في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يسٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة يس مكية وآياتها ثلاث وثمانون

هذه السورة المكية ذات فواصل قصيرة . وإيقاعات سريعة . ومن ثم جاء عدد آياتها ثلاثاً وثمانين ، بينما هي أصغر وأقصر من سابقتها - سورة فاطر - وعدد آياتها خمس وأربعون .

وقصر الفواصل مع سرعة الإيقاع يطبع السورة بطابع خاص ، فتتلاحق إيقاعاتها ، وتدق على الحس دقات متوالية ، يعمل على مضاعفة أثرها ما تحمله معها من الصور والظلال التي تخلعها المشاهد المتتابعة من بدء السورة إلى نهايتها . وهي متنوعة وموحية وعميقة الآثار .

والموضوعات الرئيسية للسورة هي موضوعات السور المكية . وهدفها الأول هو بناء أسس العقيدة . فهي تتعرض لطبيعة الوحي وصدق الرسالة منذ افتتاحها : ( يس . والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين . على صراط مستقيم . تنزيل العزيز الرحيم . . . ) . وتسوق قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون ، لتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة ؛ وتعرض هذه العاقبة في القصة على طريقة القرآن في استخدام القصص لتدعيم قضاياه . وقرب نهاية السورة تعود إلى الموضوع ذاته : ( وما علمناه الشعر - وما ينبغي له - إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ) . .

كذلك تتعرض السورة لقضية الألوهية والوحدانية . فيجيء استنكار الشرك على لسان الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ليحاج قومه في شأن المرسلين وهو يقول : وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ? أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون ? إني إذاً لفي ضلال مبين . . وقرب ختام السورة يجيء ذكر هذا الموضوع مرة أخرى : ( واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون . لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون ) . .

والقضية التي يشتد عليها التركيز في السورة هي قضية البعث والنشور ، وهي تتردد في مواضع كثيرة في السورة . تجيء في أولها : ( إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) . . وتأتي في قصة أصحاب القرية ، فيما وقع للرجل المؤمن . وقد كان جزاؤها العاجل في السياق : ( قيل : ادخل الجنة . قال : يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) . . ثم ترد في وسط السورة : ( ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ) . . ثم يستطرد السياق إلى مشهد كامل من مشاهد القيامة . وفي نهاية السورة ترد هذه القضية في صورة حوار ( وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه . قال : من يحيي العظام وهي رميم ? قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم . .

هذه القضايا المتعلقة ببناء العقيدة من أساسها ، تتكرر في السور المكية . ولكنها تعرض في كل مرة من زاوية معينة ، تحت ضوء معين ، مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها ، وتتناسق مع إيقاعها وصورها وظلالها .

هذه المؤثرات منتزعة في هذه السورة من مشاهد القيامة - بصفة خاصة - ومن مشاهد القصة ومواقفها وحوارها . ومن مصارع الغابرين على مدار القرون . ثم من المشاهد الكونية الكثيرة المتنوعة الموحية : مشهد الأرض الميتة تدب فيها الحياة . ومشهد الليل يسلخ منه النهار فإذا هو ظلام . ومشهد الشمس تجري لمستقر لها . ومشهد القمر يتدرج في منازله حتى يعود كالعرجون القديم . ومشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين . ومشهد الأنعام مسخّرة للآدميين . ومشهد النطفة ثم مشهدها إنساناً وهو خصيم مبين ! ومشهد الشجر الأخضر تكمن فيه النار التي يوقدون !

وإلى جوار هذه المشاهد مؤثرات أخرى تلمس الوجدان الإنساني وتوقظه : منها صورة المكذبين الذين حقت عليهم كلمة الله بكفرهم فلم تعد تنفعهم الآيات والنذر : ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ؛ وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) . ومنها صورة نفوسهم في سرهم وفي علانيتهم مكشوفة لعلم الله لا يداريها منه ستار . . ومنها تصوير وسيلة الخلق بكلمة لا تزيد : ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن . فيكون ) . . وكلها مؤثرات تلمس القلب البشري وهو يرى مصداقها في واقع الوجود .

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة أشواط :

يبدأ الشوط الأول بالقسم بالحرفين : يا . سين وبالقرآن الحكيم ، على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه على صراط مستقيم . يتلو ذلك الكشف عن النهاية البائسة للغافلين الذين يكذبون . وهي حكم الله عليهم بألا يجدوا إلى الهداية سبيلاً ، وأن يحال بينهم وبينها أبداً . وبيان أن الإنذار إنما ينفع من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ؛ فاستعد قلبه لاستقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان . . ثم يوجه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى أن يضرب لهم مثلاً أصحاب القرية ، فيقص قصة التكذيب وعاقبة المكذبين . كما يعرض طبيعة الإيمان في قلب الرجل المؤمن وعاقبة الإيمان والتصديق . .

ومن ثم يبدأ الشوط الثاني بنداء الحسرة على العباد الذين ما يفتأون يكذبون كل رسول ويستهزئون به . غير معتبرين بمصارع المكذبين ، ولا متيقظين لآيات الله في الكون وهي كثير . . وهنا يعرض تلك المشاهد الكونية التي سبقت الإشارة إليها في تقديم السورة ، كما يعرض مشهداً مطولاً من مشاهد القيامة فيه الكثير من التفصيل .

والشوط الثالث يكاد يلخص موضوعات السورة كلها . فينفي في أوله أن ما جاء به محمد [ صلى الله عليه وسلم ] شعر ، وينفي عن الرسول كل علاقة بالشعر أصلاً . ثم يعرض بعض المشاهد واللمسات الدالة على الألوهية المتفردة ، وينعى عليهم اتخاذ آلهة من دون الله يبتغون عندهم النصر وهم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة المدعاة ! . ويتناول قضية البعث والنشور فيذكرهم بالنشأة الأولى من نطفة ليروا أن إحياء العظام وهي رميم كتلك النشأة ولا غرابة ! ويذكرهم بالشجر الأخضر الذي تكمن فيه النار وهما في الظاهر بعيد من بعيد ! وبخلق السماوات والأرض وهو شاهد بالقدرة على خلق أمثالهم من البشر في الأولى والآخرة . . وأخيراً يجيء الإيقاع الأخير في السورة : ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن . فيكون . فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ) .

والآن نأخذ بعد هذا العرض المجمل في التفصيل . .

( يس . والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين . على صراط مستقيم . تنزيل العزيز الرحيم . لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون . لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون . إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون . وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون . وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم . إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين . . )

يقسم الله سبحانه بهذين الحرفين : يا . سين كما يقسم بالقرآن الحكيم . وهذا الجمع بين الأحرف المقطعة والقرآن يرجح الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور ؛ والعلاقة بين ذكرها وذكر القرآن . وأن آية كونه من عند الله ، الآية التي لا يتدبرونها فيردهم القرآن إليها ، أنه مصوغ من جنس هذه الأحرف الميسرة لهم ؛ ولكن نسقه التفكيري والتعبيري فوق ما يملكون صياغته من هذه الحروف .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يسٓ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية بإجماع . وهي ثلاث وثمانون آية ، إلا أن فرقة قالت : إن قوله تعالى " ونكتب ما قدموا وآثارهم " [ يس : 12 ] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم ، وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، على ما يأتي . وفي كتاب أبي داود عن معقل بن يسار قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اقرؤوا يس على موتاكم ) . وذكر الآجري من حديث أم الدرداء{[1]} عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من ميت يقرأ عليه سورة يس إلا هون الله عليه ) . وفي مسند الدارمي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ سورة يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة ) خرجه أبو نعيم الحافظ أيضا . وروى الترمذي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ، ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات ) قال : هذا حديث غريب ، وفي إسناده هارون أبو محمد شيخ مجهول . وفي الباب عن أبي بكر الصديق ، ولا يصح حديث أبي بكر من قبل إسناده ، وإسناده ضعيف . وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن في القرآن لسورة تشفع لقرائها ويغفر لمستمعها ألا وهي سورة يس تدعى في التوراة المعمة ) قيل : يا رسول الله وما المعمة ؟ قال : تعم صاحبها بخير الدنيا وتدفع عنه أهاويل الآخرة ، وتدعى الدافعة والقاضية قيل : يا رسول الله وكيف ذلك ؟ قال : تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة ومن قرأها عدلت له عشرين حجة ، ومن سمعها كانت له كألف دينار تصدق بها في سبيل الله ، ومن كتبها وشربها أدخلت جوفه ألف دواء وألف نور وألف يقين وألف رحمة وألف رأفة وألف هدى ونزع عنه كل داء وغل ) . ذكره الثعلبي من حديث عائشة ، والترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مسندا . وفي مسند الدارمي عن شهر بن حوشب قال : قال ابن عباس : من قرأ " يس " حين يصبح أعطي يسر يومه حتى يمسي ، ومن قرأها في صدر ليلته أعطي يسر ليلته حتى يصبح . وذكر النحاس عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لكل شيء قلب وقلب القرآن يس من قرأها نهارا كفي همه ومن قرأها ليلا غفر ذنبه . وقال شهر بن حوشب : يقرأ أهل الجنة " طه " و " يس " فقط .

رفع هذه الأخبار الثلاثة الماوردي فقال : روى الضحاك عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن لكل شيء قلبا وإن قلب القرآن يس ، ومن قرأها في ليلة أعطي يسر تلك الليلة ، ومن قرأها في يوم أعطي يسر ذلك اليوم ، وإن أهل الجنة يرفع عنهم القرآن فلا يقرؤون شيئا إلا طه ويس ) . وقال يحيى بن أبي كثير : بلغني أن من قرأ سورة " يس " ليلا لم يزل في فرح حتى يصبح ، ومن قرأها حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي . وقد حدثني من جربها . ذكره الثعلبي وابن عطية . قال ابن عطية : ويصدق ذلك التجربة . وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن الصلت عن عمر بن ثابت عن محمد بن مروان عن أبي جعفر قال : من وجد في قلبه قساوة فليكتب " يس " في جام بزعفران ثم يشربه . حدثني أبي رحمه الله قال : حدثنا أصرم بن حوشب ، عن بقية بن الوليد ، عن المعتمر بن أشرف ، عن محمد بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( القرآن أفضل من كل شيء دون الله وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ، فمن وقر القرآن فقد وقر الله ، ومن لم يوقر القرآن لم يوقر الله ، وحرمة القرآن عند الله كحرمة الوالد على ولده . القرآن شافع مشفع وماحل{[2]} مصدق فمن شفع له القرآن شفع ، ومن محل به القرآن صُدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار . وحملة القرآن هم المحفوفون بحرمة الله الملبسون نور الله المعلمون كلام الله من والاهم فقد والى الله ومن عاداهم فقد عادى الله ، يقول الله تعالى : يا حملة القرآن استجيبوا لربكم بتوقير كتابه يزدكم حبا ويحببكم إلى عباده يدفع عن مستمع القرآن بلوى الدنيا ويدفع عن تالي{[3]} القرآن بلوى الآخرة ، ومن استمع آية من كتاب الله كان له أفضل مما تحت العرش إلى التخوم ، وإن في كتاب الله لسورة تدعى العزيزة ويدعى صاحبها الشريف يوم القيامة تشفع لصاحبها في أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة يس ) . وذكر الثعلبي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قرأ سورة يس ليلة الجمعة أصبح مغفورا له ) . وعن أنس أن رسول الله صلى قال : ( من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد حروفها حسنات ) .

قوله تعالى : " يس " في " يس " أوجه من القراءات : قرأ أهل المدينة والكسائي " يس والقرآن الحكيم " بإدغام النون في الواو . وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة " يس " بإظهار النون . وقرأ عيسى بن عمر " يسن " بنصب النون . وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم " يسن " بالكسر . وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميقع " يسن " بضم النون ، فهذه خمس قراءات . القراءة الأولى بالإدغام على ما يجب في العربية ؛ لأن النون تدغم في الواو . ومن بين قال : سبيل حروف الهجاء أن يوقف عليها ، وإنما يكون الإدغام في الإدراج . وذكر سيبويه النصب وجعله من جهتين : إحداهما أن يكون مفعولا ولا يصرفه ؛ لأنه عنده اسم أعجمي بمنزلة هابيل ، والتقدير أذكر يسين . وجعله سيبويه اسما للسورة . وقوله الآخر أن يكون مبنيا على الفتح مثل كيف وأين . وأما الكسر فزعم الفراء أنه مشبه بقول العرب جير لا أفعل ، فعلى هذا يكون " يسن " قسما . وقاله ابن عباس . وقيل : مشبه بأمس وحذام وهؤلاء ورقاش . وأما الضم فمشبه بمنذ وحيث وقط ، وبالمنادى المفرد إذا قلت يا رجل ، لمن يقف عليه . قال ابن السميقع وهارون : وقد جاء في تفسيرها رجل فالأولى بها الضم . قال ابن الأنباري " " يس " وقف حسن لمن قال هو افتتاح للسورة . ومن قال : معنى " يس " يا رجل لم يقف عليه . وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أن معناه يا إنسان ، وقالوا في قوله تعالى : " سلام على إل ياسين " [ الصافات : 130 ] أي على آل محمد . وقال سعيد بن جبير : هو اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم ، ودليله " إنك لمن المرسلين " . قال السيد الحميري :

يا نفس لا تمَحضِي بالنصح جاهدةً *** على المودة إلا آلَ ياسينَ

وقال أبو بكر الوراق : معناه يا سيد البشر . وقيل : إنه اسم من أسماء الله ؛ قال مالك . روى عنه أشهب قال : سألته هل ينبغي لأحد أن يتسمى بياسين ؟ قال : ما أراه ينبغي لقول الله : " يس والقرآن الحكيم " يقول هذا اسمي يس . قال ابن العربي هذا كلام بديع ، وذلك أن العبد يجوز له أن يتسمى باسم الرب إذا كان فيه معنى منه . كقوله : عالم وقادر ومريد ومتكلم . وإنما منع مالك من التسمية ب " يسين " ؛ لأنه اسم من أسماء الله لا يدرى معناه ، فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن يقدم عليه العبد . فإن قيل فقد قال الله تعالى : " سلام على إل ياسين " [ الصافات : 130 ] قلنا : ذلك مكتوب بهجاء فتجوز التسمية به ، وهذا الذي ليس بمتهجى هو الذي تكلم مالك عليه ؛ لما فيه من الإشكال . والله أعلم . وقال بعض العلماء : افتتح الله هذه السورة بالياء والسين وفيهما مجمع الخير : ودل المفتتح على أنه قلب ، والقلب أمير على الجسد ، وكذلك " يس " أمير على سائر السور ، مشتمل على جميع القرآن . ثم اختلفوا فيه أيضا . فقال سعيد بن جبير وعكرمة : هو بلغة الحبشة . وقال الشعبي : هو بلغة طي . الحسن : بلغة كلب . الكلبي : هو بالسريانية فتكلمت به العرب فصار من لغتهم . وقد مضى هذا المعنى في " طه " {[13186]} وفي مقدمة الكتاب مستوفى . وقد سرد القاضي عياض أقوال المفسرين في معنى " يس " فحكى أبو محمد مكي أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لي عند ربي عشرة أسماء ) ذكر أن منها طه ويس اسمان له . قلت : وذكر الماوردي عن علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله تعالى أسماني في القرآن سبعة أسماء محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبد الله ) قاله القاضي . وحكى أبو عبدالرحمن السلمي عن جعفر الصادق أنه أراد يا سيد ، مخاطبة لنبيه صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس : " يس " يا إنسان أراد محمدا صلى الله عليه وسلم . وقال : هو قسم وهو من أسماء الله سبحانه . وقال الزجاج : قيل معناه يا محمد وقيل يا رجل وقيل يا إنسان . وعن ابن الحنفية : " يس " يا محمد . وعن كعب : " يس " قسم أقسم الله به قبل أن يخلق السماء والأرض بألفي عام قال{[13187]} يا محمد : " إنك لمن المرسلين " ثم قال : " والقرآن الحكيم " . فإن قدر أنه من أسمائه صلى الله عليه وسلم ، وصح فيه أنه قسم كان فيه من التعظيم ما تقدم ، مؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه . وإن كان بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته . أقسم الله تعالى باسمه وكتابه أنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده ، وعلى صراط مستقيم من إيمانه ، أي طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق . قال النقاش : لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له ، وفيه من تعظيمه وتمجيده على تأويل من قال إنه يا سيد ما فيه ، وقد قال عليه السلام : ( أنا سيد ولد آدم ) انتهى كلامه . وحكى القشيري قال ابن عباس : قالت كفار قريش لست مرسلا وما أرسلك الله إلينا ، فأقسم الله بالقرآن المحكم أن محمدا من المرسلين . " الحكيم " المحكم حتى لا يتعرض لبطلان وتناقض ؛ كما قال : " أحكمت آياته " [ هود : 1 ] . وكذلك أحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل . وقد يكون " الحكيم " في حق الله بمعنى المحكم بكسر الكاف كالأليم بمعنى المؤلم .


[1]:لعله عمرو بن مرة المذكور في سند الحديث (انظر ابن ماجه ج 1 ص 139 وسنن أبي داود ج 1 ص 77 طبع مصر).
[2]:في بعض النسخ: "أبي قاسم"
[3]:في بعض النسخ: "المسيي".
[13186]:راجع ج 11 ص 165 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. و ج 1 ص 67 وما بعدها طبعة ثانية.
[13187]:زيادة يقتضيها المقام، ويدل عليها ما ورد في "الدر المنثور" للسيوطي عن كعب.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{يسٓ} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة

هذه السورة مكية كلها ، وفيها من جليل المعاني والأمثال وألوان التذكير والتحذير والعبر ما فيه للناس من بالغ المزدجر وما به ينبهر أولو النُُّهى ويزداد به النابهون الذاكرون يقينا بأن هذا القرآن معجز وأنه منزّل من لدن حكيم خبير مقتدر .

وتعْرضُ هذه السورة لفيض من الحقائق والمشاهد والعبر المختلفة التي تلتئم فيما بينها وتنسجم لتتكون من مجموعها هذه السورة المباركة الفضلى وهي سورة تفيض بالبركة والعظة والنور ، وفيها من بالغ المواعظ ما يمسُّ الحس والوجدان أوقع حس .

وفي بركة هذه السورة وعظيم شأنها أخرج أبو يعلى عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ يس في ليلة ، أصبح مغفورا له " وروى الإمام أحمد عن معقل بن يسار ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرؤوها على موتاكم " يعني يس . والمراد قراءتها عند الاحتضار تسهيلا لخروج الروح ؛ ولهذا قال بعض العلماء : إن من خصائص سورة يس أن لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسَّره الله تعالى ؛ وذلك لأن قراءتها عند الميت تتنزل بها الرحمة والبركة ، فيسهل عليه خروج الروح .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ يس ( 1 ) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ ( 2 ) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 3 ) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 4 ) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( 5 ) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ( 6 ) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } .

اختلفوا في المراد بقوله : { يس } على عدة أقوال منها : أن هذا قسم أقسمه الله ، وهو من أسماء الله تعالى . ومنها : أن { يس } يعني : يا إنسان بلسان الحبشة ، أو يا رجل . ومنها : أنه كنّى به النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : يا ياسين . أي يا سيد . ومنها : أنه اسم من أسماء القرآن . ومنها : أنه مفتاح كلام افتتح الله به كلامه . والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .