وبمناسبة الإشارة إلى الأجل المسمى ، وتقرير عدل الله فيه ، يقرر أن أمر الساعة وعلمها إلى الله وحده ، ويصور علم الله في بعض مجالاته صورة موحية تمس أعماق القلوب . وذلك في الطريق إلى عرض مشهد من مشاهد القيامة يسأل فيه المشركون ويجيبون :
( إليه يرد علم الساعة ، وما تخرج من ثمرات من أكمامها ، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . ويوم يناديهم : أين شركائي ? قالوا : آذناك ما منا من شهيد . وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل ، وظنوا ما لهم من محيص ) . .
والساعة غيب غائر في ضمير المجهول . والثمرات في أكمامها سر غير منظور ، والحمل في الأرحام غيب كذلك مستور . وكلها في علم الله ، وعلم الله بها محيط . ويذهب القلب يتتبع الثمرات في أكمامها ، والأجنة في أرحامها . يذهب في جنبات الأرض كلها يرقب الأكمام التي لا تحصى ؛ ويتصور الأجنة التي لا يحصرها خيال ! وترتسم في الضمير صورة لعلم الله بقدر ما يطيق الضمير البشري أن يتصور من الحقيقة التي ليس لها حدود .
ويتصور القطيع الضال من البشر ، واقفاً أمام هذا العلم الذي لا يند عنه خاف ولا مستور :
( ويوم يناديهم : أين شركائي ? ) . .
هنا في هذا اليوم الذي لا يجدي فيه جدال ، ولا تحريف للكلم ولا محال . فماذا هم قائلون ?
سعة علم الله ، وختام سورة فصلت
{ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ( 47 ) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ( 48 ) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ( 49 ) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ( 50 ) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ( 51 ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( 52 ) سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 53 ) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ( 54 ) }
أكمامها : جمع كم- بكسر الكاف- وهو الوعاء الذي تكون الثمرة بداخله .
ما منا من شهيد : ليس منا من يشهد بأن لك شريكا .
47- { إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد } .
أخفى الله علم يوم القيامة عن خلقه ، وقال تعالى : { إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى } . ( طه : 15 ) .
وقال سبحانه : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاها * إنما أنت منذر من يخشاها * كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } . ( النازعات : 42-46 ) .
والآية في مجملها تشير إلى علم الله الواسع الممتد ، الذي يحيط علما بكل شيء ، فهو سبحانه العليم بوقت مجيء القيامة ، وعلمه ممتد شامل لجميع الثمرات داخل أوعيتها ، وعلمه ممتد شامل لكل أنثى يستقر في بطنها حمل ، ولكل والدة تضع ولدها ، إن هذا العلم الشامل المحيط الكبير الممتد الذي يحيط بالدنيا والآخرة ، والمبدأ والميعاد ، والحاضر والغائب ، والخفي والظاهر ، والغيب والشهادة ، كل ذلك خاص بالله وحده مشتمل على معرفة ما يأتي : 1- وقت مجيء يوم القيامة .
2- معرفة الثمار المختبئة في أوعيتها قبل أن تنشق عنها .
3- حمل كل أنثى ، ومعرفة كل جنين ومستقبله .
فهو المحيط بما خفي من شئون الدنيا والآخرة ، لأنه سبحانه أحاط بكل شيء علما ، وفي يوم القيامة ينادي المشركين ويسألهم سؤال توبيخ وتقريع : أين الشركاء الذين عبدتموهم من دوني ؟ أين صولتهم ودولتهم وملكهم في يوم لا مالك فيه إلا الله ؟
فيقول الكفار : أعلمناك وأخبرناك ، وشهدنا شهادة جهيرة عالية الصوت ، ليس منا من أحد يشهد بأن لك شريكا ، لقد أيقن الجميع بالحق ، وشهدوا لله بالوحدانية ، وأيقنوا بأن الملك لله وحده ، وليس بينهم من أحد يشهد بأن لله سبحانه شريكا أو نظيرا أو مثيلا .
لما عاينوا القيامة تبرأوا من الأصنام ، وتبرأت الأصنام منهم ، وأعلنوا إيمانهم وتوحيدهم في وقت لا ينفع فيه إيمان .
{ إليه يرد علم الساعة } إرشاد للمؤمنين في التفصي عن هذا السؤال إذا وجه إليهم – بتفويض العلم فيه إلى الله وحده ؛ وقد سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن وقت قيامها . { من أكمامها } من
أوعيتها . جمع كم – بالكسر – وهو وعاء الطلع ، وغطاء النور ؛ كالكمامة والكمة – بالكسر فيهما – ويجمع أيضا على أكمة وكمام . { قالوا آدناك . . . } أعلمناك بلسان الحال ، وبما تعلم من قلوبنا أنه ليس منا أحد يشهد لهم بالشركة . يقال : آذنه الأمر وبه . أعلمه .
أكمامها : جمع كِمّ بكسر الكاف ، برعوم الثمرة ووعاؤها ، وكذلك الكُم بضم الكاف : وعاء الثمر والزهر .
ما منا من شهيد : ليس منا من يشهد لك شركاء .
بعد تلك الجولة مع المشركين ، وما ينتظرهم يوم القيامة حسب أعمالهم وسوء عقائدهم ، يبيّن الله تعالى هنا أن لا سبيل إلى معرفة يوم القيامة وتحديد موعده ، فذاك لا يعلمه إلا هو ، وأن علم الحوادث المقبلة في أوقاتها عند الله ، فلا يعلم أحد متى تخرجُ الثمر من أكمامها ، ولا متى تحمل المرأة ولا متى تضع . ثم ذكر سبحانه أنه يوم القيامة ينادي المشركين تقريعاً لهم فيقول لهم : { أَيْنَ شُرَكَآئِي } الذين كنتم تعبدونهم من دوني ؟ فيكون جوابهم : { آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } إننا نُعلمك يا الله أنه ليس منا الآن من يشهد أن لك شركاء .
قرأ نافع وحفص وابن عامر من ثمرات بالجمع . والباقون : من ثمرة بالإفراد .
قوله عز وجل :{ إليه يرد علم الساعة } أي : عملها إذا سئل عنها مردود إليه لا يعلمه غيره ، { وما تخرج من ثمرات من أكمامها } قرأ أهل المدينة والشام وحفص : { ثمرات } على الجمع ، وقرأ الآخرون { ثمرة } على التوحيد ، { من أكمامها } أوعيتها ، واحدها : كم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني الكفرى قبل أن تنشق . { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } إلا بإذنه ، يقول : يرد إليه علم الساعة كما يرد إليه علم الثمار والنتاج . { ويوم يناديهم } ينادي الله المشركين ، { أين شركائي } الذين كنتم تزعمون أنها آلهة ، { قالوا } يعني المشركين ، { آذناك } أعلمناك ، { ما منا من شهيد } أي : من شاهد بأن لك شريكاً لما عاينوا العذاب تبرأوا من الأصنام .
{ إليه يرد علم الساعة } أي : علم زمان وقوعها ، فإذا سئل أحد عن ذلك قال : الله هو الذي يعلمها . { من أكمامها } جمع كم بكسر الكاف وهو غلاف الثمرة قبل ظهورها .
{ ويوم يناديهم أين شركائي } العامل في يوم محذوف والمراد به يوم القيامة ، والضمير للمشركين ، وقوله : { أين شركائي } توبيخ لهم ، وأضاف الشركاء إلى نفسه على زعم المشركين ، كأنه قال : الشركاء الذين جعلتم لي .
{ قالوا آنذاك ما منا من شهيد } المعنى : أنهم قالوا أعلمناك ما منا من يشهد اليوم بأن لك شريكا لأنهم كفروا يوم القيامة بشركائهم .