ولو كانوا في الدنيا لقبع المستضعفون لا ينبسون ببنت شفة . ولكنهم في الآخرة حيث تسقط الهالات الكاذبة والقيم الزائفة ؛ وتتفتح العيون المغلقة وتظهر الحقائق المستورة . ومن ثم لا يسكت المستضعفون ولا يخنعون ، بل يجبهون المستكبرين بمكرهم الذي لم يكن يفتر نهاراً ولا ليلاً للصد عن الهدى ؛ وللتمكين للباطل ، ولتلبيس الحق ، وللأمر بالمنكر ، ولاستخدام النفوذ والسلطان في التضليل والإغواء :
( وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا : بل مكر الليل والنهار ، إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً ) . .
ثم يدرك هؤلاء وهؤلاء أن هذا الحوار البائس لا ينفع هؤلاء ولا هؤلاء ، ولا ينجي المستكبرين ولا المستضعفين . فلكل جريمته وإثمه . المستكبرون عليهم وزرهم ، وعليهم تبعة إضلال الآخرين وإغوائهم . والمستضعفون عليهم وزرهم ، فهم مسؤولون عن اتباعهم للطغاة ، لا يعفيهم أنهم كانوا مستضعفين . لقد كرمهم الله بالإدراك والحرية ، فعطلوا الإدراك وباعوا الحرية ورضوا لأنفسهم أن يكونوا ذيولاً وقبلوا لأنفسهم أن يكونوا مستذلين . فاستحقوا العذاب جميعاً ؛ وأصابهم الكمد والحسرة وهم يرون العذاب حاضراً لهم مهيأ :
( وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ) . .
وهي حالة الكمد الذي يدفن الكلمات في الصدور ، فلا تفوه بها الألسنة ، ولا تتحرك بها الشفاه .
ثم أخذهم العذاب المهين الغليظ الشديد :
( وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا ) . .
ثم يلتفت السياق يحدث عنهم وهم مسحوبون في الأغلال ، مهملاً خطابهم إلى خطاب المتفرجين !
( هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ? ) . .
ويسدل الستار على المستكبرين والمستضعفين من الظالمين . وكلاهما ظالم . هذا ظالم بتجبره وطغيانه وبغيه وتضليله . وهذا ظالم بتنازله عن كرامة الإنسان ، وإدراك الإنسان ، وحرية الإنسان ، وخنوعه وخضوعه للبغي والطغيان . . وكلهم في العذاب سواء . لا يجزون إلا ما كانوا يعملون . .
يسدل الستار وقد شهد الظالمون أنفسهم في ذلك المشهد الحي الشاخص . شهدوا أنفسهم هناك وهم بعد أحياء في الأرض . وشهدهم غيرهم كأنما يرونهم . وفي الوقت متسع لتلافي ذلك الموقف لمن يشاء !
" وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار " المكر أصله في كلام العرب الاحتيال والخديعة ، وقد مكر به يمكر فهو ماكر ومكار . قال الأخفش : هو على تقدير : هذا مكر الليل والنهار . قال النحاس : والمعنى - والله أعلم - بل مكركم في الليل والنهار ، أي مساواتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر حملنا على هذا . وقال سفيان الثوري : بل عملكم في الليل والنهار . قتادة : بل مكركم بالليل والنهار صدنا ؛ فأضيف المكر إليهما لوقوعه فيهما ، وهو كقوله تعالى : " إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر " {[13047]} [ نوح : 4 ] فأضاف الأجل إلى نفسه ، ثم قال : " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ، ساعة " {[13048]} [ الأعراف : 34 ] إذ كان الأجل لهم . وهذا من قبيل قولك : ليله قائم ونهاره صائم . قال المبرد : أي بل مكركم الليل والنهار ، كما تقول العرب : نهاره صائم وليله قائم . وأنشد لجرير :
لقد لُمْتِنَا يا أم غيلان في السُّرَى *** ونمتِ وما ليلُ المَطِيِّ بنائم
أي نمت فيه . ونظيره : " والنهار مبصرا " {[13049]} [ يونس : 67 ] . وقرأ قتادة : " بل مكرٌ الليلَ والنهارَ " بتنوين " مكر " ونصب " الليل والنهار " ، والتقدير : بل مكر كائن في الليل والنهار ، فحذف . وقرأ سعيد بن جبير " بل مكَرُّ " بفتح الكاف وشد الراء بمعنى الكرور ، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف . ويجوز أن يرتفع بفعل مضمر دل عليه " أنحن صددناكم " كأنهم لما قالوا لهم أنحن صددناكم عن الهدى قالوا بل صدنا مكر الليل والنهار . وروي عن سعيد بن جبير " بل مكر الليل والنهار " قال : مر الليل والنهار عليهم فغفلوا . وقيل : طول السلامة فيهما كقوله " فطال عليهم الأمد " {[13050]} [ الحديد : 16 ] . وقرأ راشد " بل مكَرَّ الليل والنهار " بالنصب ، كما تقول : رأيته مقدم الحاج ، وإنما يجوز هذا فيما يعرف ، لو قلت : رأيته مقدم زيد ، لم يجز . ذكره النحاس .
قوله تعالى : " إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا " أي أشباها وأمثالا ونظراء . قال محمد بن يزيد : فلان ند فلان ، أي مثله . ويقال نديد ، وأنشد :
أينما تجعلون إليّ ندّا *** وما أنتم لذي حسب نديدُ
وقد مضى هذا في " البقرة " {[13051]} . " وأسروا الندامة " أي أظهروها ، وهو من الأضداد يكون بمعنى الإخفاء والإبداء . قال امرؤ القيس :
تجاوزت أحراسا وأهوالَ مَعْشَرٍ *** عليّ حراصًا لو يُسِرُّون مقتلي{[13052]}
وروي " يشرون " . وقيل : " وأسروا الندامة " أي تبينت الندامة في أسرار وجوههم . قيل : الندامة لا تظهر ، وإنما تكون في القلب ، وإنما يظهر ما يتولد عنها ، حسبما تقدم بيانه في سورة " يونس{[13053]} ، وآل عمران " . وقيل : إظهارهم الندامة قولهم : " فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين " {[13054]} [ الشعراء : 102 ] . وقيل : أسروا الندامة فيما بينهم ولم يجهروا القول بها ؛ كما قال : " وأسروا النجوى " {[13055]} [ الأنبياء : 3 ] .
قوله تعالى : " وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا " الأغلال جمع غل ، يقال : في رقبته غل من حديد . ومنه قيل للمرأة السيئة الخلق : غل قمل ، وأصله أن الغل كان يكون من قد وعليه شعر فيقمل وغللت يده إلى عنقه ؛ وقد غل فهو مغلول ، يقال : ما له أُلَّ وغُلَّ{[13056]} . والغل أيضا والغلة : حرارة العطش ، وكذلك الغليل ، يقال منه : غل الرجل يغل غللا فهو مغلول ، على ما لم يسم فاعله ، عن الجوهري . أي جعلت الجوامع في أعناق التابعين والمتبوعين . قيل من غير هؤلاء الفريقين . وقيل يرجع " الذين كفروا " إليهم . وقيل : تم الكلام عند قوله : " لما رأوا العذاب " ثم ابتدأ فقال : " وجعلنا الأغلال " بعد ذلك في أعناق سائر الكفار . " هل يجزون إلا ما كانوا يعملون " في الدنيا .
قوله : { وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } المكر – في اللغة – بمعنى : الاحتيال والخديعة . وقد مكر به فهو ماكر ومكار{[3815]} أي يقول التابعون المستضعفون لرؤسائهم وكبرائهم الذين استذلوهم واستخفوهم في الدنيا ، إن مكركم في الليل والنهار بائتماركم بنا وتمالئكم علينا لصدنا عن دين الله قد حملنا على التكذيب والإشراك بالله ، وهو قوله : { إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } والأنداد بمعنى : النظراء والأمثال . وهو جمع ند أي نظير{[3816]} أي حي كنتم باحتيالكم علينا وخداعكم لنا تحملوننا على الكفر بالله ورسوله واتخاذ الآلهة المصطنعة لنعبدها من دون الله .
تلك هي حال المستضعفين والمنافقين من الناس في كل زمان ؛ إذ يستخفّهم الغواة والطغاة من الكبراء والأمراء والسادة وهم يزينون لهم الكفر والعصيان وفعل المنكرات ويكرِّهون إليهم الإيمان والاستقامة فيشاركونهم في الضلال والباطل .
ذلك هو ديدن المضلين المخادعين في كل زمان ؛ إذ يضلون الخائرين المستضعفين اللاهثين وراء المفسدين من العتاة والمتجبِّرين الذين يحملونهم على الفسق ومخالفة أوامر الله حتى إذا قضى الله بين الفريقين – الضالين والمضلين – يوم القيامة أفضوا جميعا إلى سوء المصير فكُبكبوا في النار خاسرين مدحورين .
قوله : { وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ } إذا عاين الضالون والمضلون العذاب يوم القيامة ، عضهم الندم وغشيت قلوبهم الحسرة على ما فرطوا في دين الله ؛ إذ فسقوا عن أمر ربهم وركنوا في دنياهم للكفر والباطل وأوغلوا في الآثام والمعاصي .
قوله : { وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ } { الأغْلالَ } القيود . أي لم يجد المجرمون الخاسرون من التابعين والمتبوعين مناصا من العذاب وإنما يساقون إلى النار مقهورين خزايا وقد غُلَّت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل والقيود .
قوله : { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } لم يفعل الله بهؤلاء التابعين والمتبوعين الخاسرين ، مثل هذا التنكيل إلا جزاء بما كانوا يعملون في دنياهم من تكذيب وعصيان وصدٍّ عن دين الله ، سواء في ذلك الضالون التابعون من المنافقين والأوباش ، أو المضلون المتبوعون من السادة والقادة المجرمين{[3817]} .