الله يعفو عن ذلك بواسع رحمته وعظيم فضله وكرمه لمن تاب وأناب .

قوله : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض } يبين الله للناس أنه علمه محيط بهم . فهو عليم بأحوالهم وأفعالهم وأقوالهم وما هم صائرون إليه . فقد خلق الله الناس من الأرض وذلك بخلق أبيهم آدم الذي خلق من طين ثم خلق منه نسله فجعلهم مختلفين متفاوتين في الطبائع والصفات والأهواء . فالله عليم بذلك كله . عليم باختلافهم في الإيمان والكفر ، وفي السعادة والشقاء ، وفي السواد والبياض ، وفي الحسن والقبح ، وفي الفطنة والبغاء ، وغير ذلك من وجوه الصفات المختلفة .

قوله : { وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } أجنة ، جمع جنين وهو الولد ما دام في بطن أمه . وسمي جنينا ، لاجتنابه أي استتاره . أي أن الله ( جل وعلا ) أعلم بالإنسان وقت اجتنابه مستترا في بطن أمه ويعلم رزقه وأجله وعمله في هذه الدنيا ، ويعلم مصيره الذي يؤول إليه من حيث السعادة والشقاوة . فالله لا يعزب عن علمه شيء من ذلك .

قوله : { فلا تزكّوا أنفسكم } أي لا تمدحوها وتثنوا عليها ، فإن مدح النفس يفضي إلى الرياء والمنّة والغرور . وهذه محاذير خطيرة تفضي إلى حبوط الأعمال والخسران .

قوله : { هو أعلم بمن اتقى } الله أعلم بالمتقين المخلصين الذين يطيعون الله ، خوفا من عذابه وطمعا في رضاه .

قال صاحب الكشاف : وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء . فأما من اعتقد أن ما علمه من العمل الصالح ، من الله وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدّح لم يكن من المزكين أنفسهم ، لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر . ويؤيد هذا القول ، ما رواه الطبراني عن أبي موسى ان النبي صلى الله عليه وسلم : " من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن " .

ويستفاد من الآية كراهية امتداح المرء صاحبه وهو يرى ويسمع . فقد روى الإمام أحمد عن أبي بكرة قال : مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويلك قطعت عنق صاحبك " مرارا " إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل : أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك " .

وروى أحمد كذلك عن همام بن الحارث قال : جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه . فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ، ويقول : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المدّاحين أن نحثو في وجوههم التراب " {[4382]} .

قوله تعالى : { أفرأيت الذي تولى 33 وأعطى قليلا وأكدى 34 أعنده علم الغيب فهو يرى 35 أم لم ينبّأ بما في صحف موسى 36 وإبراهيم الذي وفّى 37 ألا تزر وازرة وزر أخرى 38 وأن ليس للإنسان إلا ما سعى 39 وأن سعيه سوف يرى 40 ثم يجزاه الجزاء الأوفى } .

ذكر في سبب نزول هذه الآيات عدة أقوال منها ما ذكر أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه فعيّره بعض المشركين وقال : لم تركت دين الأشياخ وضلّلتهم وزعمت أنهم في النار ؟ ! قال : إني خشيت عذاب الله . فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله . فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ثم بخل ومنعه ، فأنزل الله هذه الآية . وقيل : كان الوليد بن المغيرة قد مدح القرآن ثم أمسك عنه فنزل { وأعطى قليلا } أي من الخير بلسانه { وأكدى } أي قطع ذلك وأمسك عنه .

قوله : { أفرأيت الذي تولى } ذلك تعجيب من الذي أعرض عن دين الله وأدبر عن طاعته .


[4379]:البيان لابن الأنباري ج2 ص399
[4380]:المصدر السابق
[4381]:القاموس المحيط جـ 4 ص 178 ومختار الصحاح ص 605.
[4382]:تفسير ابن كثير جـ 4 ص 256، 257 والكشاف جـ 4 ص 33.