في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (46)

46

( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن - إلا الذين ظلموا منهم - وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون ) . .

إن دعوة الله التي حملها نوح - عليه السلام - والرسل بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد [ صلى الله عليه وسلم ] لهي دعوة واحدة من عند إله واحد ، ذات هدف واحد ، هو رد البشرية الضالة إلى ربها ، وهدايتها إلى طريقه ، وتربيتها بمنهاجه . وإن المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات : كلهم أمة واحدة ، تعبد إلها واحدا . وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان : صنف المؤمنين وهم حزب الله . وصنف المشاقين لله وهم حزب الشيطان ، بغض النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان . وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون .

هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام ؛ والتي تقررها هذه الآية من القرآن ؛ هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب ، أو جنس ، أو وطن . أو تبادل أو تجارة . ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله ، ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان ؛ وتختفي فيها القوميات والأوطان ؛ ويتلاشى فيها الزمان والمكان . ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان .

ومن ثم يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى ؛ لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة ، والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة ، والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله ، الموافقة لما قبلها من الدعوات ، المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر . . ( إلا الذين ظلموا منهم )فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية ؛ وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة . فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة . وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عندما قامت له دولة في المدينة .

وإن بعضهم ليفتري على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين . فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم ، مخالفا كل ما قاله فيهم وهو في مكة ! وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه . فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم ، ولم ينحرف عن دين الله . وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات .

وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، و إلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون . .

وإذن فلا حاجة إلى الشقاق والنزاع ، والجدل والنقاش . وكلهم يؤمنون بإله واحد ، والمسلمون يؤمنون بما أنزل إليهم وما أنزل إلى من قبلهم ، وهو في صميمه واحد ، والمنهج الإلهي متصل الحلقات .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (46)

{ 46 } { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }

ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب ، إذا كانت من غير بصيرة من المجادل ، أو بغير قاعدة مرضية ، وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن ، بحسن خلق ولطف ولين كلام ، ودعوة إلى الحق وتحسينه ، ورد عن الباطل وتهجينه ، بأقرب طريق موصل لذلك ، وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو ، بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق ، إلا من ظلم من أهل الكتاب ، بأن ظهر من قصده وحاله ، أنه لا إرادة له في الحق ، وإنما يجادل على وجه المشاغبة والمغالبة ، فهذا لا فائدة في جداله ، لأن المقصود منها ضائع .

{ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ } أي : ولتكن مجادلتكم لأهل الكتاب مبنية على الإيمان بما أنزل إليكم وأنزل إليهم ، وعلى الإيمان برسولكم ورسولهم ، وعلى أن الإله واحد ، ولا تكن مناظرتكم إياهم [ على وجه ] يحصل به{[626]} القدح في شيء من الكتب الإلهية ، أو بأحد من الرسل ، كما يفعله الجاهل عند مناظرة الخصوم ، يقدح بجميع ما معهم ، من حق وباطل ، فهذا ظلم ، وخروج عن الواجب وآداب النظر ، فإن الواجب ، أن يرد ما مع الخصم من الباطل ، ويقبل ما معه من الحق ، ولا يرد الحق لأجل قوله ، ولو كان كافرا . وأيضا ، فإن بناء مناظرة أهل الكتاب ، على هذا الطريق ، فيه إلزام لهم بالإقرار بالقرآن ، وبالرسول الذي جاء به ، فإنه إذا تكلم في الأصول الدينية التي اتفقت عليها الأنبياء والكتب ، وتقررت عند المتناظرين ، وثبتت حقائقها عندهما ، وكانت الكتب السابقة والمرسلون مع القرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم قد بينتها ودلت عليها وأخبرت بها ، فإنه يلزم التصديق بالكتب كلها ، والرسل كلهم ، وهذا من خصائص الإسلام .

فأما أن يقال : نؤمن بما دل عليه الكتاب الفلاني ، دون الكتاب الفلاني وهو الحق الذي صدق ما قبله ، فهذا ظلم وجور ، وهو يرجع إلى قوله بالتكذيب ، لأنه إذا كذب القرآن الدال عليها ، المصدق لما بين يديه من التوراة ، فإنه مكذب لما زعم أنه به مؤمن .

وأيضا ، فإن كل طريق تثبت به{[627]} نبوة أي : نبي كان ، فإن مثلها وأعظم منها ، دالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وكل شبهة يقدح بها في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فإن مثلها أو أعظم منها ، يمكن توجيهها إلى نبوة غيره ، فإذا ثبت بطلانها في غيره ، فثبوت بطلانها في حقه صلى اللّه عليه وسلم أظهر وأظهر .

وقوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : منقادون مستسلمون لأمره . ومن آمن به ، واتخذه إلها ، وآمن بجميع كتبه ورسله ، وانقاد للّه واتبع رسله ، فهو السعيد ، ومن انحرف عن هذا الطريق ، فهو الشقي .


[626]:- في أ: بها.
[627]:- وفي ب: بها.
 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (46)

اختلف العلماء في قوله تعالى : " ولا تجادلوا أهل الكتاب " فقال مجاهد : هي مُحكمة فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه على حججه وآياته ، رجاء إجابتهم إلى الإيمان لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة ، وقوله على هذا : " إلا الذين ظلموا منهم " معناه ظلموكم وإلا فكلهم ظلمة على الإطلاق . وقيل : المعنى لا تجادلوا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب المؤمنين كعبد الله بن سلام ومن آمن معه . " إلا بالتي هي أحسن " أي بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أوائلهم وغير ذلك . وقوله على هذا التأويل : " إلا الذين ظلموا " يريد به من بقي على كفره منهم كمن كفر وغدر من قريظة والنضير وغيرهم . والآية على هذا أيضا محكمة وقيل : هذه الآية منسوخة بآية القتال قوله تعالى : " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله " [ التوبة : 29 ] فال قتادة " إلا الذين ظلموا " أي جعلوا لله ولدا وقالوا : " يد الله مغلولة " [ المائدة : 64 ] و " إن الله فقير " [ آل عمران : 181 ] فهؤلاء المشركون الذين نصبوا الحرب ولم يؤدوا{[12415]} الجزية فانتصروا منهم . قال النحاس وغيره : من قال هي منسوخة احتج بأن الآية مكية ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ولا طلب جزية ولا غير ذلك ، وقول مجاهد حسن لأن أحكام الله عز وجل لا يقال فيها إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر أو حجة من معقول . واختار هذا القول ابن العربي . قال مجاهد وسعيد بن جبير : وقوله : " إلا الذين ظلموا منهم " معناه إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب فجدالهم بالسيف حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية .

قوله تعالى : " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم " روى البخاري عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ) " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم " وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق وإما أن تصدقوا بباطل ) وفي البخاري : عن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال : إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب .


[12415]:عبارة الأصل هنا: "فهؤلاء المشركون في سقوط الجزية...الخ" والتصويب مستفاد من كتب التفسير.