والإشارتان الواردتان هنا عن الصافنات الجياد وهي الخيل الكريمة . وعن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان . . كلتاهما إشارتان لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات عنهما . فهي إما إسرائيليات منكرة ، وإما تأويلات لا سند لها . ولم أستطع أن أتصور طبيعة الحادثين تصوراً يطمئن إليه قلبي ، فأصوره هنا وأحكيه . ولم أجد أثراً صحيحاً أركن إليه في تفسيرهما وتصويرهما سوى حديث صحيح . صحيح في ذاته ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة . هذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعاً . ونصه : قال سليمان : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة . كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله . ولم يقل : إن شاء الله . فطاف عليهن فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل . والذي نفسي بيده ، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون . . وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا ، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق . ولكن هذا مجرد احتمال . . أما قصة الخيل فقيل : إن سليمان - عليه السلام - استعرض خيلاً له بالعشي . ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب . فقال ردوها عليّ . فردوها عليه فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه . ورواية أخرى أنه إنما جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها لأنها كانت خيلاً في سبيل الله . . وكلتا الروايتين لا دليل عليها . ويصعب الجزم بشيء عنها .
ومن ثم لا يستطيع متثبت أن يقول شيئاً عن تفصيل هذين الحادثين المشار إليهما في القرآن .
وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان - عليه السلام - في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله انبياءه ليوجههم ويرشدهم ، ويبعد خطاهم عن الزلل . وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع ، وطلب المغفرة ؛ واتجه إلى الله بالدعاء والرجاء :
" ردوها علي فطفق مسحا " أي فأقبل يمسحها مسحا . وفي معناه قولان : أحدهما أنه أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراما منه لها ، وليرى أن الجليل لا يقبح أن يفعل مثل هذا بخيله . وقال قائل هذا القول : كيف يقتلها ؟ وفي ذلك إفساد المال ومعاقبة من لا ذنب له . وقيل : المسح ها هنا هو القطع أذن له في قتلها . قال الحسن والكلبي ومقاتل : صلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه ، وكانت ألف فرس ، فعرض عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر ، فإذا الشمس قد غربت وفاتت الصلاة ، ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتم ، فقال : " ردوها علي " فردت فعقرها بالسيف ، قربة لله وبقي منها مائة ، فما في أيدي الناس من الخيل العتاق اليوم فهي من نسل تلك الخيل . قال القشيري : وقيل : ما كان في ذلك الوقت صلاة الظهر ولا صلاة العصر ، بل كانت تلك الصلاة نافلة فشغل عنها . وكان سليمان عليه السلام رجلا مهيبا ، فلم يذكره أحد ما نسي من الفرض أو النفل وظنوا التأخر مباحا ، فتذكر سليمان تلك الصلاة الفائتة ، وقال على سبيل التلهف : " إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي " أي عن الصلاة ، وأمر برد الأفراس إليه ، وأمر بضرب عراقيبها وأعناقها ، ولم يكن ذلك معاقبة للأفراس ؛ إذ ذبح البهائم جائز إذا كانت مأكولة ، بل عاقب نفسه حتى لا تشغله الخيل بعد ذلك عن الصلاة . ولعله عرقبها ليذبحها فحبسها بالعرقبة عن النفار ، ثم ذبحها في الحال ، ليتصدق بلحمها ، أو لأن ذلك كان مباحا في شرعه فأتلفها لما شغلته عن ذكر الله ، حتى يقطع عن نفسه ما يشغله عن الله ، فأثنى الله عليه بهذا ، وبين أنه أثابه بأن سخر له الريح ، فكان يقطع عليها من المسافة في يوم ما يقطع مثله على الخيل في شهرين غدوا ورواحا . وقد قيل : إن الهاء في قوله : " ردوها علي " للشمس لا للخيل .
قال ابن عباس : سألت عليا عن هذه الآية فقال : ما بلغك فيها ؟ فقلت سمعت كعبا يقول : إن سليمان لما اشتغل بعرض الأفراس حتى توارت الشمس بالحجاب وفاتته الصلاة ، قال : " إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي " أي آثرت " حب الخير عن ذكر ربي " الآية " ردوها علي " يعني الأفراس وكانت أربع عشرة ، فضرب سوقها وأعناقها بالسيف ، وأن الله سلبه ملكه أربعة عشر يوما ؛ لأنه ظلم الخيل . فقال علي بن أبي طالب : كذب كعب لكن سليمان اشتغل بعرض الأفراس للجهاد حتى توارت أي غربت الشمس بالحجاب فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس : " ردوها " يعني الشمس فردوها حتى صلى العصر في وقتها ، وأن أنبياء الله لا يظلمون لأنهم معصومون .
قلت : الأكثر في التفسير أن التي توارت بالحجاب هي الشمس ، وتركها لدلالة السامع عليها بما ذكر مما يرتبط بها ومتعلق بذكرها ، حسب ما تقدم بيانه . وكثيرا ما يضمرون الشمس . قال لبيد :
حتى إذا ألْقَتْ يَدًا في كَافِرٍ *** وأَجَنَّ عوراتِ الثُّغُورِ ظلامُها
والهاء في " ردوها " للخيل ، ومسحها قال الزهري وابن كيسان : كان يمسح سوقها وأعناقها ، ويكشف الغبار عنها حبا لها . وقال الحسن وقتادة وابن عباس . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رئي وهو يمسح فرسه بردائه . وقال : ( إني عوتبت الليلة في الخيل ) خرجه الموطأ عن يحيى بن سعيد مرسلا . وهو في غير الموطأ مسند متصل عن مالك عن يحيى بن سعيد عن أنس . وقد مضى في " الأنفال " قوله عليه السلام : ( وامسحوا بنواصيها وأكفالها ) وروى ابن وهب عن مالك أنه مسح أعناقها وسوقها بالسيوف . قلت : وقد استدل الشبلي وغيره من الصوفية في تقطيع ثيابهم وتخريقها بفعل سليمان هذا . وهو استدلال فاسد ؛ لأنه لا يجوز أن ينسب إلى نبي معصوم أنه فعل الفساد . والمفسرون اختلفوا في معنى الآية ، فمنهم من قال : مسح على أعناقها وسوقها إكراما لها وقال : أنت في سبيل الله ، فهذا إصلاح . ومنهم من قال : عرقبها ثم ذبحها ، وذبح الخيل وأكل لحمها جائز . وقد مضى في " النحل " بيانه . وعلى هذا فما فعل شيئا عليه فيه جناح . فأما إفساد ثوب صحيح لا لغرض صحيح فإنه لا يجوز . ومن الجائز أن يكون في شريعة سليمان جواز ما فعل ، ولا يكون في شرعنا . وقد قيل : إنما فعل بالخيل ما فعل بإباحة الله جل وعز له ذلك . وقد قيل : إن مسحه إياها وسمها بالكي وجعلها في سبيل الله ، فالله أعلم . وقد ضعف هذا القول من حيث أن السوق ليست بمحل للوسم بحال . وقد يقال : الكي على الساق علاط ، وعلى العنق وثاق . والذي في الصحاح للجوهري : علط البعير علطا كواه في عنقه بسمة العِلاَط . والعِلاَطَان جانبا العنق .
قلت : ومن قال إن الهاء في " ردوها " ترجع للشمس فذلك من معجزاته . وقد اتفق مثل ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم . خرج الطحاوي في مشكل الحديث عن أسماء بنت عميس من طريقين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي ، فلم يصل العصر حتى غربت الشمس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أصليت يا علي ) قال : لا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس ) قالت أسماء : فرأيتها غربت ثم رأيتها بعدما غربت طلعت على الجبال والأرض ، وذلك بالصهباء في خيبر . قال الطحاوي : وهذان الحديثان ثابتان ، ورواتهما ثقات .
قلت : وضعف أبو الفرج ابن الجوزي هذا الحديث فقال : وغلوُّ الرافضة في حب علي عليه السلام حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله ، منها أن الشمس غابت ففاتت عليا عليه السلام العصر فردت له الشمس ، وهذا من حيث النقل محال ، ومن حيث المعنى فإن الوقت قد فات وعودها طلوع متجدد لا يرد الوقت . ومن قال : أن الهاء ترجع إلى الخيل ، وأنها كانت تبعد عن عين سليمان في السباق ، ففيه دليل على المسابقة بالخيل وهو أمر مشروع . وقد مضى القول فيه في " يوسف " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.