ونعود بعد هذا الاستطراد إلى النص القرآني . فنجده - بعد تحديد القيم في أمر الدنيا والآخرة ؛ وتحقيق قوله تعالى : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه )في صورة عملية في حياة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأهل بيته . . نجده بعد هذا البيان يأخذ في بيان الجزاء المدخر لأزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وفيه خصوصية لهن وعليهن ، تناسب مقامهن الكريم ، ومكانهن من رسول الله المختار :
( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا . ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين ، وأعتدنا لها رزقا كريما ) . .
إنها تبعة المكان الكريم الذي هن فيه . وهن أزواج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهن أمهات المؤمنين . وهذه الصفة وتلك كلتاهما ترتبان عليهن واجبات ثقيلة ، وتعصمانهن كذلك من مقارفة الفاحشة . فإذا فرض وقارفت واحدة منهن فاحشة مبينة واضحة لا خفاء فيها ، كانت مستحقة لضعفين من العذاب . وذلك فرض يبين تبعة المكان الكريم الذي هن فيه . . ( وكان ذلك على الله يسيرا ) . . لا تمنعه ولا تصعبه مكانتهن من رسول الله المختار . كما قد يتبادر إلى الأذهان !
الأولى- قال العلماء : لما اختار نساء النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم شكرهن الله على ذلك فقال تكرمة لهن : " لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج " [ الأحزاب : 52 ] الآية . وبين حكمهن عن غيرهن فقال : " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا " {[12796]} [ الأحزاب : 53 ] وجعل ثواب طاعتهن وعقاب معصيتهن أكثر مما لغيرهن فقال : " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين " فأخبر تعالى أن من جاء من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بفاحشة - والله عاصم رسوله عليه السلام من ذلك كما مر في حديث الإفك{[12797]} - يضاعف لها العذاب ضعفين ، لشرف منزلتهن وفضل درجتهن ، وتقدمهن على سائر النساء أجمع . وكذلك بينت الشريعة في غير ما موضع حسبما تقدم بيانه غير مرة - أنه كلما تضاعفت الحرمات فهتكت تضاعفت العقوبات ، ؛ ولذلك ضوعف حد الحر على العبد والثيب على البكر . وقيل : لما كان أزوج النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله ونواهيه ، قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن ، فضوعف لهن الأجر والعذاب . وقيل ، إنما ذلك لعظم الضرر في جرائمهن بإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت العقوبة على قدر عظم الجريمة في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال تعالى : " إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة " {[12798]} [ الأحزاب : 57 ] . واختار هذا القول الكيا الطبري .
الثانية- قال قوم : لو قدر الزنى من واحدة منهن - وقد أعاذهن الله من ذلك - لكانت تحد حدين لعظم قدرها ، كما يزاد حد الحرة على الأمة . والعذاب بمعنى الحد ، قال الله تعالى : " وليشهد عذابهما طائفة{[12799]} من{[12800]} المؤمنين " [ النور : 2 ] . وعلى هذا فمعنى الضعفين معنى المثلين أو المرتين ، وقال أبو عبيدة : ضعف الشيء شيئان حتى يكون ثلاثة . وقاله أبو عمرو فيما حكى الطبري عنه ، فيضاف إليه عذابان مثله فيكون ثلاثة أعذبة . وضعفه الطبري . وكذلك هو غير صحيح ، وإن كان له باللفظ تعلق الاحتمال . وكون الأجر مرتين مما يفسد هذا القول ؛ لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة ، قاله ابن عطية . وقال النحاس : فرق أبو عمرو بين " يضاعف ويضعف " قال : " يضاعف " للمرار الكثيرة . و " يضعف " مرتين . وقرأ " يضعف " لهذا . وقال أبو عبيدة : " يضاعف لها العذاب " يجعل ثلاثة أعذبة . قال النحاس : التفريق الذي جاء به أبو عمرو وأبو عبيدة لا يعرفه أحد من أهل اللغة علمته ، والمعنى في " يضاعف ويضعف " واحد ، أي يجعل ضعفين ، كما تقول : إن دفعت إلي درهما دفعت إليك ضعفيه ، أي مثليه ، يعني درهمين . ويدل على هذا " نؤتها أجرها مرتين " ولا يكون العذاب أكثر من الأجر . وقال في موضع آخر " آتهم ضعفين من العذاب " {[12801]} [ الأحزاب : 68 ] أي مثلين . وروى معمر عن قتادة " يضاعف لها العذاب ضعفين " قال : عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . قال القشيري أبو نصر : الظاهر أنه أراد بالضعفين المثلين ، لأنه قال : " نؤتها أجرها مرتين " . فأما في الوصايا ، لو أوصي لإنسان بضعفي نصيب ولده فهو وصية بأن يعطي مثل نصيبه ثلاث مرات ، فإن الوصايا تجري على العرف فيما بين الناس ، وكلام الله يرد تفسيره إلى كلام العرب ، والضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد ، وليس بمقصور على مثلين . يقال : هذا ضعف هذا ، أي مثله . وهذا ضعفاه ، أي مثلاه ، فالضعف في الأصل زيادة غير محصورة ، قال الله تعالى : " فأولئك لهم جزاء الضعف " {[12802]} [ سبأ : 37 ] ولم يرد مثلا ولا مثلين . كل هذا قول الأزهري . وقد تقدم في " النور " الاختلاف في حد من قذف واحدة منهن{[12803]} ، والحمد لله .
الثالثة- قال أبو رافع : كان عمر رضي الله عنه كثيرا ما يقرأ سورة يوسف وسورة الأحزاب في الصبح ، وكان إذا بلغ " يا نساء النبي " رفع بها صوته ، فقيل له في ذلك ، فقال : ( أذكرهن العهد ) . قرأ الجمهور : " من يأت " بالياء . وكذلك " من يقنت " حملا على لفظ " من " . والقنوت الطاعة ، وقد تقدم{[12804]} . وقرأ يعقوب : " من تأت " و " تقنت " بالتاء من فوق ، حملا على المعنى . وقال قوم : الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنى واللواط . وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي . وإذا وردت منعوتة فهي عقوق الزوج وفساد عشرته . وقالت فرقة : بل قوله " فاحشة مبينة " تعم جميع المعاصي . وكذلك الفاحشة كيف وودت . وقرأ ابن كثير " مبينة " بفتح الياء . وقرأ نافع وأبو عمرو بكسرها . وقرأت فرقة : " يضاعف " بكسر العين على إسناد الفعل إلى الله تعالى ، وقرأ أبو عمرو فيما روى خارجة " يضاعف " بالنون المضمومة ونصب " العذاب " وهذه قراءة ابن محيصن . وهذه مفاعلة من واحد ، كطارقت النعل وعاقبت اللص . وقرأ نافع وحمزة والكسائي " يضاعف " بالياء وفتح العين ، " العذاب " رفعا . وهي قراءة الحسن وابن كثير وعيسى . وقرأ ابن كثير وابن عامر " نضعف " بالنون وكسر العين المشددة ، " العذاب " نصبا . قال مقاتل هذا التضعيف في عذاب إنما هو في الآخرة ؛ لأن إيتاء الأجر مرتين أيضا في الآخرة . وهذا حسن ؛ لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لا يأتين بفاحشة توجب حدا . وقد قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، وإنما خانت في الإيمان والطاعة . وقال بعض المفسرين : العذاب الذي توعدن به " ضعفين " هو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فكذلك الأجر . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، اللهم إلا أن يكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا ترفع عنهن حدود الدنيا عذاب الآخرة ، على ما هي حال الناس عليه ، بحكم حديث عبادة بن الصامت{[12805]} . وهذا أمر لم يرو في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا حفظ تقرره . وأهل التفسير على أن الرزق الكريم الجنة . ذكره النحاس .
{ بفاحشة مبينة } قيل : يعني الزنا ، وقيل : يعني عصيان زوجهن عليه الصلاة والسلام ، أو تكليفه ما يشق عليه ، وقيل : عموم في المعاصي .
{ يضاعف لها العذاب ضعفين } أي : يكون عذابها في الآخرة مثل عذاب غيرها مرتين ، وإنما ذلك لعلو رتبتهن ، لأن كل أحد يطالب على مقدار حاله وقرئ يضاعف بالياء ورفع العذاب على البناء للمفعول وبالنون ونصب العذاب على البناء للفاعل .