هذه الصورة المشرفة الوضيئة الحساسة الشفيفة ترافقها صورة للجزاء الرفيع الخاص الفريد . الجزاء الذي تتجلى فيه ظلال الرعاية الخاصة ، والإعزاز الذاتي ، والإكرام الإلهي والحفاوة الربانية بهذه النفوس :
( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) . .
تعبير عجيب يشي بحفاوة الله - سبحانه - بالقوم ؛ وتوليه بذاته العلية إعداد المذخور لهم عنده من الحفاوة والكرامة مما تقر به العيون . هذا المذخور الذي لا يطلع عليه أحد سواه . والذي يظل عنده خاصة مستورا حتى يكشف لأصحابه عنه يوم لقائه ! عند لقياه ! وإنها لصورة وضيئة لهذا اللقاء الحبيب الكريم في حضرة الله .
يا لله ! كم ذا يفيض الله على عباده من كرمه ! وكم ذا يغمرهم سبحانه بفضله ! ومن هم - كائنا ما كان عملهم وعبادتهم وطاعتهم وتطلعهم - حتى يتولى الله جل جلاله إعداد ما يدخره لهم من جزاء ، في عناية ورعاية وود واحتفال ? لولا أنه فضل الله الكريم المنان ? !
وأما جزاؤهم ، فقال : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ } يدخل فيه جميع نفوس الخلق ، لكونها نكرة في سياق النفي . أي : فلا يعلم أحد { مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } من الخير الكثير ، والنعيم الغزير ، والفرح والسرور ، واللذة والحبور ، كما قال تعالى على لسان رسوله : " أعددت لعبادي الصالحين ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر "
فكما صلوا في الليل ، ودعوا ، وأخفوا العمل ، جازاهم من جنس عملهم ، فأخفى أجرهم ، ولهذا قال : { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
قرأ حمزة : " ما أخفيْ لهم " بإسكان الياء . وفتحها الباقون . وفي قراءة عبد الله " ما نخفي " بالنون مضمومة . وروى المفضل عن الأعمش " ما يُخفى لهم " بالياء المضمومة وفتح الفاء . وقرأ ابن مسعود وأبو هريرة : " من قرَّات أعين " . فمن أسكن الياء من قوله : " ما أخفي فهو مستقبل وألفه ألف المتكلم . و " ما " في موضع نصب ب " أخفي " وهي استفهام ، والجملة في موضع نصب لوقوعها موقع المفعولين ، والضمير العائد على " ما " محذوف . ومن فتح الياء فهو فعل ماض مبني للمفعول . و " ما " في موضع رفع بالابتداء ، والخبر " أخفي " وما بعده ، والضمير في " أخفي " عائد على " ما " . قال الزجاج : ويقرأ " ما أخفى لهم " بمعنى ما أخفى الله لهم ؛ وهي قراءة محمد بن كعب ، و " ما " في موضع نصب . المهدوّي : ومن قرأ : " قرات أعين " فهو جمع قرة ، وحسن الجمع فيه لإضافته إلى جمع ، والإفراد لأنه مصدر ، وهو اسم للجنس . وقال أبو بكر الأنباري : وهذا غير مخالف للمصحف ؛ لأن تاء " قرة " تكتب تاء لغة من يجري الوصل على الوقف ، كما كتبوا ( رحمت الله ) بالتاء . ولا يستنكر سقوط الألف من " قرات " في الخط وهو موجود في اللفظ ، كما لم يستنكر سقوط الألف من السموات{[12674]} وهي ثابتة في اللسان والنطق . والمعنى المراد : أنه أخبر تعالى بما لهم من النعيم الذي لم تعلمه نفس ولا بشر ولا ملك . وفي معنى هذه الآية : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قال الله عز وجل أعدت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - ثم قرأ هذه الآية - " تتجافى جنوبهم عن المضاجع - إلى قوله - بما كانوا يعملون " ) خرجه الصحيح من حديث سهل بن سعد الساعدي . وقال ابن مسعود : في التوراة مكتوب : على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . وقال ابن عباس : الأمر في هذا أجل وأعظم من أن يعرف تفسيره .
قلت : وهذه الكرامة إنما هي لأعلى أهل الجنة منزلا ، كما جاء مبينا في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( سأل موسى عليه السلام ربه فقال يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة قال هو رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له : ادخل الجنة . فيقول : أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا فيقول : رضيت رب . فيقول : لك ذلك ومثله ومثله معه ومثله ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة : رضيت رب . فيقال : هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول : رضيت رب قال رب فأعلاهم منزلة قال : أولئك الذين أردت ، غرست{[12675]} كرامتهم بيدي ، وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر - قال - ومصداقه من كتاب الله قوله تعالى : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون " . وقد روي عن المغيرة موقوفا قوله . وخرج مسلم أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقول الله تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا ، بله{[12676]} ما أطلعكم عليه - ثم قرأ - " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " . وقال ابن سيرين : المراد به النظر إلى الله تعالى . وقال الحسن : أخفى القوم أعمالا فأخفى الله تعالى لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت .
ولما ذكر جزاء المستكبرين ، فتشوفت النفس إلى جزاء المتواضعين ، أشار إلى جزائهم بفاء السبب ، إشارة إلى أنه هو الذي وفقهم لهذه الأعمال برحمته ، وجعلها سبباً إلى دخول جنته ، ولو شاء لكان غير ذلك فقال{[54786]} : { فلا تعلم نفس } أي من جميع النفوس مقربة ولا غيرها { ما أخفي لهم } أي لهؤلاء المتذكرين{[54787]} من العالم بمفاتيح الغيوب وخزائنها كما كانوا يخفون أعمالهم بالصلاة في جوف الليل وغير ذلك ولا يراؤون بها ،
ولعله بني للمفعول في قراءة الجماعة{[54788]} تعظيماً له بذهاب الفكر في المخفي كل مذهب ، أو{[54789]} للعلم بأنه{[54790]} الله تعالى الذي أخفوا نوافل أعمالهم لأجله ، وسكن حمزة الياء على {[54791]}أنه للمتكلم{[54792]} سبحانه لفتاً لأسلوب العظمة إلى أسلوب الملاطفة ، والسر مناسبته لحال الأعمال .
ولما كانت العين لا تقر فتهجع إلا عند الأمن والسرور قال : { من قرة أعين } أي من شيء نفيس سارّ تقر به أعينهم لأجل ما أقلعوها{[54793]} عن قرارها بالنوم ؛ ثم صرح بما أفهمته فاء السبب فقال : { جزاء } أي أخفاها لهم لجزائهم { بما كانوا } أي{[54794]} بما هو لهم كالجبلة { يعملون * } روى البخاري في التفسير{[54795]} عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله عز وجل : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " ، قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم { فلا تعلم نفس }{[54796]} - الآية .