ومهما اعتذر الإنسان بشتى المعاذير عما وقع منه ، فلن يقبل منها عذر ، لأن نفسه موكولة إليه ، وهو موكل بها ، وعليه أن يهديها إلى الخير ويقودها . فإذا انتهى بها إلى الشر فهو مكلف بها وحجة عليها :
( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ) . .
ومما يلاحظ أن كل شيء سريع قصير : الفقر . والفواصل . والإيقاع الموسيقي . والمشاهد الخاطفة . وكذلك عملية الحساب : ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر )هكذا في سرعة وإجمال . . ذلك أنه رد على استطالة الأمد والاستخفاف بيوم الحساب !
{ بل الإنسان على نفسه بصيرة } قال عكرمة ، ومقاتل ، والكلبي : معناه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه ويشهدون عليه بعمله ، وهو سمعه وبصره وجوارحه ، ودخل " الهاء " في البصيرة لأن المراد بالإنسان ها هنا جوارحه ، ويحتمل أن يكون معناه { بل الإنسان على نفسه بصيرة } يعني : لجوارحه ، فحذف حرف الجر كقوله : { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم }( البقرة- 233 ) أي لأولادكم . ويجوز أن يكون نعتاً لاسم مؤنث أي بل الإنسان على نفسه عين بصيرة . وقرأ أبو العالية ، وعطاء : بل الإنسان على نفسه شاهد ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، " والهاء " في { بصيرة } للمبالغة ، دليل هذا التأويل . قوله عز وجل : { كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } ( الإسراء- 14 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وذلك حين كتمت الألسن في سورة الأنعام، وختم الله عليها في سورة {يس والقرآن الحكيم}، فقال {اليوم نختم على أفواههم} [يس:65]، فنطقت الجوارح على الألسن بالشرك في هذه السورة، فلا شاهد أفضل من نفسك، فذلك قوله تبارك وتعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} يعني جسده وجوارحه شاهدة عليه بعمله، فذلك قوله تبارك وتعالى: {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} يعني شاهدا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: بل للإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه بعمله، ويشهدون عليه به. عن ابن عباس، قوله:"بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ "يقول: سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه. والبصيرة على هذا التأويل ما ذكره ابن عباس من جوارح ابن آدم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بل الإنسان شاهد على نفسه وحده...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{بل الإنسان على نفسه بصيرة} {ولو ألقى معاذيره} هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: جائز أن يكون أراد بهذا في الدنيا أن الإنسان بصير بعمل نفسه، وإن جادل عنها أنه لم يفعل ذلك، وأسر ذلك عن الناس {ولو ألقى معاذيره} أي ألقى الستور بما كسبت نفسه، والمعذار هو الستر.
والوجه الثاني: أن يكون في الآخرة، وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن الإنسان وإن كان يعتذر يوم القيامة بقوله: {والله ربنا ما كنا مشركين} [النعام: 23] وقوله: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم} [المجادلة: 18] فيقدمون على الحلف اعتذارا منهم على العلم منهم أنهم مبطلون في جدالهم.
والثاني: أن يكون معنى البصيرة الشاهد أي أن الإنسان على نفسه شاهد يوم القيامة بسوء أفعاله، وإن ألقى معاذيره، أي وإن شهدت عليه جوارحه، وذلك نحو قوله عز وجل: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} [يس: 65] وقوله تعالى: {شهد عليهم سمعهم وأبصارهم} الآية [فصلت: 20].
فإن قيل: إن الإنسان مذكّر كيف وصفه بالبصيرة بلفظة التأنيث بقوله: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} ولم يقل: بصير؟ فجوابه من أوجه:
أحدها: ما قيل: إن الإنسان تسمية جنس، فيه الجماعة، ولا أن يكون تسمية للشخص الواحد فقط. ألا ترى إلى قوله: {والعصر} {إن الإنسان لفي خسر} {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [العصر: 1و2و3] استثنى الذين آمنوا من قوله: {إن الإنسان لفي خسر} ولا تستثنى الجماعة من الواحد، وكذلك قوله عز وجل: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} {ثم رددناه أسفل سافلين} {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية [التين: 4و5و6] فاستثنى الذين آمنوا من الإنسان، فثبت أن الإنسان تسمية جنس، والجنس جماعة، وتكون الجماعة مضمرة فيه؛ كأنه قال: إن جماعة الناس على أنفسهم بصيرة، فيكون قوله {بصيرة} راجعا إلى الجماعة، والله أعلم.
والثاني: قوله: {بصيرة} وصف للإنسان بالغاية من البصر بكل ما عمل حتى لا يغرب عنه شيء، والهاء قد تدخل في خطاب المذكر عند الوصف بالمبالغة كقولك: فلان علاّمة ونسّابة وراوية للشعر وبالغة في النحو.
والثالث: أن الإنسان تسمية ما يراه بجوارحه كلها من الأيدي والأرجل والسمع والبصر والرأس، ونحو ذلك: نفس أمارة بالسوء، فتصير جوارحه كلها بصيرة أي شاهدة عليه بما قدم وأخر.
وجائز أن يكون هذا على الإضمار، فيكون قوله: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} أي نفس الإنسان بصيرة بما عملت.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هو بصيرةً وحُجّةً على نفْسه في إنكار البعث.
ويقال: إنه يعلم أَنه كان جاحداً كافراً، ولو أَتى بكلِّ حجةٍ فلن تُسْمع منه ولن تنفعه.
اعلم أنه تعالى لما قال: (ينبأ الإنسان) يومئذ بأعماله، قال: بل لا يحتاج إلى أن ينبئه غيره، وذلك لأن نفسه شاهدة بكونه فاعلا لتلك الأفعال، مقدما عليها.
في قوله: {بصيرة}... قال الأخفش جعله في نفسه بصيرة كما يقال: فلان جود وكرم، فهاهنا أيضا كذلك، لأن الإنسان بضرورة عقله يعلم أن ما يقربه إلى الله ويشغله بطاعته وخدمته فهو السعادة، وما يبعده عن طاعة الله ويشغله بالدنيا ولذاتها فهو الشقاوة، فهب أنه بلسانه يروج ويزور ويرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، لكنه بعقله السليم يعلم أن الذي هو عليه في ظاهره جيد أو رديء.
واعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الإنسان يخبر يوم القيامة بأعماله، ثم ذكر في هذه الآية أنه شاهد على نفسه بما عمل، فقال الواحدي هذا يكون من الكفار فإنهم ينكرون ما عملوا فيختم الله على أفواههم وينطق جوارحهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما عظم القيامة بكشف الأسرار فيها والإنباء بها، وكان- الشأن أن الإنسان لا ينبأ إلا بما هو جاهل له أو غائب عنه، وكان مما يخف على الإنسان في الدنيا النسيان، وكان ذلك اليوم يوم كشف الغطاء، زاده عظماً بالإعلام بأنه يجلو بصيرة الإنسان حتى يصير مستحضراً لجميع ما له من شأن، فكان التقدير: وليس جاهلاً بشيء من ذلك ولا محتاجاً إلى الإنباء به، قال بانياً عليه: {بل الإنسان} أي كل واحد من هذا النوع {على نفسه} خاصة {بصيرة} أي حجة بينة على أعماله، فالهاء للمبالغة -يعني أنه في غاية المعرفة لأحوال نفسه؛ فإنه إذا تأمل وأنعم النظر ولم يقف مع الحظوظ، عرف جيد فعله من رديئه، أما في الدنيا فلان الفطر الأولى شاهدة بالخير والشر- كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: "البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في الصدر وترددت فيه النفس وإن أفتاك الناس وأفتوك " رواه الإمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت " -رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأما في الآخرة فإن الله يعطيه في ذلك اليوم قوة الذكرى حتى تصير أعماله كلها بين عينيه لأنه تعالى ينفي عنه الشواغل البدنية ويكشف عنه الحجب النفسانية حتى تصير أعماله ممثلة له كأنه يراها ولا تنفعه معذرته، لأن كل شيء يعتذر به عن نفسه يعرف كذبه بنفس وجوده لا بشيء خارج عنه تارة يكون خالقه أوجده على ما هو عليه من العلم وسلامة الأسباب المزيلة للعلل وتارة بإنطاق جوارحه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومهما اعتذر الإنسان بشتى المعاذير عما وقع منه، فلن يقبل منها عذر، لأن نفسه موكولة إليه، وهو موكل بها، وعليه أن يهديها إلى الخير ويقودها. فإذا انتهى بها إلى الشر فهو مكلف بها وحجة عليها: (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)
ومما يلاحظ أن كل شيء سريع قصير: الفقر. والفواصل. والإيقاع الموسيقي. والمشاهد الخاطفة. وكذلك عملية الحساب: (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) هكذا في سرعة وإجمال.. ذلك أنه رد على استطالة الأمد والاستخفاف بيوم الحساب!
قوله تعالى : " بل الإنسان على نفسه بصيرة " قال الأخفش : جعله هو البصيرة ، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك . وقال ابن عباس : " بصيرة " أي شاهد ، وهو شهود جوارحه عليه : يداه بما بطش بهما ، ورجلاه بما مشى عليهما ، وعيناه بما أبصر بهما . والبصيرة : الشاهد . وأنشد الفراء :
كأن على ذي العقل عيناً بصيرةً *** بمقعده أو منظرٍ هو نَاظِرُهُ
يُحَاذِرْ حتى يحسِبَ الناسَ كلَّهم *** من الخوف لا تخفى عليهم سرائرُهُ
ودليل هذا التأويل من التنزيل قوله تعالى : " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون{[15613]} " [ النور : 24 ] . وجاء تأنيث البصيرة لأن المراد بالإنسان ها هنا الجوارح ، لأنها شاهدة على نفس الإنسان ؛ فكأنه قال : بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة . قال معناه القتبي وغيره . وناس يقولون : هذه الهاء في قوله : " بصيرة " هي التي يسميها أهل الإعراب هاء المبالغة ، كالهاء في قولهم : داهية وعلامة وراوية . وهو قول أبي عبيد . وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير أو شر ؛ يدل عليه قوله تعالى : " ولو ألقى معاذيره " فيمن جعل المعاذير الستور . وهو قول السدي والضحاك . وقال بعض أهل التفسير : المعنى بل على الإنسان من نفسه بصيرة ؛ أي شاهد فحذف حرف الجر . ويجوز أن يكون " بصيرة " نعتا لاسم مؤنث فيكون تقديره : بل الإنسان على نفسه عين بصيرة ، وأنشد الفراء :
وقال الحسن في قوله تعالى : " بل الإنسان على نفسه بصيرة " يعني بصير بعيوب غيره ، جاهل بعيوب نفسه . أي ولو أرخى ستوره . والستر بلغة أهل اليمن : معذار ، قاله الضحاك وقال الشاعر :
ولكنها ضَنَّتْ بمنزلِ ساعَةٍ *** علينَا وأطَّتْ فوقَهَا بالمَعَاذِرِ
قال الزجاج : المعاذر : الستور ، والواحد معذار ، أي وإن أرخى ستره ، يريد أن يخفى عمله ، فنفسه شاهدة عليه . وقيل : أي ولو اعتذر فقال لم أفعل شيئا ، لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه ، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه ، فعليه شاهد يكذب عذره ؛ قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسدي أيضا ومقاتل . قال مقاتل : أي لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك . نظيره قوله تعالى : " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم " [ غافر : 52 ] وقوله : " ولا يؤذن لهم فيعتذرون " [ المرسلات : 36 ] فالمعاذير على هذا : مأخوذ من العذر ، قال الشاعر :
وإياكَ والأمرَ الذي إن تَوَسَّعَتْ *** مواردُه ضاقت عليك المصادرُ
فما حَسنٌ أن يَعْذِرَ المرءُ نفسَهُ *** وليس له من سائر الناس عَاذِرُ
واعتذر رجل إلى إبراهيم النخعي فقال له : قد عذرتك غير معتذر ، إن المعاذير يشوبها الكذب . وقال ابن عباس : " ولو ألقى معاذيره " أي لو تجرد من ثيابه . حكاه الماوردي .
قلت : والأظهر أنه الإدلاء بالحجة والاعتذار من الذنب ، ومنه قول النابغة :
ها إن ذي عِذْرَةٌ إلا تكن نفعت *** فإن صاحبَهَا مُشَارِكُ النَّكَدِ
والدليل على هذا قوله تعالى في الكفار " والله ربنا ما كنا مشركين{[15614]} " [ الأنعام : 23 ] وقوله تعالى في المنافقين : " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم{[15615]} " [ المجادلة : 18 ] . وفي الصحيح أنه يقول : ( يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك ، وصليت وصمت وتصدقت ، ويثني بخير ما استطاع ) الحديث . وقد تقدم في " حم السجدة " {[15616]} وغيرها . والمعاذير والمعاذر : جمع معذرة ، ويقال : عذرته فيما صنع أعذره عذرا وعذرا ، والاسم المعذرة والعذري ، قال الشاعر{[15617]} :
إنِّي حُدِدْتُ ولا عُذْرَى لمَحْدُودِ
وكذلك العذرة وهي مثل الركبة والجلسة ، قال النابغة :
ها إن تا عِذْرَةٌ إلا تكن نَفَعَتْ *** فإن صاحبَها قد تَاهَ في البَلَدِ{[15618]}
الأولى- قال القاضي أبو بكر بن العربي قوله تعالى : " بل الإنسان على نفسه بصيرة . ولو ألقى معاذيره " : فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه ؛ لأنها بشهادة منه عليها ، قال الله سبحانه وتعالى : " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " [ النور : 24 ] ولا خلاف فيه ؛ لأنه إخبار على وجه تنتفي التهمة عنه ؛ لأن العاقل لا يكذب على نفسه ، وهي المسألة :
الثانية : وقد قال سبحانه في كتابه الكريم : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين{[15619]} " [ آل عمران : 81 ] ثم قال تعالى : " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا{[15620]} " [ التوبة : 102 ] وهو في الآثار كثير ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ) . فأما إقرار الغير على الغير بوارث أو دين فقال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون ، فيقول أحدهم : إن أبي قد أقر أن فلانا ابنه ، أن ذلك النسب لا يثبت بشهادة إنسان واحد ، ولا يجوز إقرار الذي أقر إلا على نفسه في حصته من مال أبيه ، يعطى الذي شهد له قدر الدين{[15621]} الذي يصيبه من المال الذي في يده . قال مالك : وتفسير ذلك أن يهلك الرجل ويترك ابنين ويترك ستمائة دينار ، ثم يشهد أحدهما بأن أباه الهالك أقر أن فلانا ابنه ، فيكون على الذي شهد للذي استحق مائة دينار ، وذلك نصف ميراث المستلحق لو لحق ، وإن أقر له الآخر أخذ المائة الأخرى فاستكمل حقه وثبت نسبه . وهو أيضا بمنزلة المرأة تقر بالدين على أبيها أو على زوجها وينكر ذلك الورثة ، فعليها أن تدفع إلى الذي أقرت له قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على الورثة كلهم ، إن كانت امرأة فورثت الثمن دفعت إلى الغريم ثمن دينه ، وإن كانت ابنة ورثت النصف دفعت إلى الغريم نصف دينه ، على حساب هذا يدفع إليه من أقر له من النساء .
الثالثة- لا يصح الإقرار إلا من مكلف ، لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه ؛ لأن الحجر يسقط قوله إن كان لحق نفسه ، فإن كان لحق غيره كالمريض كان منه ساقط ، ومنه جائز . وبيانه في مسائل الفقه . وللعبد حالتان في الإقرار : إحداهما في ابتدائه ، ولا خلاف فيه على الوجه المتقدم . والثانية في انتهائه ، وذلك مثل إبهام الإقرار ، وله صور كثيرة وأمهاتها ست :
الصورة الأولى : أن يقول له عندي شيء ، قال الشافعي : لو فسره بتمرة أو كسرة قبل منه . والذي تقتضيه أصولنا أنه لا يقبل إلا فيما له قدر ، فإذا فسره به قبل منه وحلف عليه .
الصورة الثانية : أن يفسر هذا بخمر أو خنزير أو ما لا يكون مالا في الشريعة : لم يقبل باتفاق ولو ساعده عليه المقر له .
الصورة الثالثة : أن يفسره بمختلف فيه مثل جلد الميتة أو سرقين أو كلب ، ( فإن الحاكم يحكم عليه في ذلك بما يراه من رد وإمضاء{[15622]} ) فإن رده لم يحكم عليه حاكم آخر غيره بشيء ؛ لأن الحكم قد نفذ بإبطاله ، وقال بعض أصحاب الشافعي : يلزم الخمر والخنزير ، وهو قول باطل . وقال أبو حنيفة : إذا قال له علي شيء لم يقبل تفسيره إلا بمكيل أو موزون ، لأنه لا يثبت في الذمة بنفسه إلا هما . وهذا ضعيف ، فإن غيرهما يثبت في الذمة إذا وجب ذلك إجماعا .
الصورة الرابعة : إذا قال له : عندي مال قبل تفسيره بما لا يكون مالا في العادة كالدرهم والدرهمين ، ما لم يجيء من قرينة الحال ما يحكم عليه بأكثر منه .
الصورة الخامسة : أن يقول له : عندي مال كثير أو عظيم ، فقال الشافعي : يقبل في الحبة . وقال أبو حنيفة : لا يقبل إلا في نصاب الزكاة . وقال علماؤنا في ذلك أقوالا مختلفة ، منها نصاب السرقة والزكاة والدية وأقله عندي نصاب السرقة ، ؛ لأنه لا يبان عضو المسلم إلا في مال عظيم . وبه قال أكثر الحنفية . ومن يعجب فيتعجب لقول الليث بن سعد : إنه لا يقبل في أقل من اثنين وسبعين درهما . فقيل له : ومن أين تقول ذلك ؟ قال : لأن الله تعالى قال : " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين{[15623]} " [ التوبة : 25 ] وغزواته وسراياه كانت اثنتين وسبعين . وهذا لا يصح ؛ لأنه أخرج حنينا منها ، وكان حقه أن يقول يقبل في أحد وسبعين ، وقد قال الله تعالى : " اذكروا الله ذكرا كثيرا " [ الأحزاب : 41 ] ، وقال : " لا خير في كثير من نجواهم " [ النساء : 114 ] ، وقال : " والعنهم لعنا كبيرا " [ الأحزاب : 68 ] .
الصورة السادسة : إذا قال له : عندي عشرة أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسرها بما شاء ويقبل منه ، فإن قال ألف درهم أو مائة وعبد أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسر المبهم ويقبل منه . وبه قال الشافعي : وقال أبو حنيفة : إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا ، كقوله : مائة وخمسون درهما ؛ لأن الدرهم تفسير للخمسين ، والخمسين تفسير للمائة . وقال ابن خيران الإصطخري من أصحاب الشافعي : الدرهم لا يكون تفسيرا في المائة والخمسين إلا للخمسين خاصة ويفسر هو المائة بما شاء .
ولما عظم القيامة بكشف الأسرار فيها والإنباء بها ، وكان-{[70169]} الشأن أن الإنسان لا ينبأ إلا بما هو جاهل له أو غائب عنه ، وكان مما يخف على الإنسان في الدنيا النسيان ، وكان ذلك اليوم يوم كشف الغطاء ، زاده عظماً بالإعلام{[70170]} بأنه يجلو بصيرة الإنسان حتى يصير مستحضراً لجميع ما له من شأن ، فكان التقدير : وليس جاهلاً بشيء من ذلك ولا محتاجاً إلى الإنباء به ، قال بانياً عليه : { بل الإنسان } أي كل{[70171]} واحد من هذا النوع { على نفسه } خاصة { بصيرة * } أي حجة بينة على أعماله ، فالهاء للمبالغة - يعني أنه في غاية المعرفة لأحوال نفسه فإنه إذا تأمل وأنعم{[70172]} النظر ولم يقف مع الحظوظ عرف جيد فعله من رديئه ، أما في الدنيا فلان الفطر الأولى شاهدة بالخير والشر - كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله : " البر ما {[70173]}سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب{[70174]} ، والإثم ما حاك في الصدر وترددت فيه النفس وإن أفتاك الناس وأفتوك " رواه الإمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني-{[70175]} رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم : " إنما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت " - رواه البخاري{[70176]} عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وأما في الآخرة فإن الله يعطيه في{[70177]} ذلك اليوم-{[70178]} قوة الذكرى حتى تصير أعماله كلها بين عينيه لأنه تعالى ينفي عنه الشواغل البدنية ويكشف عنه الحجب النفسانية حتى تصير أعماله ممثلة له كأنه يراها ولا تنفعه معذرته ، لأن كل شيء يعتذر به عن نفسه يعرف كذبه بنفس وجوده لا بشيء{[70179]} خارج عنه تارة يكون خالقه أوجده{[70180]} على ما هو عليه من العلم وسلامة الأسباب المزيلة للعلل{[70181]} وتارة بإنطاق{[70182]} جوارحه .