في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ} (12)

وهنا يؤكد وقوع البعث ؛ ودقة الحساب ، الذي لا يفوته شيء :

( إنا نحن نحيي الموتى ، ونكتب ما قدموا وآثارهم ، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) . .

وإحياء الموتى هو إحدى القضايا التي استغرقت جدلاً طويلاً . وسيرد منه في هذه السورة أمثلة منوعة . وهو ينذرهم أن كل ما قدمت أيديهم من عمل ، وكل ما خلفته أعمالهم من آثار ، كلها تكتب وتحصى ، فلا يند منها شيء ولا ينسى . والله سبحانه هو الذي يحيي الموتى ، وهو الذي يكتب ما قدموا وآثارهم ، وهو الذي يحصي كل شيء ويثبته . فلا بد إذن من وقوع هذا كله على الوجه الذي يليق بكل ما تتولاه يد الله .

والإمام المبين . واللوح المحفوظ . وأمثالها . أقرب تفسير لها هو علم الله الأزلي القديم وهو بكل شيء محيط .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ} (12)

فيه أربع مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " إنا نحن نحيي الموتى " أخبرنا تعالى بإحيائه الموتى ردا على الكفرة . وقال الضحاك والحسن : أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل . والأول أظهر ، أي نحييهم بالبعث للجزاء . ثم توعدهم بذكره كَتْب الآثار وهي :

الثانية- وإحصاء كل شيء وكل ما يصنعه الإنسان . قال قتادة : معناه من عمل . وقاله مجاهد وابن زيد . ونظيره قوله : " علمت نفس ما قدمت وأخرت " : [ الانفطار : 5 ] وقوله : " ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " [ القيامة : 13 ] ، وقال : " اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد " [ الحشر : 18 ] فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعد الإنسان من خير أو شر يجازى عليها : من أثر حسن ، كعلم علموه ، أو كتاب صنفوه ، أو حبيس احتبسوه ، أو بناء بنوه من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك . أو سيئ كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين ، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم ، أو شيء أحدثه فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاه ، وكذلك كل سنة حسنة ، أو سيئة يستن بها . وقيل : هي آثار المشائين إلى المساجد . وعلى هذا المعنى تأول الآية عمر وابن عباس وسعيد بن جبير . وعن ابن عباس أيضا أن معنى : " وآثارهم " خطاهم إلى المساجد . قال النحاس : وهذا أولى ما قيل فيه ؛ لأنه قال : إن الآية نزلت في ذلك ؛ لأن الأنصار كانت منازلهم بعيدة عن المسجد . وفي الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يكتب له برجل حسنة وتحط عنه برجل سيئة ذاهبا وراجعا إذا خرج إلى المسجد ) .

قلت : وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : كانت بنو سلمة{[13196]} في ناحية المدينة فأردوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية : " إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن آثاركم تكتب ) فلم ينتقلوا . قال : هذا حديث حسن{[13197]} غريب من حديث الثوري . وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال : أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد . قال : والبقاع خالية ؛ قال : فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم ) فقالوا : ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا . وقال ثابت البناني : مشيت مع أنس بن مالك إلى الصلاة فأسرعت ، فحبسني فلما انقضت الصلاة قال : مشيت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأسرعت ، فحبسني فلما انقضت الصلاة قال : ( أما علم أن الآثار تكتب ) فهذا احتجاج بالآية . وقال قتادة ومجاهد أيضا والحسن : الآثار في هذه الآية الخطا . وحكى الثعلبي عن أنس أنه قال : الآثار هي الخطا إلى الجمعة . وواحد الآثار أثر ويقال أثر .

الثالثة- في هذه الأحاديث المفسرة لمعنى الآية دليل على أن البعد من المسجد أفضل ، فلو كان بجوار مسجد ، فهل له أن يجاوزه إلى الأبعد ؟ اختلف فيه ، فروي عن أنس أنه كان يجاوز المحدث إلى القديم . وروي عن غيره : الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا . وكره الحسن وغيره هذا . وقال : لا يدع مسجدا قربه ويأتي غيره . وهذا مذهب مالك . وفي تخطي مسجده إلى المسجد الأعظم قولان . وخرج ابن ماجه من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( صلاة الرجل في بيته بصلاة وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة وصلاته في المسجد الذي يجمع{[13198]} فيه بخمسمائة صلاة ) .

الرابعة- " دياركم " منصوب على الإغراء أي ألزموا ، و( تكتب ) جزم على جواب ذلك الأمر . ( وكل ) نصب بفعل مضمر يدل عليه " أحصيناه " كأنه قال : وأحصينا كل شيء أحصيناه . ويجوز رفعه بالابتداء إلا أن نصبه أولى ؛ ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل . وهو قول الخليل وسيبويه . والإمام : الكتاب المقتدى به الذي هو حجة . وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : أراد اللوح المحفوظ . وقالت فرقة : أراد صحائف الأعمال .


[13196]:سلمة بكسر اللام بطن من الأنصار.
[13197]:الزيادة من صحيح الترمذي.
[13198]:يجمع (بالتشديد) من التجمع، أي يصلي فيه الجمعة.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ} (12)

قوله : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ } ذلك واحد من المعاني العظيمة المكررة في الكتاب الحكيم التي يؤكد الله فيها على إحياء الموتى ، وبعثهم من قبورهم ليلاقوا الحساب يوم القيامة .

أما قوله : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا } أي أن الله يحصي عليهم أعمالهم من خير أو شر فيكتبها جميعا .

أما قوله : { وَآَثَارَهُمْ } أي آثار خطاهم بأرجلهم ؛ فقد روي عن أبي سعد الخدري قال : كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ } فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إن آثاركم تكتب فلم تنتقلون ؟ " {[3887]}

وقيل : تكتب لهم أعمالهم بأنفسهم ، وما ترتب عليها من آثار بقيت من بعدهم ؛ فإن الله مجازيهم عنها إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ . وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : " من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن يُنقَصَ من أوزارهم شيء " .

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم اقطع عمله من ثلاث : من علم يُنتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده " .

قوله : { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } { وَكُلَّ } ، منصوب بفعل مضمر دلَّ عليه الفعل بعده { أحْصَيْنَاهُ } والتقدير : وأحصينا كل شيء أحصيناه . والإمام المبين ههنا يراد به أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ وفيه علم الله وعلمه محيط بكل شيء . فما من كائن ولا حدث إلا علمه مسطور في هذا الكتاب . وقيل : المراد بالإمام هنا صحائف الأعمال . وذلك هو كتاب أعمالهم يشهد عليهم بما عملوه من خير أو شر{[3888]} .


[3887]:أسباب النزول للنيسابوري ص 245
[3888]:تفسير القرطبي ج 15 ص 10-13 وتفسير الرازي ج 26 ص 46 والكشاف ج 3 ص 316 وتفسير الطبري ج 22 ص 99-100