( لتركبن طبقا عن طبق ) . . أي لتعانون حالا بعد حال ، وفق ما هو مرسوم لكم من تقديرات وأحوال . ويعبر عن معاناة الأحوال المتعاقبة بركوبها . والتعبير بركوب الأمور والأخطار والأهوال والأحوال مألوف في التعبير العربي ، كقولهم : " إن المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه " . . وكأن هذه الأحوال مطايا يركبها الناس واحدة بعد واحدة . وكل منها تمضي بهم وفق مشيئة القدر الذي يقودها ويقودهم في الطريق ، فتنتهي بهم عند غاية تؤدي إلى رأس مرحلة جديدة ، مقدرة كذلك مرسومة ، كتقدير هذه الأحوال المتعاقبة على الكون من الشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق . حتى تنتهي بهم إلى لقاء ربهم ، الذي تحدثت عنه الفقرة السالفة . . وهذا التتابع المتناسق في فقرات السورة ، والانتقال اللطيف من معنى إلى معنى ، ومن جولة إلى جولة ، هو سمة من سمات هذا القرآن البديع .
{ لَتَرْكَبُنَّ } [ أي : ] أيها الناس { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } أي : أطوارا متعددة وأحوالا متباينة ، من النطفة إلى العلقة ، إلى المضغة ، إلى نفخ الروح ، ثم يكون وليدًا وطفلًا ، ثم مميزًا ، ثم يجري عليه قلم التكليف ، والأمر والنهي ، ثم يموت بعد ذلك ، ثم يبعث ويجازى بأعماله ، فهذه الطبقات المختلفة الجارية على العبد ، دالة على أن الله وحده هو المعبود ، الموحد ، المدبر لعباده بحكمته ورحمته ، وأن العبد فقير عاجز ، تحت تدبير العزيز الرحيم ،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القرّاء في قراءته، فقرأه عمر بن الخطاب وابن مسعود وأصحابه، وابن عباس وعامة قرّاء مكة والكوفة: «لَترْكَبَنّ» بفتح التاء والباء. واختلف قارئو ذلك كذلك في معناه، فقال بعضهم: لتركَبنّ يا محمد أنت حالاً بعد حال، وأمرا بعد أمر من الشدائد...
ابن عباس كان يقرأ: «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ» يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم حالاً بعد حال ....
وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين: لَترْكَبُنّ بالتاء، وبضمّ الياء، على وجه الخطاب للناس كافة، أنهم يركبون أحوال الشدة حالاً بعد حال.
وقد ذكر بعضهم أنه قرأ ذلك بالياء، وبضم الباء، على وجه الخبر عن الناس كافة، أنهم يفعلون ذلك.
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب: قراءة من قرأ بالتاء وبفتح الباء، لأن تأويل أهل التأويل من جميعهم بذلك ورد وإن كان للقراءات الأُخَر وجوه مفهومة. وإذا كان الصواب من القراءة في ذلك ما ذكرنا، فالصواب من التأويل قول من قال: «لَترْكَبَنّ» أنت يا محمد حالاً بعد حال، وأمرا بعد أمر من الشدائد.
والمراد بذلك، وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم موجها، جميع الناس، أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالاً. وإنما قلنا: عُنِي بذلك ما ذكرنا، أن الكلام قبل قوله: لَترْكَبُنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ جرى بخطاب الجميع، وكذلك بعده، فكان أشبه أن يكون ذلك نظير ما قبله وما بعده. وقوله: طَبَقا عَنْ طَبَقٍ من قول العرب: وقع فُلان في بنات طَبَق: إذا وقع في أمر شديد...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدها: سماء بعد سماء، قاله ابن مسعود والشعبي.
الثاني: حالاً بعد حال، فطيماً بعد رضيع وشيخاً بعد شاب، قاله عكرمة...
الثالث: أمراً بعد أمر، رخاء بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقراً بعد غنى، وصحة بعد سقم، وسقماً بعد صحة، قاله الحسن.
الرابع: منزلة بعد منزلة، قوم كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، وقوم كانوا مرتفعين في الدنيا فاتضعوا في الآخرة، قاله سعيد بن جبير.
الخامس: عملاً بعد عمل، يعمل الآخر عمل الأول، قاله السدي.
السادس: الآخرة بعد الأولى، قاله ابن زيد.
السابع: شدة بعد شدة، حياة ثم موت ثم بعث ثم جزاء، وفي كل حال من هذه شدة، وقد روى معناه جابر مرفوعاً...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
جواب القسم، ومعناه منزلة عن منزلة وطبقة عن طبقة وذلك أن من كان على صلاح دعاه إلى صلاح فوقه، ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه، لأن كل شيء يحن إلى شكله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{طَبَقاً عَن طَبقٍ} أي حالاً بعد حال: كل واحدة مطابقة لأختها في الشدّة والهول: ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة...
على معنى: لتركبنّ أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدّة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها. فإن قلت: ما محل عن طبق؟ قلت: النصب على أنه صفة لطبقاً، أي: طبقا مجاوزاً لطبق. أو حال من الضمير في لتركبنّ، أي: لتركبن طبقاً مجاوزين لطبق. أو مجاوزاً أو مجاوزة،...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال البخاري: أخبرنا سعيد بن النضر، أخبرنا هُشَيم، أخبرنا أبو بشر، عن مجاهد قال: قال ابن عباس: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} حالا بعد حال -قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم. هكذا رواه البخاري بهذا اللفظ، وهو محتمل أن يكون ابن عباس أسند هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: سمعت هذا من نبيكم صلى الله عليه وسلم، فيكون قوله: "نبيكم " مرفوعا على الفاعلية من " قال " وهو الأظهر، والله أعلم، كما قال أنس: لا يأتي عام إلا والذي بعده شَرٌّ منه، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لتركبن} أي أيها المكلفون -هذا على قراءة الجماعة بضم الباء دلالة على حذف واو- الجمع، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتحها على أن الخطاب للانسان باعتبار اللفظ {طبقاً} مجاوزاً {عن طبق} أي حالاً بعد حال من أطوار الحياة وأدوار العيش وغمرات الموت ثم من- أمور البرزخ وشؤون البعث ودواهي الحشر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أي لَتُعانُنَّ حالا بعد حال، وفق ما هو مرسوم لكم من تقديرات وأحوال. ويعبر عن معاناة الأحوال المتعاقبة بركوبها. والتعبير بركوب الأمور والأخطار والأهوال والأحوال مألوف في التعبير العربي، كقولهم: "إن المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه".. وكأن هذه الأحوال مطايا يركبها الناس واحدة بعد واحدة. وكل منها تمضي بهم وفق مشيئة القدر الذي يقودها ويقودهم في الطريق، فتنتهي بهم عند غاية تؤدي إلى رأس مرحلة جديدة، مقدرة كذلك مرسومة، كتقدير هذه الأحوال المتعاقبة على الكون من الشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق. حتى تنتهي بهم إلى لقاء ربهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة: {لتركبن طبقاً عن طبق} نسج نظمها نسجاً مجملاً لتوفير المعاني التي تذهب إليْها أفهام السامعين، فجاءت على أبدع ما يُنسج عليه الكلام الذي يُرسل إرسال الأمثال من الكلام الجامع البديع النسْج الوافر المعنى ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها. فلمعاني الركوب المجازية، ولمعاني الطبَق من حقيقي ومجازي، مُتَّسَع لما تفيده الآية من المعاني، وذلك ما جعَل لإِيثار هذين اللفظين في هذه الآية خصوصية من أفنان الإِعجاز القرآني. فأما فعل {لتركبن} فحقيقته متعذرة هنا وله من المعاني المجازية المستعملة في الكلام أو التي يصح أن تراد في الآية عدةٌ، منها الغلَب والمتابعة، والسلوك، والاقتحام، والملازمة، والرفعة. وأصل تلك المعاني إما استعارة وإما تمثيل يقال: رَكب أمراً صعباً وارتكب خطَأ. وأما كلمة {طبق} فحقيقتها أنها اسم مفرد للشيء المساوي شيئاً آخر في حجمه وقدره، وظاهر كلام « الأساس» و« الصحاح» أن المساواة بقيد كون الطبق أعلى من الشّيء لمُسَاويه فهو حقيقة في الغِطاء فيكون من الألفاظ الموضوعة لمعنى مقيَّد كالخِوان والكأس، وظاهر « الكشاف» أن حقيقته مطلق المساواة فيكون قَيد الاعتلاء عارضاً بغلبة الاستعمال، يقال: طابَق النعل النعل. وأيّامَّا كان فهو اسم على وزن فَعَل إما مشتق من المطابقة كاشتقاق الصفة المشبهة ثم عومل معاملة الأسماء وتنوسي منه الاشتقاق. وإما أن يكون أصله اسمَ الطبَق وهو الغطاء لُوحظ فيه التشبيه ثم تنوسي ذلك فجاءت منه مادة المطابقة بمعنى المُساواة فيكون من المشتقات من الأسماء الجامدة. ويطلق اسماً مفرداً للغطاء الذي يغطى به، ومنه قولهم في المثل: « وافَقَ شنّ طبَقه» أي غِطآءَه وهذا من الحقيقة لأن الغطاء مساوٍ لما يغطّيه. ويطلق الطبق على الحالة لأنها ملابسة لصاحبها كملابسة الطبق لما طُبق عليه. ويطلق اسماً مفرداً أيضاً على شيء متخذ من أدم أوْ عود ويؤكل عليه وتوضع فيه الفواكه ونحوها، وكأنه سمي طبقاً لأن أصله أن يستعمل غِطَاءَ الآنية فتوضع فيه أشياء. ويطلق اسمَ جمعٍ لطبقة: وهي مكان فوق مكان آخر معتبر مثلَه في المقدار إلا أنه مرتفع عليه. وهذا من المجاز يقال: أتانا طَبق من الناس، أي جماعة. ويقارن اختلاف معاني اللفظين اختلاف معنى {عن} من مجاوزة وهي معنى حقيقي، أو من مرادفةِ كلمة (بعد) وهو معنى مجازي. وكذلك اختلاف وجه النصب للفظ طبقاً بين المفعول به والحال، وتزداد هذه المحامل إذا لم تُقْصَر الجمل على ما له مناسبة بسياق الكلام من موقع الجملة عقب آية: {يا أيها الإنسان إنك كادح} [الانشقاق: 6] الآيات. ومن وقوعها بعد القسم المشعر بالتأكيد، ومن اقتضاء فعل المضارعة بعد القسم أنه للمستقبل. فتتركب من هذه المحامل معانٍ كثيرة صالحة لتأويل الآية. فقيل المعنى: لتركُبن حالاً بعد حال، رواه البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم والأظهرُ أنه تهديد بأهوال القيامة فتنوين « طبق» في الموضعين للتعظيم والتهويل و {عن} بمعنى (بعد) والبعدية اعتبارية، وهي بعدية ارتقاء، أي لَتُلاقُنَّ هَوْلاً أعظم من هول، كقوله تعالى: {زدناهم عذاباً فوق العذاب} [النحل: 88]. وإطلاق الطبق على الحالة على هذا التأويل لأن الحالة مطابقة لعمل صاحبها...
وقيل: {لتركبن} منزلة بعد منزلة على أن طبقاً اسم للمنزلة، وروي عن ابن زيد وسعيد بن جبير أي لتَصِيرُنَّ من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة، أو إن قوماً كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، فالتنوين فيهما للتنويع. وقيل: من كان على صلاح دعاه إلى صلاح آخر ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فَوقه، لأن كل شيء يجرُّ إلى شكله، أي فتكون الجملة اعتراضاً بالموعظة وتكون {عن} على هذا على حقيقتها للمجاوزة، والتنوين للتعظيم. ويحتمل أن يكون الركوب مجازاً في السير بعلاقة الإِطلاق، أي لتحضُرن للحساب جماعات بعد جماعات على معنى قوله تعالى: {إلى ربك يومئذ المساق} [القيامة: 30] وهذا تهديد لمنكريه، وأن يكون الركوب مستعملاً في المتابعة، أي لتَتَّبِعُنَّ. وحذف مفعول: « تركبن» بتقدير: ليَتبعن بعضُكم بعضاً، أي في تصميمكم على إنكار البعث. ودليل المحذوف هو قوله: {طبقاً عن طبق} ويَكون {طبقاً} مفعولاً به وانتصاب {طبقاً} إما على الحال من ضمير {تركبُنّ}. وإما على المفعولية به على حسب ما يليق بمعاني ألفاظ الآية. وموقع {عن طبق} موقع النعت ل {طبقاً}. ومعنى {عن} إما المجاوزة، وإما مرادفة معنى (بعد) وهو مجاز ناشىء عن معنى المجاوزة، ولذلك لما ضمَّن النابغة معنى قولهم: « ورثوا المجد كابراً عن كابر» غيَّر حرف (عن) إلى كلمة (بعد) فقال: لآلِ الجُلاَحِ كَابِراً بعدَ كابِر...
" لتركبن طبقا عن طبق " قرأ أبو عمر وابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومسروق وأبو وائل ومجاهد والنخعي وابن كثير وحمزة والكسائي " لتركبن " بفتح الباء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي لتركبن يا محمد حالا بعد حال ، قاله ابن عباس . الشعبي : لتركبن يا محمد سماء بعد سماء ، ودرجة بعد درجة ، ورتبة بعد رتبة ، في القربة من الله تعالى . ابن مسعود : لتركبن السماء حالا بعد حال ، يعني حالاتها التي وصفها الله تعالى بها من الانشقاق والطي وكونها مرة كالمهل ومرة كالدهان . وعن إبراهيم عن عبد الأعلى : " طبقا عن طبق " قال : السماء تقلب حالا بعد حال . قال : تكون وردة كالدهان ، وتكون كالمهل . وقيل : أي لتركبن أيها الإنسان حالا بعه حال ، من كونك نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم حيا وميتا وغنيا وفقيرا . فالخطاب للإنسان المذكور في قوله : " يا أيها الإنسان إنك كادح " هو اسم للجنس ، ومعناه الناس . وقرأ الباقون " لتركبن " بضم الباء ، خطابا للناس ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، قال : لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لما ذكر قبل هذه الآية فمن أوتي كتابه بيمينه ومن أوتي كتابه بشماله . أي لتركبن حالا بعد حال من شدائد القيامة ، أو لتركبن سنة من كان قبلكم في التكذيب واختلاق على الأنبياء .
قلت : وكله مراد ، وقد جاءت بذلك أحاديث{[15877]} ، فروى أبو نعيم الحافظ عن جعفر بن محمد بن علي عن جابر رضي الله عنه ، قال سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل ، إن الله لا إله غيره إذا أراد خلقه قال للملك : اكتب رزقه وأثره وأجله ، واكتب شقيا أو سعيدا ، ثم يرتفع ذلك الملك ، ويبعث الله ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك ، ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته ، فإذا جاءه الموت ارتفع ذانك الملكان ، ثم جاءه ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه ، فإذا أدخل حفرته رد الروح في جسده ، ثم يرتفع ملك الموت ، ثم جاءه ملكا ، القبر فامتحناه ، ثم يرتفعان ، فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات ، فأنشطا كتابا معقودا في عنقه ، ثم حضرا معه ، واحد سائق والآخر شهيد ) ثم قال الله عز وجل " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك ، فبصرك اليوم حديد " [ ق : 22 ] . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتركبن طبقا عن طبق " قال : ( حالا بعد حال ) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم ) فقد اشتمل هذا الحديث على أحوال تعتري الإنسان ، من حين يخلق إلى حين يبعث ، وكله شدة بعد شدة ، حياة ثم موت ، ثم بعث ثم جزاء ، وفي كل حال من هذه شدائد . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لتركبن{[15878]} سنن من قبلكم شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ خرجه البخاري : وأما أقوال المفسرين ، فقال عكرمة : حالا بعد حال ، فطيما بعد رضيع ، وشيخا بعد شباب ، قال الشاعر :
كذلك المرء إن يُنْسَأْ لَهُ أَجَلٌ *** يَرْكَبْ علَى طَبَقٍ من بعدهِ طَبَقُ
وعن مكحول : كل عشرين عاما تجدون أمرا لم تكونوا عليه : وقال الحسن : أمرا بعد أمر ، رخاء بعد شدة ، وشدة بعد رخاء ، وغنى بعد فقر ، وفقرا بعد غنى ، وصحة بعد سقم ، وسقما بعد صحة : سعيد بن جبير : منزلة بعد منزلة ، قوم كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة ، وقوم كانوا في الدنيا مرتفعين فاتضعوا في الآخرة : وقيل : منزلة عن منزلة ، وطبقا عن طبق{[15879]} ، وذلك ، أن من كان على صلاح دعاه إلى صلاح فوقه ، ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه ؛ لأن كل شيء يجري إلى شكله : ابن زيد : ولتصيرن من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة : وقال ابن عباس : الشدائد والأهوال : الموت ، ثم البعث ، ثم العرض ، والعرب تقول لمن وقع في أمر شديد : وقع في بنات طبق ، وإحدى بنات طبق ، ومنه قيل للداهية الشديدة : أم طبق ، وإحدى بنات طبق : وأصلها من الحيات ، إذ يقال : للحية أم طبق لتحوِّيها : والطبق في اللغة : الحال كما وصفنا ، قال الأقرع بن حابس التميمي :
إني امرؤ قد حَلَبْتُ الدهرَ أَشْطُرَهُ *** وساقني طَبَقٌ منه إلى طَبَقِ
وهذا أدل دليل على حدوث العالم ، وإثبات الصانع ، قالت الحكماء : من كان اليوم على حالة ، وغدا على حالة أخرى فليعلم أن تدبيره إلى سواه : وقيل لأبي بكر الوراق : ما الدليل على أن لهذا العالم صانعا ؟ فقال : تحويل الحالات ، وعجز القوة ، وضعف الأركان ، وقهر النية ، ونسخ العزيمة : ويقال : أتانا طبق من الناس وطبق من الجراد : أي جماعة : وقول العباس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :
تَنْقُلُ من صالبٍ إلى رَحِمٍ *** إذا مَضَى عَالَمٌ بدَا طَبَقُ
أي قرن من الناس . يكون طباق الأرض أي ملأها . والطبق أيضا : عظم رقيق يفصل بين الفقارين ويقال : مضى طبق من الليل ، وطبق من النهار : أي معظم منه . والطبق : واحد الأطباق ، فهو مشترك . وقرئ " لتركبن " بكسر الباء ، على خطاب النفس و " ليركبن " بالياء على ليركبن الإنسان . و " عن طبق " في محل نصب على أنه صفة ل " طبقا " أي طبقا مجاوزا لطبق . أو حال من الضمير في " لتركبن " أي لتركبن طبقا مجاوزين لطبق ، أو مجاوزا أو مجاوزة على حسب القراءة .
{ لتركبن طبقا عن طبق } الطبق في اللغة له معنيان :
أحدهما : ما طابق غيره يقال : هذا طبق لهذا إذا طابقه والآخر جمع طبقة فعلى الأول يكون المعنى : لتركبن حالا بعد حال كل واحدة منها مطابقة للأخرى وعلى الثاني : يكون المعنى : لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات بعضها فوق بعض ثم اختلف في تفسير هذه الأحوال وفي قراءة تركبن فأما من قرأ بضم الباء فهو خطاب لجنس الإنسان وفي تفسير الأحوال على هذا ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها شدائد الموت ثم البعث ثم الحساب ثم الجزاء .
والآخر : أنها كون الإنسان نطفة ثم علقة إلى أن يخرج إلى الدنيا ثم إلى أن يهرم ثم يموت . والثالث : لتركبن سنن من كان قبلكم وأما من قرأ تركبن بفتح الباء فهو خطاب للإنسان على المعاني الثلاثة التي ذكرنا وقيل : هي خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم اختلف القائلون بهذا على ثلاثة أقوال :
أحدها : لتركبن مكابدة الكفار حالا بعد حال .
والآخر : لتركبن فتح البلاد شيئا بعد شيء .
والثالث : لتركبن السموات في الإسراء بعد سماء وقوله : { عن طبق } في موضع الصفة لطبقا أو في موضع حال من الضمير في تركبن قاله الزمخشري .
ولما كانت هذه الأمور عظيمة جداً لا يقدر عليها إلا الله تعالى{[72406]} ولها من المنافع ما لا-{[72407]} يعلمه حق علمه إلا هو سبحانه وتعالى ، وكل منها مع ذلك دال على تمام-{[72408]} قدرته تعالى على الذي يراد تقريره في العقول وإيضاحه من القدرة التامة على إعادة الشيء كما كان سواء ، ونفي الإقسام بها دليلاً{[72409]} على أن ذلك في غاية الظهور ، فالأمر فيه غني عن الإقسام ، قال في موضع جواب القسم مقروناً باللام الدالة على القسم ذاكراً ما هو في الظهور والبداهة بحيث لا يحتاج إلى تنبيه عليه بغيره ذكره{[72410]} : { لتركبن } أي أيها المكلفون - هذا على قراءة الجماعة بضم الباء دلالة على حذف واو-{[72411]} الجمع ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتحها على أن الخطاب للانسان باعتبار اللفظ { طبقاً } مجاوزاً { عن طبق * } أي حالاً بعد حال من أطوار الحياة وأدوار العيش وغمرات الموت ثم من-{[72412]} أمور البرزخ وشؤون البعث ودواهي الحشر بدليل{[72413]} ما كان لكم قبل ذلك{[72414]} سواء بتلك القدرة التي كونت تلك الكوائن{[72415]} وأوجدت تلك العجائب سواء ، فتكونون في تمكن الوجود في كل طبق بحال التمكن على الشيء بالركوب ، وكل حال-{[72416]} منها مطابق للآخر في ذلك فإن الطبق ما يطابق غيره ، ومنه قيل للغطاء : طبق - لمطابقته المغطى ، والطبق كل ما ساوى شيئاً ووجه الأرض والقرن من الزمان أو عشرون سنة ، وكلها واضح الإرادة هنا وهو بديهي الكون ، فأول أطباق الإنسان جنين ، ثم وليد ، ثم رضيع ثم فطيم ، ثم يافع ، ثم رجل ، ثم شاب{[72417]} ، ثم كهل ، ثم شيخ ، ثم ميت ، {[72418]}وبعده{[72419]} نشر ثم حشر ثم حساب ثم وزن ثم صراط ثم مقرّ ، ومثل هذه الأطباق المحسوسة أطباق معنوية من الفضائل والرذائل .