ومن ثم يبدأ جولة أخرى حول الحقيقة الأولى :
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ? ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم ، وإن الظالمين لهم عذاب أليم . ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات ، لهم ما يشاءون عند ربهم ، ذلك هو الفضل الكبير . ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، قل : لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ؛ ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً ، إن الله غفور شكور . .
في فقرة سابقة قرر أن ما شرعه الله للأمة المسلمة هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ، وهو ما أوحى به إلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وفي هذه الفقرة يتساءل في استنكار عما هم فيه وما هم عليه ، من ذا شرعه لهم ما دام الله لم يشرعه ? وهو مخالف لما شرعه منذ أن كان هناك رسالات وتشريعات ?
( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ? ) . .
وليس لأحد من خلق الله أن يشرع غير ما شرعه الله وأذن به كائنا من كان ؛ فالله وحده هو الذي يشرع لعباده . بما أنه - سبحانه - هو مبدع هذا الكون كله ، ومدبره بالنواميس الكلية الكبرى التي اختارها له . والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير ، فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع تلك النواميس ؛ ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها المحيط بتلك النواميس . وكل من عدا الله قاصر عن تلك الإحاطة بلا جدال . فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور .
ومع وضوح هذه الحقيقة إلى حد البداهة ؛ فإن الكثيرين يجادلون فيها ، أو لا يقتنعون بها ، وهم يجرؤون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله ، زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم ، ويوائمون بين ظروفهم والتشريع الذي ينشئونه من عند أنفسهم . كأنما هم أعلم من الله وأحكم من الله ! أو كأنما لهم شركاء من دون الله يشرعون لهم ما لم يأذن به الله ! وليس أخيب من ذلك ولا أجرأ على الله !
لقد شرع الله للبشرية ما يعلم سبحانه ، أنه يتناسق مع طبيعتها وفطرتها . وطبيعة الكون الذي تعيش فيه وفطرته . ومن ثم يحقق لهذه البشرية أقصى درجات التعاون فيما بينها ، والتعاون كذلك مع القوى الكونية الكبرى . شرع في هذا كله أصولاً ، وترك للبشر فقط استنباط التشريعات الجزئية المتجددة مع حاجات الحياة المتجددة ، في حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة . فإذا ما اختلف البشر في شيء من هذا ردوه إلى الله ؛ ورجعوا به إلى تلك الأصول الكلية التي شرعها للناس ، لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشريع جزئي وكل تطبيق .
بذلك يتوحد مصدر التشريع ، ويكون الحكم لله وحده . وهو خير الحاكمين . وما عدا هذا النهج فهو خروج على شريعة الله ، وعلى دين الله ، وعلى ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام .
( ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم ) . .
فقد قال الله كلمة الفصل بإمهالهم إلى يوم القول الفصل . ولولاها لقضى الله بينهم ، فأخذ المخالفين لما شرعه الله ، المتبعين لشرع من عداه . لأخذهم بالجزاء العاجل . ولكنه أمهلهم ليوم الجزاء .
( وإن الظالمين لهم عذاب أليم ) . .
فهذا هو الذي ينتظرهم جزاء الظلم . وهل أظلم من المخالفة عن شرع الله إلى شرع من عداه ?
شركاء : آلهة أو أصنام شرعوا لهم الشرك الذي لم يأذن به الله .
ما لم يأذن به الله : ما لم يأمر به الله ، كالشرك ونحوه .
كلمة الفصل : حكمنا السابق بتأجيل عذابهم .
21- { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم } .
الآية تنهى عن الشرك بأبلغ أسلوب وأعلى بيان ، فالأصل أن الله تعالى لا يعبد إلا بما شرعه ، وقد أنزل الوحي على رسله بإقامة الدين ، لكن هؤلاء استمروا على الشرك والكفر والظلم ، فهل لهم أصنام وشياطين وأوثان شرعوا لهم الشرك والظلم والسلوك المعوج الذي لم يأذن به الله ولم يأمر به ، ولكنهم اتبعوه سيرا وراء أهوائهم وشياطينهم ؟
{ ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم } .
لولا أن الله تعالى قضى بإمهال عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة ، لفصل بين المؤمنين والكافرين ، بإنصاف المؤمنين وإنزال العذاب بالمشركين ، لكن هناك في الآخرة عذاب أليم ينتظر هؤلاء الظالمين .
ولما تقرر ما شرع من الدين مما وصى به جميع النبيين فبانت أصوله ، واتضحت فروعه وفصوله ، وظهرت غرائبه وأشرقت فرائده وآياته ، وختم بالقانون الأعظم في أمر الدارين مما هو مشاهد ولا يقدر عليه غيره ، فكان التقدير من غير خفاء : هذا شرع الله الذي ارتضاه لعباده وحكم بأن الإقبال عليه غير ضار بطلب الرزق وقدر الأرزاق فلا قدرة لأحد أن يزيد في رزقه شيئاً ، ولا أن ينقص منه شيئاً ، أقبلوه ؟ عادل ذلك بقوله تعالى مقرراً موبخاً منبهاً على ما هو الأصل في الضلال عن قوانينه المحررة وشرائعه الثابتة المقررة : { أم لهم } أي لهؤلاء الذين يروغون يميناً وشمالاً { شركاء } على زعمهم شاركوا الشارع الذي مضى بيان عزته وظهور جلاله وعظمته في أمره حتى { شرعوا } أي الشركاء الذين طرقوا ونهجوا { لهم } أي للكفار ، ويجوز أن يكون المعنى : شرع الكفار لشركائهم { من الدين } في العبادات والعادات التي تقرر في الأذهان أنه لا بد من الجزاء عليها لما جرت به عوائدهم عن محاسبة من تحت أيديهم وقدروا لهم من الأرزاق ، وعدل عن أسلوب العظمة إلى الاسم الأعظم إشارة إلى ما فيه مع العظمة من الإكرام الذي من جملته الحلم المقتضي لعدم معاجلتهم بالأخذ فقال تعالى : { ما لم يأذن به الله } أي يمكن العباد منه بأمرهم به وتقريرهم عليه الملك الذي لا أمر لأحد معه ، وقد محقت صفاته كل صفة وتضاءل عندها كل عظمة ، فأقبلوا عليه دون غيره لكونه معتداً به ، فإن كان كذلك فليسعدوا من أقبل على الدنيا التي هي محط أمرهم فلا يعرفون غيرها بأن يعطوه جميع مراده ويشقوا من أراد الآخرة وسعى لها سعيها ، ونسب الشرع إلى الأوثان لأنها سببه كما كانت سبب الضلال في قوله سبحانه وتعالى حكاية عن إبراهيم خليله عليه الصلاة والسلام { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } ويضاف الشركاء إليهم تارة لأنهم متخذوها وتارة إلى الله تعالى لأنهم أشركوهم به ، والعبارة تأتي بحسب المقام .
ولما علم قطعاً أن التقدير : فلولا أن هذه الأفعال التي يفعلونها من غير إذن منه لا تنقص من ملكه سبحانه شيئاً ، ولا تضر إلا فاعلها مع أنها بإرادته ، فكانت لمنعهم عنها لم يصلوا إلى شيء منها ، عطف عليه قوله تعالى : { ولولا كلمة الفصل } التي سبق في الأزل أنها لا تكون ولما كان أمرهم هيناً ، بني الفعل للمفعول ، فقال : { لقُضي بينهم } أي بين الذين امتثلوا أمره فالتزموا شرعه وبين الذين اتبعوا ما شرعوه لمن سموهم شركاء في أقرب وقت ولكنه قد سبق القضاء في أزل الأزل بمقادير الأشياء وتحديدها على وجوه الحكمة ، فهي تجري على ما حد لها لا تقدم لشيء منها ولا تأخر ولا تبدل ولا تغير ، وستنكشف لكم الأمور وتظهر مخبآت المقدور فلا يقع الفصل إلا في الآخرة كما سبق به القضاء بأن يكون للمقسطين نعيم مقيم .
ولما كانوا ينكرون أن يقع بهم عذاب ، قال مؤكداً عطفاً على ما قدرته بما أرشد إليه السياق : { وإن الظالمين } بشرع ما لم يأذن به الله من الشرك وغيره { لهم عذاب أليم * } أي مؤلم بليغ إيلامه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.