ثم أشار إلى حادث وقع من وفد بني تميم حين قدموا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في العام التاسع . الذي سمي " عام الوفود " . . لمجيء وفود العرب من كل مكان بعد فتح مكة ، ودخولهم في الإسلام ، وكانوا أعرابا جفاة ، فنادوا من وراء حجرات أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] المطلة على المسجد النبوي الشريف : يا محمد . اخرج لنا . فكره النبي [ صلى الله عليه وسلم ] هذه الجفوة وهذا الإزعاج . فنزل قوله تعالى :
( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ، والله غفور رحيم ) . .
فوصفهم الله بأن أكثرهم لا يعقلون . وكره إليهم النداء على هذه الصفة المنافية للأدب والتوقير اللائق بشخص النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وحرمة رسول الله القائد والمربي .
الحجرات : مكان سكن النبي الكريم ، كان لكل زوجة حجرة ، بيت .
كان الأعراب ( وهم قريبو عهد بالجاهلية ) أكثرهم جُفَاة يأتون إلى المدينة فيجتمعون عند حجُرات أزواج رسول الله ، وينادونه بأصواتهم المزعجة :
يا محمد ، اخرج إلينا . وكان هذا في العام التاسع من الهجرة وهو عام
« الوفود » لدخول الناس في دين الله أفواجا . فكان ذلك يؤذي النبيَّ الكريم عليه الصلاة والسلام .
فأدّبهم الله بهذا القرآن الكريم ، ووصفهم بأن أكثرهم لا يعقِلون ، ثم بين لهم أن النداء بهذا الجفاء منافٍ للأدب والتوقيرِ اللائق بشخص النبي الكريم ،
{ 4-5 } { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
نزلت هذه الآيات الكريمة ، في أناس من الأعراب ، الذين وصفهم الله تعالى بالجفاء ، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، قدموا وافدين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدوه في بيته وحجرات نسائه ، فلم يصبروا ويتأدبوا حتى يخرج ، بل نادوه : يا محمد يا محمد ، [ أي : اخرج إلينا ] ، فذمهم الله بعدم العقل ، حيث لم يعقلوا عن الله الأدب مع رسوله واحترامه ، كما أن من العقل وعلامته استعمال الأدب .
قوله تعالى : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } قرأ العامة بضم الجيم ، وقرأ أبو جعفر بفتح الجيم ، وهما لغتان ، وهي جمع الحجر ، والحجر جمع الحجرة فهي جمع الجمع . قال ابن عباس : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى بني العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري ، فلما علموا أنه توجه نحوهم هربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عيينة بن حصن وقدم بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري ، فقدموا وقت الظهيرة ، ووافقوا النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً في أهله ، فلما رأتهم الذراري اجهشوا إلى آبائهم يبكون ، وكان لكل امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم حجرة ، فعجلوا قبل أن يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعلوا ينادون : يا محمد اخرج إلينا ويصيحون حتى أيقظوه من نومه ، فخرج إليهم فقالوا : يا محمد نادنا عيالنا ، فنزل جبريل عليه السلام فقال : إن الله يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلاً ، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو ، وهو على دينكم ؟ فقالوا : نعم ، فقال سبرة : أني لا أحكم بينكم ، وعمي شاهد ، وهو الأعور بن بشامة ، فرضوا به ، فقال الأعور : أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد رضيت ، ففادى نصفهم وأعتق نصفهم ، فأنزل الله تعالى : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } وصفهم بالجهل وقلة العقل .
قوله تعالى : " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات " قال مجاهد وغيره : نزلت في أعراب بني تميم ، قدم الوفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلوا المسجد ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجرته أن اخرج إلينا ، فإن مدحنا زين وذمنا شين . وكانوا سبعين رجلا قدموا الفداء ذراري لهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم نام للقائلة . وروي أن الذي نادي الأقرع بن حابس ، وأنه القائل : إن مدحي زين وإن ذمي شين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ ذاك الله ] . ذكره الترمذي عن البراء بن عازب أيضا . وروى زيد بن أرقم فقال : أتى أناس النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس باتباعه ، وإن يكن ملكا نعش في جنابه{[14063]} . فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته : يا محمد ، يا محمد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . قيل : إنهم كانوا من بني تميم . قال مقاتل كانوا تسعة عشر : قيس بن عاصم ، والزبرقان بن بدر ، والأقرع بن حابس ، وسويد بن هاشم ، وخالد بن مالك ، وعطاء بن حابس ، والقعقاع بن معبد ، ووكيع بن وكيع ، وعيينة بن حصن وهو الأحمق المطاع ، وكان من الجرارين يجر عشرة آلاف قناة ، أي يتبعه ، وكان اسمه حذيفة وسمي عيينة لشتر{[14064]} كان في عينيه ذكر عبد الرزاق في عيينة هذا : أنه الذي نزل فيه " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " {[14065]} [ الكهف : 28 ] . وقد مضى في آخر " الأعراف " من قول لعمر رضي الله عنه ما فيه كفاية{[14066]} ، ذكره البخاري . وروي أنهم وفدوا وقت الظهيرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم راقد ، فجعلوا ينادونه : يا محمد يا محمد ، أخرج إلينا ، فاستيقظ وخرج ، ونزلت . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : [ هم جفاة بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم ] . والحجرات جمع الحجرة ، كالغرفات جمع غرفة ، والظلمات جمع ظلمة . وقيل : الحجرات جمع الحجر ، والحجر جمع حجرة ، فهو جمع الجمع . وفيه لغتان : ضم الجيم وفتحها{[14067]} . قال :
ولما رأونا باديًا رُكَبَاتنا *** على موطن لا نخلط الجِدَّ بالهَزْلِ
والحجرة : الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها . وحظيرة الإبل تسمى الحجرة ، وهي فعلة بمعنى مفعولة . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع " الحجرات " بفتح الجيم استثقالا للضمتين . وقرئ " الحجرات " بسكون الجيم تخفيفا . وأصل الكلمة المنع . وكل ما منعت أن يوصل إليه فقد حجرت عليه . ثم يحتمل أن يكون المنادي بعضا من الجملة فلهذا قال : " أكثرهم لا يعقلون " أي إن الذين ينادونك من جملة قوم الغالب عليهم الجهل .