وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة ، يعرض باختصار خط سير الرسالة ، وتاريخ هذه العقيدة ، من لدن نوح وإبراهيم ؛ مقررا حقيقتها وغايتها في دنيا الناس ؛ ملما بحال أهل الكتاب وأتباع عيسى - عليه السلام - بصفة خاصة .
( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب . إن الله قوي عزيز . ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم ، وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ، فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون . ثم قفينا على آثارهم برسلنا ، وقفينا بعيسى ابن مريم ، وآتيناه الإنجيل ، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ، ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ، إلا ابتغاء رضوان الله ، فما رعوها حق رعايتها ، فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .
فالرسالة واحدة في جوهرها ، جاء بها الرسل ومعهم البينات عليها ، ومعظمهم جاء بالمعجزات الخوارق . وبعضهم أنزل عليه كتاب . والنص يقول : ( وأنزلنا معهم الكتاب )بوصفهم وحدة ، وبوصف الكتاب وحدة كذلك ، إشارة إلى وحدة الرسالة في جوهرها .
( والميزان ) . . مع الكتاب . فكل الرسالات جاءت لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزانا ثابتا ترجع إليه البشرية ، لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والرجال ؛ وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء واختلاف الأمزجة ، وتصادم المصالح والمنافع . ميزانا لا يحابي أحدا لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع ، ولا يحيف على أحد لأن الله رب الجميع .
هذا الميزان الذي أنزله الله في الرسالة هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل والاضطرابات والخلخلة التي تحيق بها في معترك الأهواء ومضطرب العواطف ، ومصطخب المنافسة وحب الذات . فلا بد من ميزان ثابت يثوب إليه البشر ، فيجدون عنده الحق والعدل والنصفة بلا محاباة . ( ليقوم الناس بالقسط ) . . فبغير هذا الميزان الإلهي الثابت في منهج الله وشريعته ، لا يهتدي الناس إلى العدل ، وإن اهتدوا إليه لم يثبت في أيديهم ميزانه ، وهي تضطرب في مهب الجهالات والأهواء !
( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) . .
والتعبير [ بأنزلنا الحديد ] كالتعبير في موضع آخر بقوله : ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) . كلاهما يشير إلى إرادة الله وتقديره في خلق الأشياء والأحداث ، فهي منزلة بقدره وتقديره . فوق ما فيه هنا من تناسق مع جو الآية ، وهو جو تنزيل الكتاب والميزان ، فكذلك ما خلقه الله من شيء مقدر تقدير كتابه وميزانه .
أنزل الله الحديد ( فيه بأس شديد ) . . وهو قوة في الحرب والسلم ( ومنافع للناس ) . . وتكاد حضارة البشر القائمة الآن تقوم على الحديد . ( وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) . وهي إشارة إلى الجهاد بالسلاح ؛ تجيء في موضعها في السورة التي تتحدث عن بذل النفس والمال .
ولما تحدث عن الذين ينصرون الله ورسله بالغيب ، عقب على هذا بإيضاح معنى نصرهم لله ورسله ، فهو نصر لمنهجه ودعوته ، أما الله سبحانه فلا يحتاج منهم إلى نصر : ( إن الله قوي عزيز ) . .
فيه بأسٌ شديد : فيه قوة عظيمة .
لقد أرسلنا رسُلنا الذين اصطفيناهم بالمعجزات القاطعة ، وأنزلنا معهم الكتب فيها الشرائع والأحكام ، والميزان الذي يحقق الإنصاف في التعامل ، ليتعامل الناس فيما بينهم بالعدل . كما خلقنا الحديد فيه قوة ومنافع للناس في شتى مجالات الحياة ، في الحرب والسلم ، والمواصلات برا وبحرا وجوا ، ومنافعه لا تحصى ، لينتفعوا به في مصالحهم ومعايشهم ، وليعلم الله من ينصر دينه ، وينصر رسله بالغيب ، { إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } لا يفتقر إلى عون أحد .
{ 25-27 } { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }
يقول تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } وهي الأدلة والشواهد والعلامات الدالة على صدق ما جاءوا به وحقيته .
{ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ } وهو اسم جنس يشمل سائر الكتب التي أنزلها الله لهداية الخلق وإرشادهم ، إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم ، { وَالْمِيزَانَ } وهو العدل في الأقوال والأفعال ، والدين الذي جاءت به الرسل ، كله عدل وقسط في الأوامر والنواهي وفي معاملات الخلق ، وفي الجنايات والقصاص والحدود [ والمواريث وغير ذلك ] ، وذلك { لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } قياما بدين الله ، وتحصيلا لمصالحهم التي لا يمكن حصرها وعدها ، وهذا دليل على أن الرسل متفقون في قاعدة الشرع ، وهو القيام بالقسط ، وإن اختلفت أنواع العدل ، بحسب الأزمنة والأحوال ، { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } من آلات الحرب ، كالسلاح والدروع وغير ذلك .
{ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } وهو ما يشاهد من نفعه في أنواع الصناعات والحرف ، والأواني وآلات الحرث ، حتى إنه قل أن يوجد شيء إلا وهو يحتاج إلى الحديد .
{ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } أي : ليقيم تعالى سوق الامتحان بما أنزله من الكتاب والحديد ، فيتبين من ينصره وينصر رسله في حال الغيب ، التي ينفع فيها الإيمان قبل الشهادة ، التي لا فائدة بوجود الإيمان فيها ، لأنه حينئذ يكون ضروريا .
{ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي : لا يعجزه شيء ، ولا يفوته هارب ، ومن قوته وعزته أن أنزل الحديد الذي منه الآلات القوية ، ومن قوته وعزته أنه قادر على الانتصار من أعدائه ، ولكنه يبتلي أولياءه بأعدائه ، ليعلم من ينصره بالغيب ، وقرن تعالى في هذا{[996]} الموضع بين الكتاب والحديد ، لأن بهذين الأمرين ينصر الله دينه ، ويعلي كلمته بالكتاب الذي فيه الحجة والبرهان والسيف الناصر بإذن الله ، وكلاهما قيامه بالعدل والقسط ، الذي يستدل به على حكمة الباري وكماله ، وكمال شريعته التي شرعها على ألسنة رسله .
قوله عز وجل :{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } بالآيات والحجج ، { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } يعني : العدل . وقال مقاتل بن سليمان : هو ما يوزن به ، أي : ووضعنا الميزان كما قال : { والسماء رفعها ووضع الميزان }( الرحمن- 7 ) { ليقوم الناس بالقسط } ، ليتعاملوا بينهم بالعدل . { وأنزلنا الحديد } روي عن ابن عمر يرفعه : إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : الحديد ، والنار ، والماء ، والملح . وقال أهل المعاني معنى قوله : { أنزلنا الحديد } أنشأنا وأحدثنا ، أي : أخرج لهم الحديد من المعادن وعلمهم صنعه بوحيه . وقال قطرب هذا من النزل كما يقال : أنزل الأمير على فلان نزلاً حسناً ، فمعنى الآية : أنه جعل ذلك نزلاً لهم . ومثله قوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج }( الزمر- 6 ) . { فيه بأس شديد } قوة شديدة ، يعني : السلاح للحرب . قال مجاهد : فيه جنة وسلاح يعني آلة الدفع وآلة الضرب ، { ومنافع للناس } مما ينتفعون به في مصالحهم كالسكين والفأس والإبرة ونحوها ، إذ هو آلة لكل صنعة ، { وليعلم الله } أي : أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق والعدل وليعلم الله وليرى الله ، { من ينصره } أي : دينه ، { ورسله بالغيب } أي : قام بنصرة الدين ولم ير الله ولا الآخرة ، وإنما يحمد ويثاب من أطاع الله بالغيب ، { إن الله قوي عزيز } قوي في أمره ، عزيز في ملكه .
{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } بالدلالات الواضحات { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } العدل { ليقوم الناس بالقسط } ليتعامل الناس بينهم بالعدل { وأنزلنا الحديد } وذلك أن آدم عليه السلام نزل الى الأرض بالعلاة والمطرقة وآلة الحدادين { فيه بأس شديد } قوة وشدة يمتنع بها ويحارب { ومنافع للناس } يستعملونه في أدواتهم { وليعلم الله } أي أرسلنا الرسل ومعهم هذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق وليرى الله من ينصر دينه { ورسله بالغيب } في الدنيا
قوله تعالى : " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات " أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة . وقيل : الإخلاص لله تعالى في العبادة ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، بذلك دعت الرسل : نوح فمن دونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم . " وأنزلنا معهم الكتاب " أي الكتب ، أي أوحينا إليهم خبر ما كان قبلهم " والميزان " قال ابن زيد : هو ما يوزن به ويتعامل " ليقوم الناس بالقسط " أي بالعدل في معاملاتهم . وقوله : " بالقسط " يدل على أنه أراد الميزان المعروف وقال قوم : أراد به العدل . قال القشيري : وإذا حملناه على الميزان المعروف ، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان فهو من باب :
ويدل على هذا قوله تعالى : " والسماء رفعها ووضع الميزان " [ الرحمن : 7 ] ثم قال : " وأقيموا الوزن بالقسط " [ الرحمن : 9 ] وقد مضى القول فيه{[14730]} . " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : الحديد والنار والماء والملح ) . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام : الحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثلج ، وعصا موسى وكانت من آس الجنة ، طولها عشرة أذرع مع طول موسى ، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء : السندان والكلبتان والمِيقَعَة وهي المطرقة ، ذكره الماوردي . وقال الثعلبي : قال ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين : السندان ، والكلبتان ، والمِيقَعَة ، والمطرقة ، والإبرة . وحكاه القشيري قال : والميقعة ما يحدد به ، يقال وقَعَت الحديدة أقعها أي حددتها . وفي الصحاح : والميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه ، وخشبة القصار التي يدق عليها ، والمطرقة والمسن الطويل . وروي أن الحديد أنزل في يوم الثلاثاء . " فيه بأس شديد " أي لإهراق الدماء . ولذلك نهي عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء ؛ لأنه يوم جرى فيه الدم . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( في يوم الثلاثاء ساعة لا يرقأ فيها الدم ) . وقيل : " أنزلنا الحديد " أي أنشأناه وخلقناه ، كقوله تعالى : " وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج{[14731]} " [ الزمر : 6 ] وهذا قول الحسن . فيكون من الأرض غير منزل من السماء . وقال أهل المعاني : أي أخرج الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه . " فيه بأس شديد " يعني السلاح والكراع والجنة . وقيل : أي فيه من خشية القتل خوف شديد . " ومنافع للناس " قال مجاهد : يعني جنة . وقيل : يعني انتفاع الناس بالماعون من الحديد ، مثل السكين والفأس والإبرة ونحوه . " وليعلم الله من ينصره " أي أنزل الحديد ليعلم من ينصره . وقيل : هو عطف على قوله تعالى : " ليقوم الناس بالقسط " أي أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب ، وهذه الأشياء ، ليتعامل الناس بالحق ، " وليعلم الله من ينصره " وليرى الله من ينصر دينه وينصر رسله " ورسله بالغيب " قال ابن عباس : ينصرونهم لا يكذبونهم ، ويؤمنون بهم " بالغيب " أي وهم لا يرونهم . " إن الله قوي " " قوي " في أخذه " عزيز " أي منيع غالب . وقد تقدم . وقيل : " بالغيب " بالإخلاص .
ولما ظهرت الأدلة حتى{[62616]} لم يبق لأحد علة ، وانتشر نورها حتى ملأ الأكوان ، وعلا علواً تضاءل دون عليائه كيوان ، وكان فيما تقدم شرح مآل الدنيا وبيان حقيقتها ، وأن الأدمي إذا خلي ونفسه ارتكب{[62617]} ما لا يليق من التفاخر وما شاكله{[62618]} وترك ما يراد به مما دعي إليه من الخير جهلاً منه وانقياداً مع طبعه ، وكان ختم الآية السابقة ربما أوهم المشاركة ، قال تعالى نافياً ذلك في جواب من توقع الإخبار عن سائر الأنبياء : هو أوتوا من البيان ما أزال اللبس ، مؤكداً لإزالة العذر بإقامة الحجج بإرسال الرسل بالمعجزات الحاضرة والكتب الباقية ، معلماً أن من أعرض كلف الإقبال بالسيف ، فإن الحكيم العظيم تأبى عظمته وحكمته أن يخلي المعرض عن بينة ترده عما هو فيه ، وقسر يكفه عما يطغيه{[62619]} : { لقد أرسلنا } أي بما لنا من العظمة { رسلنا } أي {[62620]}الذين لهم نهاية{[62621]} الإجلال بما لهم بنا من الاتصال من الملائكة {[62622]}إلى الأنبياء{[62623]} على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية{[62624]} والإكرام ، ومن الأنبياء إلى الأمم{[62625]} { بالبينات } أي الموجبة للإقبال في الحال لكونها لا لبس فيها أصلاً ، ودل على عظمة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بأنهم لعلو مقاماتهم{[62626]} بالإرسال كأنهم{[62627]} أتوا إلى العباد من موضع عال جداً فقال : { وأنزلنا } بعظمتنا التي لا شيء أعلى منها { معهم الكتاب } أي الحافظ في زمن الاستقبال في الأحكام والشرائع .
ولما كان فهم الكتاب ربما أشكل فإنه يحتاج{[62628]} إلى ذهن صقيل وفكر طويل ، وصبر كبير وعلم كثير - قال الرازي : وبهذا قيل{[62629]} : لولا الكتاب لأصبح العقل حائراً ولولا العقل{[62630]} لم ينتفع بالكتاب ، عقبه بما يشترك في معرفته الكبير والصغير ، والجاهل والنحرير ، وهو أقرب الأشياء إلى الكتاب في {[62631]}العلم بمطابقة{[62632]} الواقع لما يراد فقال : { والميزان } أي العدل والحكمة ، ولعله كل ما يقع به التقدير حساً أو معنى ، وتعقيبه به إشارة إلى أن عدم زيغه لعدم حظ ونحوه ، فمن حكم الكتاب خالياً عن حظ نفس وصل إلى المقصود { ليقوم الناس } أي الذين فيهم قابلية التحرك إلى المعالي كلهم { بالقسط } أي العدل الذي لا مزيد عليه لانتظام جميع أحوالهم ، هذا{[62633]} لمن أذعن للبينات لذات من أقامها أو{[62634]} للرغبة فيها عنده .
ولما كان الإعراض بعد الإبلاغ في الإيضاح موجباً للرد عن الفساد بأنواع الجهاد ، قال مهدداً وممتناً ترغيباً وترهيباً معبراً عن الخلق بالإنزال تشريفاً وتعظيماً : { وأنزلنا } أي خلقنا خلقاً عظيماً بما لنا من القدرة{[62635]} { الحديد } أي المعروف على وجه من القوة والصلابة واللين والحدة لقبول التأثير يعد به كالبائن لما في الأرض ، فلذلك سمي إيجاده إنزالاً ، ولأن الأوامر بالإيجاد والإعدام تنزل من السماء على أيدي{[62636]} الملائكة لأن السماء محل الحوادث الكبار ، والبدائع والأسرار{[62637]} ، لأن الماء{[62638]} الذي هو أصله وأصل{[62639]} كل نام ينزل من السماء وتكون الأرض له بمنزلة الرحم للنطفة .
ولما وقع التشوف إلى سبب إنزاله ، قال : { فيه بأس } أي قوة وشدة{[62640]} وعذاب { شديد } لما فيه من الصلابة الملائمة للمضاء والحدة { ومنافع للناس } بما يعمل منه من مرافقهم ومعاونهم لتقوم أحوالهم بذلك ، قال البيضاوي : ما من صنعة إلا والحديد آلتها . ولما كان التقدير : ليعلم الله من يعصيه ويخذل أولياءه ، بوضع{[62641]} بأسه في غير ما{[62642]} أمر به نصرة لشيطانه وهواه وافتنانه ، عطف عليه قوله : { وليعلم الله } أي الذي له جميع العظمة علم شهادة لأجل إقامة الحجة بما يليق بعقول الخلق فيكون الجزاء على العمل لا على العلم ، وأوقع ضمير الدين عليه{[62643]} سبحانه تعظيماً له لأنه شارعه فقال : { من ينصره } أي يقبل مجداً على الاستمرار على نصر دينه { ورسله } بالذب عنهم والدعاء إليهم ، كائناً ذلك النصر { بالغيب } من الوعد والوعيد ، أي{[62644]} بسبب تصديق الناصر لما{[62645]} غاب عنه من ذلك ، أو غائباً عن كل ما أوجب له النصرة ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ينصرونه ولا يبصرونه - انتهى . فلم يدع سبحانه في هذه الآية لأحد عذراً بالرسل الذين هم الجنس مع تأييدهم بما ينفي عنهم اللبس ، والكتاب العالي عن كلام الخلق ، والعقل الذي عرف العدل ، والسلاح الذي يرد أولي الجهل ، كما قال صلى الله عليه وسلم :
" بعثت بين يدي الساعة بالسيف " فبيان الشرائع بالكتاب ، وتقويم أبواب العدل بالميزان ، وتنفيذ هذه المعاني بالسيف ، فإن مصالح الدين من غير هيبة السلطان لا يمكن رعايتها ، فالملك والدين توأمان ، فالدين بلا ملك ضائع ، والملك من غير دين باطل ، والسلطان ظل الله في الأرض ، فظواهر الكتاب للعوام ، ووزن معارفه لأهل الحقائق بالميزان ، ومن خرج عن الطائفتين فله الحديد وهو السيف ، لأن تشويش{[62646]} الدين منه - نبه عليه الرازي .
ولما كان طلب النصرة مظنة لتوهم الضعف ، قال نافياً لذلك مؤكداً قطعاً لتعنت المتعنتين مظهراً للاسم الأعظم إشارة إلى أن من له جميع صفات الكمال لا يمكن أن تطرقه حاجة : { إن الله } أي الذي له العظمة كلها . ولما لم يكن هنا داع إلى أكثر من هذا التأكيد : بخلاف ما أشير إليه من الإخراج من الديار المذكورة في الحج ونحوه ، قال معلماً بأنه غني عن كل شيء معرياً الخبر من اللام : { قوي } أي فهو قادر على إهلاك جميع{[62647]} أعدائه وتأييد من ينصره من أوليائه { عزيز * } فهو غير مفتقر إلى نصر أحد ، وإنما دعا عباده إلى نصر دينه ليقيم الحجة عليهم فيرحم من أراد بامتثال المأمور ، ويعذب من يشاء بارتكاب المنهي ، ببنائه هذه الدار على حكمة ربط المسببات{[62648]} بالأسباب .
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 25 ) }
لقد أرسلنا رسلنا بالحجج الواضحات ، وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع ، وأنزلنا الميزان ؛ ليتعامل الناس بينهم بالعدل ، وأنزلنا لهم الحديد ، فيه قوة شديدة ، ومنافع للناس متعددة ، وليعلم الله علمًا ظاهرًا للخلق من ينصر دينه ورسله بالغيب . إن الله قوي لا يُقْهَر ، عزيز لا يغالَب .