في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

16

وقرب نهاية الخط يجيء عيسى بن مريم :

ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم . .

أي على آثار السابقين من ذرية نوح وإبراهيم . فكانت الرسالة ممتدة واحدة على إثر واحدة حتى جاء عيسى ابن مريم .

ويذكر هنا صفة بارزة من صفات الذين اتبعوا عيسى بن مريم : ( وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ) . . وهم الثمرة الطبيعية لدعوة المسيح - عليه السلام - وروحها السمحة وتطهرها الروحي ، وشفافيتها الوضيئة والرأفة والرحمة ظاهرة واضحة في المؤمنين حقيقة برسالة عيسى عليه السلام ، ممن أحسنوا اتباعه . وقد أشارت إليها آيات أخرى في القرآن الكريم ، كما حفظ منها التاريخ صورا يرويها الرواة عن النجاشي وعن وفد نجران وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام ، بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق ، مذ كانوا أتباع عيسى بن مريم بحق .

كذلك يذكر النص هنا ظاهرة أخرى عرفت في تاريخ أتباع المسيح عيسى بن مريم : ( ورهبانية ابتدعوها - ما كتبناها عليهم - إلا ابتغاء رضوان الله ) . .

والراجح في تفسير الآية أن هذه الرهبانية التي عرفها تاريخ المسيحية كانت اختيارا من بعض أتباع عيسى عليه السلام ، ابتدعوها من عند أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، وابتعادا عن أوضار الحياة ، ولم يكتبها الله عليهم ابتداء . ولكنهم حين اختاروها وأوجبوها على أنفسهم صاروا مرتبطين أمام الله بأن يرعوا حقوقها ، ويحافظوا على مقتضياتها من تطهر وترفع ، وقناعة وعفة ، وذكر وعبادة . . مما يحقق في أنفسهم حقيقة التجرد لله ، التي قصدوا إليها بهذه الرهبانية التي ابتدعوها .

ولكنها انتهت إلى أن تصبح في الغالب طقوسا وشعائر خالية من الروح ، وأن يتخذها الكثيرون مظهرا عاريا من الحقيقة . فلا يصبر على تكاليفها إلا عدد منهم قليل :

( فما رعوها حق رعايتها . فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .

والله لا يأخذ الناس بالمظاهر والأشكال ، ولا بالطقوس والمسوح . إنما يأخذهم بالعمل والنية ، ويحاسبهم على حقيقة الشعور والسلوك . وهو الذي يعلم خبايا القلوب وذوات الصدور .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

26

المفردات :

قفينا : أتبعنا .

الإنجيل : الكتاب الذي أنزله الله على عيسى وفيه شريعته .

رأفة : دفع الشر باللطف واللّين .

ورحمة : جلب الخير والمودة والحسنى .

رهبانية : هي الانقطاع عن الناس للعبادة ، واتخاذ الصوامع في الجبال وغيرها ، والامتناع عن لذيذ الطعام والشراب ، واعتزال النساء ، والتعبد في الغيران والكهوف .

ابتدعوها : استحدثوها ولم تكن في دينهم .

إلا ابتغاء رضوان الله : استثناء منقطع ، أي : لكنّهم ابتدعوها بقصد مرضاة الله .

فما رعوها : لم يرعها الجميع ، ولم يحافظوا عليها .

فآتينا الذين آمنوا : آتينا الذين آمنوا بعيسى الإيمان الصحيح .

منهم : من أتباعه .

فاسقون : خارجون عن حال الاتباع .

التفسير :

27- { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } .

بعد نوح وإبراهيم أرسلنا رسلنا تترى ، رسولا بعد رسول ، كما ذكر القرآن الكريم جهاد الرسل وكفاحهم في دعوة أقوامهم إلى الإيمان ، وتحمّل الرسل الإيذاء ، وصبروا وصابروا حتى نصرهم الله .

وكان عيسى ابن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل ، وقد بشر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعطاه الله الإنجيل مشتملا على صيحات روحانية ، وسكب الله في قلوب أتباع عيسى ( الرأفة ) وهي الشفقة واللين ، و( الرحمة ) وهي التعاطف فيما بينهم ، كما قال سبحانه عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم : رحماء بينهم . ( الفتح : 29 ) .

وتعرض أبتاع عيسى للقتل والتعذيب ، فاختاروا طائعين ( الرهبانية ) وهي ترك الشهوات والنساء ولذائذ الطعام ، وهاجروا إلى الصوامع والأديرة في الصحراء ، متعبدين لله تعالى ، وما طلب الله منهم ذلك ، وما فرضه عليهم ، لكنهم نذروه والتزموا به أمام الله ، رغبة في رضوانه ومرضاته .

ثم تحولت الرهبانية بعد فترة إلى طقوس خالية من الروح ، والله لا ينظر إلى الصورة والشكل ، وإنما ينظر إلى القلب ، وما يسكن في الروح والفؤاد .

{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ . . . }

والاستثناء هنا منقطع ، والمعنى : ما كتبنا عليهم الرهبانية ، ولكنهم فعلوها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، ونلحظ إنصاف القرآن الكريم لأتباع عيسى ، حيث وصفهم بالرأفة والرحمة و والرهبانية ، والتقشّف رغبة في مرضاة الله .

ونجد مثل ذلك في القرآن الكريم ، والحديث الشريف ، كما حفظ التاريخ صورا يرويها بها الرواة عن النجاشي ، وعن وفد نجران ، وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق مُذ كانوا أتباع عيسى بن مريم بحق .

{ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا . . . }

فما حافظوا على هذه الرهبانية التي ألزموا أنفسهم بها ، ولم يستمروا في إخلاصهم وتجردهم ، ورغبتهم في مرضاتهم لربهم ، " بل أصبحت الرهبانية في الغالب طقوسا وشعائر خالية من الروح ، واتخذها الكثيرون مظهرا عاريا من الحقيقة ، ولم يصبر على تكاليفها إلا عدد قليل منهم " 25

{ فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } .

فأعطينا المؤمنين إيمانا صحيحا ثوابهم الذي يستحقونه بالإيمان ، وكثير من هؤلاء المترهبين ، فَاسِقُونَ . خارجون عن حدود الله وطاعته ، بأكلهم أموال الناس بالباطل ، وبسلوكهم المنحرف .

روى الحافظ أبو يعلى ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا تشدّدوا على أنفسكم ، فيشدّد عليكم ، فإن قوما شدّدوا على أنفسهم فشدِّد عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات " .

{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ . . . }

وروى الإمام أحمد ، عن إياس بن مالك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل نبي رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل " 26

وقد أورد الحافظ ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة في تفسير هذه الآية ، وكذلك ابن جرير الطبري والقرطبي ، وهي تفيد أن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة ، وأن ثلاث فرق من أتباع عيسى عليه السلام التزموا بالحق وأتباع الدين الحق .

الفرقة الأولى : قاتلت الجبابرة ، فقُتلت وصبرت ونجت .

الفرقة الثانية : لم تكن لها قوة بالقتال ، فقامت بين الملوك والجبابرة ، فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقتلت وقطّعت بالمناشير ، وحرّقت بالنيران ، فصبرت ونجت .

الفرقة الثالثة : لم تكن لها قوة ، ولم تطق القيام بالقسط ، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت ، وهم الذين ذكر الله تعالى : وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ . . .

أخرجه ابن أبي حاتم ، ورواه ابن جرير بطريق أخرى ولفظ آخر .

وأخرج الإمام أحمد أن أبا سعيد الخدري قال : يا رسول الله ، أوصني ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء ، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام ، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض " 27

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

{ ثم قفينا على آثارهم برسلنا . . } ثم أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول ، حتى انتهينا إلى عيسى عليه السلام [ آية 87 البقرة ص 26 ] . { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه } وهم الحواريون وأتباعهم الذين آمنوا بأنه عبد لله ورسوله ، وبالكتاب الذي جاءهم به ؛ ولم يغيروا ولم يبدلوا شريعته وكتابه . { رأفة } لينا وخفض جناح . { ورحمة } شفقة . أما الذين جاءوا بعدهم فغيروا وبدلوا ، وغلوا في عيسى حتى جعلوه إلها ، أو جزء إله ، فهم بمعزل عن الحق ، وعن الرأفة والرحمة اللتين أودعهما الله في قلوب الذين اتبعوه . وقد تغالى أولئك الذين اتبعوا عيسى عليه السلام في العبادة ، وحملوا أنفسهم المشاق الزائدة فيها وفي ترك النكاح ، واستعمال في الخشن في المطعم والمشرب والملبس ، مع التقلل منها ؛ وحبسوا أنفسهم في الصوامع والأديرة والكهوف والغيران ! ! وكان ذلك ابتداعا من تلقاء أنفسهم ؛ لم يؤمروا به ،

ولم تجئ به شريعتهم ، ولكنهم التزموه ابتغاء مرضاة الله تعالى ؛ وذلك قوله تعالى : { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله } ثم جاء أخلافهم فغيروا وبدلوا في دين الله ، وزعموا في عيسى مالا يرضاه ولا يرضى الله ، وسلكوا في العبادة الباطلة مسلك الرهبنة الأولى ؛ فجمعوا إلى الكفر بالله المبالغة في التعبد الباطل ؛ وذلك قوله تعالى : { فما رعوها حق رعايتها } فما رعاها أخلافهم الذين أتوا بعدهم . { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم أسلافهم الذين كانوا على الحق{ وكثير منهم فاسقون } وهم أخلافهم لخروجهم عن طاعة الله ، وكفرهم به بزعم التثليث ، أو ألوهية عيسى ، أو أنه ابن الله ؛ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ! وهم في الواقع على دين غير دين عيسى عليه السلام .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

ثم قفّينا على آثارهم : ثم أرسلنا بعدهم الواحدَ تلو الآخر .

الرهبانية : الطريقة التي يتبعها قُسُس النصارى ورهبانهم .

ابتدعوها : استحدثوها من عند أنفسِهم .

فما رَعَوْها : فما حافظوا عليها .

بعثنا بعدَهم رسولاً بعد رسول على توالي العصور والأيام ، حتى انتهى الأمر إلى عيسى عليه السلام وأعطيناه الإنجيلَ الّذي أوحيناه إليه ، وأودعنا في قلوب المتّبعين له رأفةً ورحمة . وبعد ذلك كله ابتدعوا رهبانيةً وغُلواً في العبادة

ما فرضناها عليهم ، ولكن التزموهما ابتغاء رضوان الله تعالى ، فما حافظوا عليهما حقَّ المحافظة . فآتينا الذين آمنوا منهم إيماناً صحيحاً أجورَهم التي استحقّوها . أما كثير منهم فقد خرجوا عن أمر الله ، واجترموا الشرور والآثام ، فلهم عذابٌ عظيم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

{ ثُمَّ قَفَّيْنَا } أي : أتبعنا { عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } خص الله عيسى عليه السلام ؛ لأن السياق مع النصارى ، الذين يزعمون اتباع عيسى عليه السلام ، { وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ } الذي هو من كتب الله الفاضلة ، { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } كما قال تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } الآيات .

ولهذا كان النصارى ألين من غيرهم قلوبا ، حين كانوا على شريعة عيسى عليه السلام .

{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } والرهبانية : العبادة ، فهم ابتدعوا من عند أنفسهم عبادة ، ووظفوها على أنفسهم ، والتزموا لوازم ما كتبها الله عليهم ولا فرضها ، بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم ، قصدهم بذلك رضا الله تعالى ، ومع ذلك { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي : ما قاموا بها ولا أدوا حقوقها ، فقصروا من وجهين : من جهة ابتداعهم ، ومن جهة عدم قيامهم بما فرضوه على أنفسهم . فهذه الحال هي الغالب من أحوالهم .

ومنهم من هو مستقيم على أمر الله ، ولهذا قال : { فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } أي : الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، مع إيمانهم بعيسى ، كل أعطاه الله على حسب إيمانه { وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

قوله تعالى : { ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون* ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه } على دينه ، { رأفةً } وهي أشد الرقة ، { ورحمةً } كانوا متوادين بعضهم لبعض ، كما قال الله تعالى في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { رحماء بينهم }( الفتح- 29 ) ، { ورهبانية ابتدعوها } من قبل أنفسهم ، وليس هذا بعطف على ما قبله ، وانتصابه بفعل مضمر كأنه قال : وابتدعوا رهبانية أي جاؤوا بها من قبل أنفسهم ، { ما كتبناها } ، أي ما فرضناها ، { عليهم إلا ابتغاء رضوان الله } يعني : ولكنهم ابتغوا رضوان الله بتلك الرهبانية ، وتلك الرهبانية ما حملوا أنفسهم من المشاق في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبد في الجبال ، { فما رعوها حق رعايتها } أي لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها بل ضيعوها وكفروا بدين عيسى ، فتهودوا وتنصروا ، ودخلوا في دين ملوكهم ، وتركوا الترهب ، وأقام منهم أناس على دين عيسى عليه الصلاة والسلام حتى أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به ، وذلك قوله تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم الذين ثبتوا عليها وهم أهل الرأفة والرحمة ، { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه الصلاة والسلام .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأني عبد الله بن حامد ، أنبأنا أحمد بن عبد الله المزني ، حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا الصعق بن حرب ، عن عقيل الجعدي ، عن أبي إسحاق عن سويد بن غفلة ، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث وهلك سائرهن ، فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى عليه الصلاة والسلام ، فأخذوهم وقتلوهم ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى عليه السلام فساحوا في البلاد وترهبوا ، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم : { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون " . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : " يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام يعملون بالمعاصي ، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم ، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلا القليل ، فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو له فقالوا : تعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى عليه السلام ، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم ، فتفرقوا في غيران الجبال ، وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ، ثم تلا هذه الآية : { ورهبانية ابتدعوها } الآية . { فآتينا الذين آمنوا منهم } يعني من ثبتوا عليها أجرهم ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : الهجرة والجهاد ، والصلاة والصوم ، والحج والعمرة ، والتكبير على التلاع " . وروي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لكل أمة رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله " . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت ملوك بني إسرائيل بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله فقيل لملوكهم : لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه ، فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها ، فقالوا : نحن نكفيكم أنفسنا ، فقالت طائفة : ابنوا لنا أسطوانة ، ثم ارفعونا إليها ، ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا ، ولا نرد عليكم ، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش ، فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا ، وقالت طائفة : ابنوا لنا دوراً في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم ، ففعلوا بهم ذلك فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه الصلاة والسلام ، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب ، فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله عز وجل : { ورهبانية ابتدعوها } أي ابتدعها هؤلاء الصالحون ، { فما رعوها حق رعايتها } يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم ، { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } يعني الذين ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، { وكثير منهم فاسقون } هم الذين جاؤوا من بعدهم .

قال : فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل انحط رجل من صومعته وجاء سياح من سياحته وصاحب دير من ديره ، وآمنوا به فقال الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } الخطاب لأهل الكتابين من اليهود والنصارى ، يقول : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم { وآمنوا برسوله } محمد صلى الله عليه وسلم ، { يؤتكم كفلين } نصيبين ، { من رحمته } يعني يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى عليه الصلاة والسلام ، والإنجيل وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . وقال قوم : انقطع الكلام عند قوله :{ ورحمة } ثم ابتدأ : { ورهبانية ابتدعوها } ، وذلك أنهم تركوا الحق فأكلوا الخنزير وشربوا الخمر وتركوا الوضوء والغسل من الجنابة والختان ، فما رعوها ، يعني : الطاعة والملة { حق رعايتها } كناية عن غير مذكور ، { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم أهل الرأفة والرحمة ، { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين ابتدعوا الرهبانية ، وإليه ذهب مجاهد . معنى قوله : { إلا ابتغاء رضوان الله } على هذا التأويل : ما أمرناهم وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ، وما أمرناهم بالترهب . قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا } بموسى وعيسى اتقوا الله . { وآمنوا برسوله } محمد صلى الله عليه وسلم { يؤتكم كفلين } نصيبين { من رحمته } . وروينا عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده " . { ويجعل لكم نوراً تمشون به } قال ابن عباس ومقاتل : يعني على الصراط ، كما قال : { نورهم يسعى بين أيديهم }( التحريم- 8 ) ، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النور هو القرآن . وقال مجاهد : هو الهدى والبيان ، أي يجعل لكم سبيلاً واضحاً في الدين تهتدون به ، { ويغفر لكم والله غفور رحيم } وقيل : لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله عز وجل : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين }( القصص- 54 ) قالوا للمسلمين : أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وبكتابنا ، وأما من لم يؤمن منا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا ؟ فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته } فجعل لهم الأجرين إذا آمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وزادهم النور والمغفرة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ثم أتبعنا على آثارهم برسلنا الذين أرسلناهم بالبيّنات على آثار نوح إبراهيم برسلنا، وأتبعنا بعيسى ابن مريم" وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ "يعني: الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته "رأَفَةً" وهو أشدّ الرحمة "وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها" يقول: أحدثوها "ما كَتَبَناها عَلَيْهِمْ" يقول: ما افترضنا تلك الرهبانية عليهم "إلاّ ابْتِغاءِ رِضْوَانِ اللّهِ" يقول: لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله "فَمَا رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها".

واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها؛ فقال بعضهم: هم الذين ابتدعوها، لم يقوموا بها، ولكنهم بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى: فتنصّروا وتهوّدوا.

وقال آخرون: بل هم قوم جاؤوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حقّ رعايتها، لأنهم كانوا كفارا ولكنهم قالوا: نفعل كالذي كانوا يفعلون من ذلك أوّليا، فهم الذين وصف الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها...

عن قتادة "وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوه رأفَةً ورحْمَةً" فهاتان من الله، والرهبانية ابتدعها قوم من أنفسهم، ولم تُكتب عليهم، ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان الله، فما رعوها حقّ رعايتها، ذُكر لنا أنهم رفضوا النساء، واتخذوا الصوامع...

حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا داود بن المحبر، قال: حدثنا الصعق بن حزن، قال: حدثنا عقيل الجعديّ، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، عن سويد بن غفلة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخْتَلَفَ مَنْ كانَ قَبْلَنا على إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجا مِنْهُمْ ثَلاثٌ وَهَلَكَ سائِرُهُمْ: فِرْقَةٌ مِنَ الثّلاثِ وَازَتِ المُلُوكَ وَقاتَلَتْهُمْ على دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِموَازَاة المُلُوكِ، فأقامُوا بَينَ ظَهْرَانيْ قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلى دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيَسى ابن مَرْيَم صَلَوَاتُ اللّهُ عَلَيْهِ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ، وَنَشَرْتهُمْ بالمِناشِير وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِمُوَازَاةِ المُلُوكِ، وَلا بالمُقام بَينَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ يَدْعُوَنَهُمْ إلى دِينِ اللّه وَدِينِ عِيسَى صَلَواتُ اللّهُ عَلَيْهِ، فَلَحِقُوا بالبَرَارِي والجِبالِ، فَتَرَهّبُوا فِيها» فَهُوَ قَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال: «ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله» فَمَا رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها قال: «ما رعاها الذين من بعدهم حقّ رعايتها» فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ قال: «وهم الذين آمنوا بي، وصدّقوني». قال وكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ قال: «فهم الذين جحدوني وكذّبوني»...

وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها، بعض الطوائف التي ابتدعتها، وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم قال: فدلّ بذلك على أن منهم من قد رعاها حقّ رعايتها، فلو لم يكن منهم من كان كذلك لم يكن مستحقّ الأجر الذي قال جلّ ثناؤه: "فآتَيْنا الّذِينَ آمَنوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ" إلا أن الذين لم يرعوها حقّ رعايتها ممكن أن يكونوا كانوا على عهد الذين ابتدعوها، وممكن أن يكونوا كانوا بعدهم، لأن الذين هم من أبنائهم إذا لم يكونوا رعوها، فجائز في كلام العرب أن يقال: لم يرعها القوم على العموم. والمراد منهم البعض الحاضر، وقد مضى نظير ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.

وقوله: "فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ" يقول تعالى ذكره: فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على ابتغائهم رضوان الله، وإيمانهم به وبرسوله في الاَخرة، وكثير منهم أهل معاص، وخروج عن طاعته والإيمان به...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... {فما رعوها حق رعايتها} أخبر أنهم ابتدعوا شيئا لم يكتب عليهم، ثم ذكر أنهم لم يرعوه حق رعايته؛ ذمهم لتركهم الرعاية لما ابتدعوه؛ ففيه دلالة أن من افتتح قربة، لم تفرض عليه من صلة أو صوم أو نحو ذلك ثم لم يقم بوفائها وإتمامها لحقه ذم كما لحق هؤلاء.

{أجرهم وكثير منهم فاسقون} أي كافرون.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. والرهبانية: ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة...

{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} كما يجب على الناذر رعاية نذره؛ لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

{وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً}.. والرأفة في المشهور: الرحمة، لكن قال بعض الأفاضل: إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشر ورأب الصدع، وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح..

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم.. أي على آثار السابقين من ذرية نوح وإبراهيم. فكانت الرسالة ممتدة واحدة على إثر واحدة حتى جاء عيسى ابن مريم. ويذكر هنا صفة بارزة من صفات الذين اتبعوا عيسى بن مريم: (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة).. وهم الثمرة الطبيعية لدعوة المسيح -عليه السلام- وروحها السمحة وتطهرها الروحي، وشفافيتها الوضيئة والرأفة والرحمة ظاهرة واضحة في المؤمنين حقيقة برسالة عيسى عليه السلام، ممن أحسنوا اتباعه. وقد أشارت إليها آيات أخرى في القرآن الكريم، كما حفظ منها التاريخ صورا يرويها الرواة عن النجاشي وعن وفد نجران وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام، بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق، مذ كانوا أتباع عيسى بن مريم بحق. كذلك يذكر النص هنا ظاهرة أخرى عرفت في تاريخ أتباع المسيح عيسى بن مريم: (ورهبانية ابتدعوها -ما كتبناها عليهم- إلا ابتغاء رضوان الله).. والراجح في تفسير الآية أن هذه الرهبانية التي عرفها تاريخ المسيحية كانت اختيارا من بعض أتباع عيسى عليه السلام، ابتدعوها من عند أنفسهم ابتغاء رضوان الله، وابتعادا عن أوضار الحياة، ولم يكتبها الله عليهم ابتداء. ولكنهم حين اختاروها وأوجبوها على أنفسهم صاروا مرتبطين أمام الله بأن يرعوا حقوقها، ويحافظوا على مقتضياتها من تطهر وترفع، وقناعة وعفة، وذكر وعبادة.. مما يحقق في أنفسهم حقيقة التجرد لله، التي قصدوا إليها بهذه الرهبانية التي ابتدعوها. ولكنها انتهت إلى أن تصبح في الغالب طقوسا وشعائر خالية من الروح، وأن يتخذها الكثيرون مظهرا عاريا من الحقيقة. فلا يصبر على تكاليفها إلا عدد منهم قليل: (فما رعوها حق رعايتها. فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون)..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{ثم} للتراخي الرتبي لأن بعثه رسل الله الذين جاءوا بعد نوح وإبراهيم ومن سَبق من ذريتهما أعظمُ مما كان لدى ذرية إبراهيم قبل إرسال الرسل الذين قفّى الله بهم...

والآثار: جمع الأثر، وهو ما يتركه السائر من مواقع رجليه في الأرض... {على آثارهم} عائد إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوءة والكتاب، فأما الذين كانت فيهم النبوءة فكثيرون، وأما الذين كان فيهم الكتاب فمثل بني إسرائيل.و (على) للاستعلاء. وأصل (قفى على أثره)...بمعنى بعده بقليل أو متصلاً شأنه بشأن سابقه...

.ومعنى جَعْل الرأفة والرحمة في قلوب الذين اتّبعوه أن تعاليم الإنجيل الذي آتاه الله عيسى أمرتهم بالتخلق بالرأفة والرحمة فعملوا بها، أو إن ارتياضهم بسيرة عيسى عليه السلام أرسخَ ذلك في قلوبهم وذلك بجعل الله تعالى لأنه أمرهم به ويسّره عليهم،ذلك أن عيسى بُعث لتهذيب نفوس اليهود واقتلاع القسوة من قلوبهم التي تخلقوا بها في أجيال طويلة...

{كتبناها} فالمعنى: لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، أي أن يبتغوا رضوان الله بكل عمل لا خصوص الرهبانية التي ابتدعوها، أي أن الله لم يكلفهم بها بعينها.

{إلا ابتغاء رضوان الله} يجوز أن يكون نفياً لتكليف الله بها ولو في عموم ما يشملها، أي ليست مما يشمله الأمر برضوان الله تعالى وهم ظنوا أنهم يرضون الله بها. ويجوز أن يكون نفياً لبعض أحوال كتابة التكاليف عليهم وهي كتابة الأمر بها بعينها فتكون الرهبانية مما يبتغَى به رضوان الله، أي كتبوها على أنفسهم تحقيقاً لما فيه رضوان الله...

{فما رعوها حق رعايتها} وفيه إشعار بأن ما يكتبه الله على العباد من التكاليف لا يشق على الناس العمل به. والرعي: الحفظ، أي ما حفظوها حق حفظها... فإذا وقع التقصير في التزامها في بعض الأزمان أو التفريط في بعض الأنواع فقد انتفى حق حفظها. و {حق رعايتها} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي رعايتها الحق. وحق الشيء: هو وقوعه على أكمل أحوال نوعه، وهو منصوب على المفعول المطلق المبين للنوع.والمعنى: ما حفظوا شؤون الرهبانية حفظاً كاملاً فمصبّ النفي هو القيد بوصف {حق رعايتها}. وهذا الانتفاء له مراتب كثيرة، والكلام مسوق مساق اللوم على تقصيرهم فيما التزموه أو نذروه، وذلك تقهقر عن مراتب الكمال وإنما ينبغي للمتقي أن يكون مزداداً من الكمال...

{وكثير منهم فاسقون}، أي وكثير من الذين التزموا دينه خارجون عن الإِيمان، فالمراد بالفسق ما يشمل الكفر وما دونه مثل الذين بدلوا الكتاب واستخفوا بشرائعه...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

... ثم يصف أتباعه {وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الذينَ اتّبَعُوهُ رَأْفَةً..} الرأفة هي التي تزيل الآلام والشقاء {وَرَحْمَة..} والرحمة أنْ تعطي بالزيادة والإحسان.

{وَرَهْبَانيَّة ابْتَدَعُوها..} الرهبانية هي المبالغة في التعبد، وقد بالغ أتباع عيسى في التعبد، فانقطعوا في الصوامع وحرموا أنفسهم من النساء، وقد وردت الرهبانية في كتاب ألّفوه سنة 1935، هذا الكتاب تكلم عن وادي النطرون وعنوان الكتاب: وادي النطرون ورهبانه، وقالوا: إن الرهبانية وُجدت من بعد عيسى بمائة وخمسين سنة...

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

فيه أربع مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " ثم قفينا " أي اتبعنا " على آثارهم " أي على آثار الذرية . وقيل : على أثار نوح وإبراهيم " برسلنا " موسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم " وقفينا بعيسى ابن مريم " فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه " وآتيناه الإنجيل " وهو الكتاب المنزل عليه . وتقدم اشتقاقه في أول سورة " آل عمران{[14732]} " .

الثانية- قوله تعالى : " وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه " على دينه يعني الحواريين وأتباعهم " رأفة ورحمة " أي مودة فكان يوادُّ بعضهم بعضا . وقيل : هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك ، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه . والرأفة اللين ، والرحمة الشفقة . وقيل : الرأفة تخفيف الكل ، والرحمة تحمل الثقل . وقيل : الرأفة أشد الرحمة . وتم الكلام . ثم قال : " ورهبانية ابتدعوها " أي من قبل أنفسهم . والأحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل ، قال أبو علي : وابتدعوها رهبانية ابتدعوها . وقال الزجاج : أي ابتدعوها رهبانية ، كما تقول رأيت زيدا وعمرا كلمت . وقيل : إنه معطوف على الرأفة والرحمة ، والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيروا وابتدعوا فيها . قال الماوردي : وفيها قراءتان ، إحداهما بفتح الراء وهي الخوف من الرهب . الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان ، وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع ، وذلك أن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا . قال الضحاك : إن ملوكا بعد عيسى عليه السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة ، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقوا بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم ، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع . وقال قتادة : الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع . وفي خبر مرفوع : ( هي لُحُوقُهم بالبراري والجبال ) .

قوله تعالى : " ما كتبناها عليهم " أي ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها ، قاله ابن زيد . " إلا ابتغاء رضوان الله " أي ما أمرناهم إلا بما يرضي الله ، قاله ابن مسلم . وقال الزجاج : " ما كتبناها عليهم " معناه لم نكتب عليهم شيئا البتة . ويكون " ابتغاء رضوان الله " بدلا من الهاء والألف في " كتبناها " والمعنى : ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله . وقيل : " إلا ابتغاء " الاستثناء منقطع ، والتقدير ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله . " فما رعوها حق رعايتها " أي فما قاموا بها حق القيام . وهذا خصوص ؛ لأن الذين لم يرعوها بعض القوم ، وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم ، كما قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله{[14733]} " [ التوبة : 34 ] وهذا في قوم أداهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الأمر . وروى سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : " ورهبانية ابتدعوها " قال : كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعون إلى دين الله تعالى ، فقال أناس لملكهم : لو قتلت هذه الطائفة . فقال المؤمنون : نحن نكفيكم أنفسنا . فطائفة قالت : ابنوا لنا أسطوانة ارفعونا فيها ، وأعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم . وقالت طائفة : دعونا نهيم في الأرض ونسيح ، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية ، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا . وطائفة قالت : ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحفر الآبار ونحرث البقول فلا تروننا . وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منهم ففعلوا ، فمضى أولئك على منهاج عيسى ، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فقالوا : نسيح ونتعبد كما تعبد أولئك ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله تعالى : " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله " الآية . يقول : ابتدعها هؤلاء الصالحون " فما رعوها " المتأخرون " حق رعايتها " " فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم " يعني الذين ابتدعوها أولا ورعوها " وكثير منهم فاسقون " يعني المتأخرين ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل ، جاؤوا من الكهوف والصوامع والغيران فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .

الثالثة- وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة ، فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه ، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية . وعن أبي أمامة الباهلي - واسمه صدي بن عجلان - قال : أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم ، إنما كتب عليكم الصيام ، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه ، فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ، فعابهم الله بتركها فقال : " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " .

الرابعة- وفي الآية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت ، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان وتغير الأصدقاء والإخوان . وقد مضى بيان هذا في سورة " الكهف{[14734]} " مستوفى والحمد لله . وفي مسند أحمد بن حنبل من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه فقال : مر رجل بغار فيه شيء من ماء ، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار ، فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا . قال : لو أني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت إلا لم أفعل ، فأتاه فقال : يا نبي الله ! إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل ، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا . قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف الأول خير من صلاته ستين سنة ) . وروى الكوفيون عن ابن مسعود ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هل تدري أي الناس أعلم ) قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على استه هل تدري من أين اتخذ بنو إسرائيل الرهبانية ؟ ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا إن أفنونا فلم يبق للدين أحد يدعون إليه فتعالوا نفترق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الأمي الذي وعدنا عيسى - يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر - وتلا " ورهبانية " الآية - أتدري ما رهبانية أمتي ؟ الهجرة والجهاد والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم من اليهود على إحدى وسبعين فرقة فنجا منهم فرقة وهلك سائرها واختلف من كان من قبلكم من النصارى على اثنين وسبعين فرقة فنجا منهم ثلاثة وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى - عليه السلام - حتى قتلوا وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك - ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهي التي قال الله تعالى فيهم : " ورهبانية ابتدعوها " - الآية - فمن آمن بي واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون ) يعني الذي تهودوا وتنصروا . وقيل : هؤلاء الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا به فأولئك هم الفاسقون . وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي إن الأولين أصروا على الكفر أيضا فلا تعجب من أهل عصرك إن أصروا على الكفر . والله أعلم .


[14732]:راجع جـ 4 ص 5.
[14733]:راجع جـ 8 ص 122.
[14734]:راجع جـ 10 ص 360.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

ولما كان من مقاصد هذه السورة العظمى الإعلام بنسخ الشرائع كلها بشريعة هذا النبي الفاتح العام الرسالة لجميع الخلائق صلى الله عليه وسلم ، قال مشيراً إلى عظمة الإرسال والرسل بأداة التراخي : { ثم قفينا } أي بما لنا من العظمة تقفية لها من العظمة ما يجل وصفه { على آثارهم } أي الأبوين المذكورين ومن مضى قبلهما من الرسل ، ولا يعود الضمير على { الذرية } لأنها باقية مع الرسل وبعدهم { برسلنا } أي فأرسلناهم واحداً في أثر واحد بين ما لا يحصى من الخلق من الكفرة محروسين منهم في الأغلب بما تقتضيه العظمة ، لا ننشئ آثار الأول منهم حتى نرسل الذي بعده في قفاه ، فكل رسول بين يدي الذي بعده ، والذين بعده في قفاه{[62658]} - فهو مقف له{[62659]} لأن الأول ذاهب إلى الله والثاني تابع له ، فنبينا{[62660]} صلى الله عليه وسلم أعرق الناس في هذا الوصف لأنه لا نبي بعده ، ولهذا كان الوصف أحد أسمائه .

ولما كان عيسى عليه السلام أعظم من جاء بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل فهو الناسخ لشريعته والمؤيد به هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم في تجديد دينه وتقرير شريعته ، وكان الزهد{[62661]} والرأفة والرحمة في تابعيه في غاية الظهور مع أن ذلك لم يمنعهم من القسوة المنبهة سابقاً على أن الموجب لها طول الأمد الناشئ عنها الإعراض عن الآيات{[62662]} الحاضرة معه والكتاب الباقي بعده ، خصه بالذكر وأعاد العامل فقال : { وقفينا } أي أتبعنا بما لنا من العظمة على آثارهم قبل أن تدرس { بعيسى ابن مريم } وهو آخر من قبل النبي الخاتم عليهم الصلاة والسلام ، فأمته أول الأمم بالأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم { وآتيناه } بما لنا من العظمة { الإنجيل * } كتاباً ضابطاً لما جاء به مقيماً لملته مبيناً للقيامة مبشراً بالنبي العربي موضحاً لأمره مكثراً من ذكره { وجعلنا } لعزتنا { في قلوب الذين اتبعوه } أي بغاية جهدهم ، فكانوا على مناهجه{[62663]} { رأفة } أي أشد رقة على من كان يتسبب إلى الاتصال بهم { ورحمة } أي رقة وعطفاً من لم يكن له سبب في الصلة بهم كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أن قلوبهم في غاية الصلابة فهم أعزة على الكافرين ، وترتيب الوصفين هكذا أدل دليل على أنهما لم يقصد بهما مراعاة الفواصل في { رؤف رحيم } كما قاله{[62664]} بعض المفسرين وتقدم في آخر براءة أن{[62665]} ذلك قول لا يحل التصويب إليه ولا التعويل عليه وإن قاله من قال { ورهبانية } أي أموراً{[62666]} حاملة على الرهبية والتزيي بزيها والعمل على حسبها مبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس .

ولم قدم المعمول لفعل غير مذكور ليدل عليه بما يفسره ليكون مذكوراً مرتين تأكيداً له إفهاماً لذم نفس الابتداع ، أتبعه المفسر لعامله فقال : { ابتدعوها } أي حملوا أنفسهم على عملها والتطويق بها{[62667]} من غير أن يكون لهم فيها سلف يعلمونه أو يكون بما صرح به كتابه وإن كانت مقاصده لا تأباها{[62668]} فاعتزلوا لأجلها الناس ، وانقطعوا في الجبال على الاستئناس ، وكانت لهم بذلك{[62669]} أخبار شائعة في النواحي والأمصار ، وفي التقديم على العامل سر آخر وهو الصلاحية للعطف على ما قبلها لئلا يتوهم في لفظ الابتداع أن لا صنع لله فيها { ما كتبناها } أي فرضناها بعظمتنا{[62670]} { عليهم } في كتابهم ولا على{[62671]} لسان رسولهم { إلا } أي لكن{[62672]} ابتدعوها { ابتغاء } أي لأجل تكليفهم أنفسهم الوقوع بغاية الاجتهاد في تصفية القلوب وتهذيب النفوس وتزكية الأعمال على { رضوان الله } أي الرضا العظيم من الملك الأعظم ، وساق المنقطع مساق المتصل إشارة إلى أنه مما يرضي الله ، وأنه ما ترك فرضها عليهم إلا رحمة لهم لأجل صعوبتها ، وأنه صيرها بعد إلزامهم{[62673]} بها كالمكتوبة ، فيكون التقدير حينئذ : إلا لأجل أن يبتغوا رضوانه على وجه الثبات والدوام ، قال{[62674]} الإمام أبو القاسم عبد الرحمن{[62675]} بن عبد{[62676]} الله بن عبد الحكم المصري في كتابه " فتوح مصر والمغرب " {[62677]} : فلما أن أغرق الله عز وجل فرعون وجنوده كما حدثنا هانئ بن المتوكل عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن تبيع قال : استأذن الذين كانوا آمنوا من السحرة لموسى عليه السلام في{[62678]} الرجوع إلى أهلهم{[62679]} ومالهم بمصر فأذن لهم ودعا لهم فترهبوا مع رؤوس الجبال ، فكانوا أول من ترهب ، وكان يقال لهم الشيعة ، وبقيت{[62680]} طائفة منهم مع موسى عليه السلام حتى توفاه الله عز وجل ، ثم انقطعت الرهبانية بعدهم حتى ابتدعها بعد ذلك أصحاب المسيح عليه السلام .

ولما تسبب عن صعوبتها أنهم أضاعوها بالتقصير عن شؤونها والسفول عن عليائها قال : { فما رعوها } أي حفظوها كلهم بحفظ من هو مرتاع من خوف ضياعها { حق رعايتها } بصون العناية في رعاية الأعمال والأحوال والأقوال ، فصون الأعمال توفيرها لتحقيرها من غير التفات إليها ، ورعاية الأحوال عند الاجتهاد من أتاه والحال دعوى ، ورعاية الوقت الوقوف مع حضور على بساط شهود الجلال - ذكره الرازي . بل غلبت عليهم صفات البشر فقصر بعضهم عن عالي مداها ، وانحطوا عن شامخ ذراها ، هذا تنفير عظيم عن البدع ، وحث شديد على لزوم ما سنه الله وشرع ، وتحذير{[62681]} من التشديد ، فإنه لن يشادّ{[62682]} الدين أحد إلا غلبه وهو الترحال إلى البدعة ولهذا أكثر في أهل الرهبانية المروق من الدين بالاتحاد والحلول وغير ذلك من البلايا ولو كان يظهر أن {[62683]}التشديد والتعمق{[62684]} خير لأن الشارع الذي أحاط علماً بما لم يحط به نهى عنه ، وقد أفادت التجربة أنه قد يغر لأن هؤلاء ابتدعوا ما أرادوا الخير ، فكان داعياً لكثير منهم إلى دار البوار ، وفيه أيضاً حث عظيم على المداومة على ما اعتيد من الأعمال الصالحة خصوصاً ، ما عمل النبي صلى الله عليه وسلم {[62685]}عملاً إلا{[62686]} دوام عليه ، وكان ينهى عن التعمق في الدين ، ويأمر بالرفق{[62687]} والقصد .

ولما كانت متابعة النفس في التقصير بالإفراط أو{[62688]} التفريط قد توصل إلى المروق{[62689]} من الدين فيوجب{[62690]} الكفر فيحط على الهلاك كله ، أشار إلى ذلك بقوله : { فآتينا } أي بما لنا من صفات الكمال { الذين آمنوا } أي استمروا على الإيمان الكامل ، ولعل في التعبير بالماضي بعد إرادة التعميم للأدنى والأعلى إشارة إلى أن المتعمق بين إيمان وكفر لا تجرد معصيته كما أشار إليه ختم الآية فهو في غاية الذم للتعمق{[62691]} والمدح للاقتصاد{[62692]} { منهم } أي من هؤلاء المبتدعين لأنهم رعوها حق رعايتها ووصلوا إيمانهم بعيسى ومن قبله عليهم الصلاة والسلام بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي دعا إليه الخروج عن النفس الذي هو روح الرهبانية{[62693]} بموافقتهم لما في كتابهم من البشائر به { أجرهم } أي اللائق بهم وهو الرضوان المضاعف{[62694]} .

ولما كانت متابعة الأهواء تكسب صفات ذميمة تصير ملكات راسخة للأنفس ، أشار إلى ذلك بالعدول عن النهج الأول فقال : { وكثير منهم } أي هؤلاء الذين ابتدعوا فضيعوا { فاسقون * } أي عريقون في وصف الخروج عن الحدود التي حدها الله تعالى ، روى البغوي{[62695]} من طريق الثعلبي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من آمن بي فقد رعاها حق رعايتها{[62696]} ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون " انتهى . ومثل هذه الرهبانية في أنها لا تأباها قواعد الدين ما يفهمه بعض العلماء من الكتاب والسنة فيتذكره ، فيكون أخذنا له من الأصول التي نبه عليها لا منه ، كما أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا{[62697]} يفعلون أشياء فإن قررهم النبي صلى الله عليه وسلم كانت شرعاً لنا وكنا آخذين لها من تفسيره صلى الله عليه وسلم لا منهم ، فإن من ملكه الله رتبة الاجتهاد في شيء وأمكنه فيه من القواعد فأداه اجتهاده إلى{[62698]} أن هذا مندوب إليه مرغوب فيه مثلاً ، كان ذلك بما يشهد له من قواعد الدين بمنزلة ما قاله الصحابة رضي الله عنهم فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فرق بين أن يقرره النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أو بقواعد شريعته{[62699]} ، ومهما كان مقرراً بقواعد شرعه كان عليه أمره ، ومهما لم يكن مقرراً بها كان مما{[62700]} ليس عليه أمره فهو رد على قائله ، فهذا فرق بين البدع الحسنة والبدع القبيحة - والله الموفق ، وذكر ابن برجان تنزيل هذا الحديث الذي فيه " لتتبعن سنن من كان قبلكم " فذكر أن أصحاب عيسى عليه السلام عملوا بعده بالإنجيل حتى قام فيهم ملك بدل كتابهم ، وشايعه على ذلك روم ويونان ، فضعف أهل الإيمان ، فاستذلوهم حتى هربوا إلى البراري ، وعملوا الصوامع وابتدعوا الرهبانية ، {[62701]}وكذلك كان في هذه لتصديق الحديث الشريف فإنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه خلفاؤه بإحسان ، فلما مضت الخلافة الراشدة تراكمت الفتن كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد البلاء على المتمسكين بصريح الإيمان ، ورجم البيت العتيق بحجارة المنجنيق وهدم ، وقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما واستبيحت مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ، وقتل {[62702]}خيار من فيها{[62703]} فرأى المسلمون العزلة واجبة ، فلزموا الزوايا{[62704]} والمساجد وابتنوا الروابط على سواحل البحر وأخذوا في الجهاد للعدو والنفوس ، وعالجوا تصفية أخلاقهم ولزموا الفقر أخذاً من أحوال أهل الصفة ، وتسموا بالصوفية وتكلموا على الورع {[62705]}والصدق{[62706]} والمنازل و{[62707]}الأحوال والمقامات{[62708]} فهؤلاء وزان أولئك - والله الموفق .

ذكر ما في الإنجيل من الحكم التي توجب الزهد في الدنيا والإقبال على الله التي يصح تمسك أهل هذه الرهبانية بها : قال متى{[62709]} وغيره وأغلب السياق لمتى : إن أخطأ عليك أخوك فاذهب أعتبه وحدكما ، فإن سمع منك فقد ربحت أخاك ، وإن لم يسمع منك فخذ معك{[62710]} واحداً أو اثنين ، لأن من فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة ، وإن لم يسمع منهم فقل للبيعة ، فإن لم يسمع من البيعة فيكون عندك كالوثني والعشار ، الحق أقول لكم ، وقال لوقا{[62711]} : انظروا الآن{[62712]} إن أخطأ إليك أخوك فانهه ، فإن تاب فاغفر له ، فإن أخطأ{[62713]} إليك سبع دفعات{[62714]} في اليوم ورجع إليك سبع دفعات يقول لك : أنا تائب ، فاغفر له ، وقال متى{[62715]} : حينئذ جاء إليه بطرس وقال له : إذا أخطأ إليّ أخي لم أغفر له سبع مرات ، قال : ليس أقول لك إلى سبع مرات ، بل إلى سبعين مرة ، ولهذا يشبه ملكوت السماوات ملكاً أراد أن يحاسب عبيده ، فلما بدأ بمحاسبتهم قدم إليه عبد مديون عليه جملة وزنات ، ولم يكن معه ما يوفي ، فأمر سيده أن تباع امرأته وبنوه وكل ما له حتى يوفي ، فخر ذلك العبد له{[62716]} ساجداً قائلاً : يا رب ، ترأف عليّ تأن ، أوفك كل مالك ، فتحنن عليه سيده وترك له كل ما عليه ، فخرج ذلك العبد فوجد{[62717]} عبداً من أصدقائه عليه مائة دينار فأمسكه وخنقه وقال : أعطني ما عليك ، فخر ذلك العبد على رجليه وطلب إليه{[62718]} قائلاً : ترأف عليّ فأنا أعطيك مالك ، فأبى ومضى ورتكه في السجن حتى يوفي الدين ، فرأى العبد أصحابه فحزنوا عليه جداً{[62719]} وأعلموا سيده بكل ما كان منه ، حينئذ دعاه سيده وقال له : أيها العبد الشرير ! كل ما كان عليك تركت بذلك لأنك سألتني ، ما كان ينبغي لك أن ترحم ذلك العبد صاحبك كرحمتي إياك ، وغضب سيده ودفعه إلى المعذبين حتى يوفي جميع ما عليه ، هكذا أبي السماوي يصنع بكم إن لم تغفروا لإخوانكم سيئاتهم من كل قلوبكم ، فلما أكمل يسوع هذا الكلام انتقل من الجليل وجاء إلى تخوم يهود عبر الأردن فتبعه جمع كثير فأبرأهم{[62720]} هناك ، قال لوقا{[62721]} : فلما أكمل أيام صعوده أقبل بوجهه إلى يروشليم ، وأرسل مخبرين قدام وجهه فمضوا ودخلوا قرية السامرة ، لكيما يعدوا له فلم يقبلوه فقال تلميذاه{[62722]} يعقوب {[62723]}ويوحنا{[62724]} : يا رب تريد أن نقول فتنزل عليهم نار{[62725]} من السماء فتهلكهم كما فعل إليا ، فالتفت فنهرهما قائلاً : لستما تعرفان أي روح أنتما ، إن ابن البشر لم يأت ليهلك نفوس الناس بل يحيي ، ومضى إلى قرية أخرى ، وقال متى{[62726]} : حينئذ قدم إليه صبيان ليضع يده عليهم ويباركهم فنهرهم التلاميذ فقال{[62727]} لهم يسوع : دعوا الصبيان ولا تمنعوهم أن يأتوا إليّ{[62728]} لأن ملكوت السماوات لمثل هؤلاء ، ووضع يده عليهم وبارك لهم ، وقال مرقس{[62729]} : الحق أقول لكم ، إن من لا يقبل ملكوت الله مثل صبي لا يدخلها ، واحتضنهم ووضع يده عليهم وباركهم ، وقال متى{[62730]} : ومضى من هناك وجاء إليه واحد وقال : يا معلم صالح - وقال مرقس{[62731]} : أيها الملعم الصالح - ما أعمل من الصلاح لأرث الحياة الدائمة ، قال له : لماذا تقول : صالح ، ولا صالح إلا الله الواحد ، إن كنت{[62732]} تريد أن تدخل الحياة احفظ الوصايا ، قال{[62733]} له : وما هي ؟ قال يسوع : لا تقتل ولا تسرق ولا تزن ولا تشهد الزور ، وقال مرقس : لا تجر ، أكرم أباك وأمك - حب قريبك مثلك ، قال له الشاب : كل هذا قد حفظته{[62734]} من صغرى ، قال له يسوع : إن كنت تريد أن تكون كاملاً فاذهب ، وقال مرقس : فنظر إليه يسوع وأحبه ، وقال : تريد أن تكون كاملاً{[62735]} ، واحدة بقيت عليك : امض وبع كل شيء لك وأعطه للمساكين ليكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني ، فلما سمع الشاب الكلام مضى حزيناً لأنه كان له مال كثير ، فقال يسوع لتلامذته : الحق أقول لكم{[62736]} ! إنه يعسر على الغني الدخول إلى ملكوت السماء ، وأيضاً أقول لكم : إنه أسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من غني يدخل ملكوت السماوات ، فلما سمع التلاميذ بهتوا جداً وقالوا : من يقدر أن يخلص ، فنظر يسوع وقال لهم : أما عند الناس فلا يستطاع هذا ، وأما عند الله فكل يستطاع ، حينئذ أجاب بطرس وقال له : هو ذا نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك ، فماذا عسى أن يكون لنا ، قال لهم يسوع : الحق والحق أقول لكم{[62737]} ! أنتم الذين اتبعتموني في {[62738]}الجبل الآتي{[62739]} إذا جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم على اثني عشر كرسياً ، تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل ، كل من ترك بنين أو أخاً أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو بيتاً أو حقلاً من{[62740]} أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ويرث حياة الأبد ، وقال لوقا{[62741]} : ما من أحد ترك منزلاً أو والدين أو إخوة أو امرأة أو مالاً من أجل ملكوت الله إلا وينال العوض أضعافاً كثيرة في هذا الزمان وفي الدهر الآتي حياة الأبد ، وقال{[62742]} متى{[62743]} وغيره : كثيراً أولون يصيرون آخرين : وأخرون يصيرون أولين ، يشبه ملكوت السماوات إنساناً رب بيت خرج الغداة ليستأجر فعله لكرمه ، فشارك الأكرة{[62744]} على دينار واحد في اليوم - إلى آخر ما مضى في الأعراف من البشارة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم في مثل الفعلة في الكرم الذي فضل آخرهم وهو العامل قليلاً على من عمل أكثر النهار وقد ساقه ابن برجان في آخر تفسير سورة الحديد عن الإنجيل بعبارة أخرى تفسيراً كثيراً{[62745]} من عبارة النسخة التي نقلت ذاك منها ، فأحببت أن أذكر عبارة ابن برجان هنا تكميلاً للفائدة ، قال : وفي الكتاب الذي يذكر{[62746]} أنه الإنجيل : وكثيراً يتقدم الآخرون الأولين ويكون الأولون{[62747]} ساقة الآخرين : ولذلك يشبه ملكوت السماوات برجل ملي خرج في استئجار الأعوان لحفر كرم في أول النهار ، وعامل كل واحد في نهاره على درهم ثم أدخلهم كرمه ، فلما كان في الساعة الثالثة بصر لغيرهم في الرحاب لا شغل لهم فقال : اذهبوا أنتم أيضاً{[62748]} إلى الكرم وسآمر لكم بحقوقكم ، ففعلوا ، ثم فعل مثل ذلك في الساعة السادسة والتاسعة{[62749]} ، فلما كان في{[62750]} الساعة الإحدى عشرة{[62751]} وجد غيرهم وقوفاً{[62752]} فقال لهم : لم وقفتم هنا طول نهاركم دون عمل ؟ فقالوا له : إنا لم يستأجرنا أحد ، فقال لهم : اذهبوا أنتم سآمر لكم بحقوقكم ، فلما انقضى النهار قال لوكيله : ادع الأعوان وأعطهم أجرتهم وابدأ بالآخرين حتى تنتهي إلى الأولين ، فبدأ بالذين دخلوا في الساعة الإحدى عشرة وأعطى كل واحد منهم{[62753]} درهماً ، قأقبل الأولون وهم الذين يرجون الزيادة ، فأعطى كل واحدٍ منهم درهماً{[62754]} ، فاستذكروا ذلك على صاحب الكرم{[62755]} وقالوا : سويتنا بالذين لم يعملوا إلا ساعة من النهار في شخوصنا طول نهارنا وعذابنا بحرارته ، فأجاب أحدهم وقال : لست أظلمك يا صديق ، أما عاملتني على درهم فخذ حقك وانطلق فإنه يوافقني أن أعطي{[62756]} الآخر كما أعطيتك ، أفلا يحل لي{[62757]} ذلك ؟ وإن كنت حسوداً فإني أنا رحيم ، ومن أجل ذلك يتقدم الآخرون الأولين ، ويكون الأولون ساقة الآخرين فالمدعوون كثير ، والخيرون قليل ، وذكر ابن برجان أن الساعة السادسة لعيسى عليه السلام وأصحابه في أول الأمر والتاسعة{[62758]} لمحمد صلى الله عليه وسلم والحادية عشرة لآخر{[62759]} الزمان - كأنه يعني ما بعد الدجال من أيام محمد صلى الله عليه وسلم التي يكون فيها عيسى عليه السلام مجدداً ، ولهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح شيئاً واحداً من العصر إلى غروب الشمس ، ثم قال متى{[62760]} في بقية ما مضى من الإنجيل في النسخة التي نقلت منها عقب ما تقدم أنه في الأعراف : فصعد يسوع إلى يروشليم وأخذ الاثني عشر ، حينئذ{[62761]} جاءت إليه أم ابني زبدي - هما يعقوب ويوحنا - مع ابنيها{[62762]} وسجدت له ، فقال لها : ماذا تريدين ؟ قالت : أن يجلس ابناي{[62763]} أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك في ملكوتك ، أجاب يسوع : أما جلوسهما عن يميني ويساري فليس لي بل للذي أعده لهم ربي ، فلما سمع العشرة تقمقموا على الآخرين - وقال مرقس{[62764]} : على يعقوب ويوحنا - فدعاهم يسوع وقال لهم : أما علمتم أن{[62765]} رؤساء الأمم يسودونهم وعظماءهم مسلطون{[62766]} عليهم ، ليس هكذا يكون فيكم ، لكن من أراد أن يكون {[62767]}فيكم كبيراً{[62768]} فيكون لكم خادماً ، ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فيكون لكم عبداً ، وقال مرقس : فيكون آخر للكل وخادماً للجميع ، كذلك ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم{[62769]} ، ويبذل نفسه فداء عن كثير ، فلما خرج من أريحا تبعه جمع كثير وإذا أعميان جالسان على الطريق فسمعا أن يسوع مجتاز فصرخا{[62770]} قائلين : ارحمنا يا رب يا ابن داود ، فوقف يسوع ودعاهما وقال لهما : ما تريدان أن أفعل لكما ، قالا له : يا رب ، أن تفتح أعيننا ، فتحنن يسوع ولمس أعينهما وللوقت أبصرت أعينهما وتبعاه ، وعبارة مرقس عن ذلك{[62771]} : وجاء إلى أريحا وخرج من هناك وتبعه تلاميذه وجمع كثير وإذا طيماس بن طيماس الأعمى جالس يسأل عن الطريق - وقال لوقا : يتوسل - فسمع الجمع المجتاز فسأل : ما هذا ، فأخبروه أن يسوع الناصري جاء ، و{[62772]}قال{[62773]} مرقس : فلما سمع بأن يسوع مقبل بدأ يصيح ويقول : يا يسوع الناصري ابن داود ارحمني ، فانتهروه ليسكت ، فازداد صياحاً قائلاً : يا رب يا ابن داود ، ارحمني ، فوقف يسوع وقال : ادعوه ، فدعي الأعمى{[62774]} وقالوا له : ثق وقم فإنه يدعوك ، وطرح ثوبه ونهض وجاء إلى يسوع {[62775]}فأجابه يسوع{[62776]} وقال له : ما تريد أن أصنع بك ؟ فقال له الأعمى : يا معلم ، وقال لوقا : يا رب - أن أبصر ، فقال له يسوع : اذهب إيمانك خلصك ، وللوقت أبصر ، وتبعه في الطريق - قال لوقا : يمجد الله - وكان جميع الشعب الذين رأوه يسبحون الله .

وقال أيضاً : وكان بينما{[62777]} هو منطلق إلى يروشليم اجتاز بين السامرة والجليل ، وفيما هو داخل إلى إحدى القرى استقبله عشرة رجال برص{[62778]} فوقفوا من بعيد ورفعوا أصواتهم قائلين : يا يسوع الملعم ارحمنا ! فنظر إليهم وقال لهم : اذهبوا {[62779]}وأروا أنفسكم{[62780]} للكهنة ، وفيما هم منطلقون طهروا ، فلما رأى أحدهم أنه قد طهر رجع{[62781]} بصوت عظيم يمجد{[62782]} الله وخر على وجهه عند رجليه شاكراً له ، وكان{[62783]} سامرياً ، أجاب يسوع وقال : أليس العشرة قد طهروا فأين التسعة ، ألم يجدوا {[62784]}ليرجعوا ويمجدوا الله{[62785]} ما خلا هذا الغريب ، ثم قال له : قم فامض ، إيمانكم خلصك .

قال متى : ولما قربوا من يروشليم وجاؤوا إلى بيت فاجي عند جبل الزيتون - وقال مرقس{[62786]} : عند باب فاجي وبيت عنيا جانب طور الزيتون - قال متى{[62787]} : حينئذ أرسل يسوع اثنين من تلاميذه : وقال لهما : اذهبا إلى القرية التي أمامكما{[62788]} فتجدان أتانه مربوطة وجحشاً معها{[62789]} فحلاهما وائتياني بهما ! فإن قال لكما أحد شيئاً فقولا له : إن الرب محتاج إليهما ! فهو يرسلهما للوقت ، كان هذا ليتم{[62790]} ما قيل في النبي القائل قولوا لابنة صهيون{[62791]} هوذا ملكك يأتيك متواضعاً راكباً على أتانه وجحش ابن أتانة ، فذهب التلميذان وصنعا كما أمرهما يسوع ، فأتيا بالأتانة والجحش{[62792]} وتركوا ثيابهم عليهما ، وجلس معهما ، وجمع كثير فرشوا ثيابهم في الطريق وآخرون قطعوا أغصاناً من الشجر وفرشوها في الطريق{[62793]} ، وعبارة مرقس{[62794]} عن ذلك : تجد أن جحشاً مربوطاً لم يركبه أحد من الناس قط ، فحلاه وائتيا به ، فإن قال لكما أحد{[62795]} : ما تفعلان بهذا ؟ فقولا : إن الرب محتاج إليه فمن ساعة يرسله ، {[62796]}فذهبا ووجدا{[62797]} الجحش{[62798]} مربوطاً عند الباب خارجاً على{[62799]} الطريق فحلاه فقال لهما قوم من القيام هناك : ما تصنعان ؟ فقالا لهم كما قال يسوع فتركوهما ، وجاءا بالجحش إلى يسوع {[62800]}فألقوا عليهم ثيابهم وجلس عليه{[62801]} وكثير بسطوا ثيابهم في الطريق وآخرون قطعوا{[62802]} أغصاناً من الحقل وفرشوها في الطريق .

قال متى{[62803]} : والجمع الذي تقدمه والذي تبعوا صرخوا قائلين : أوصنا يا ابن داود{[62804]} مبارك الآتي باسم الرب ، قال مرقس : ومباركة المملكة الآتية باسم الرب لأبينا داود أوصنا في العلاء ، وقال لوقا : وكان لما قرب من منحدر{[62805]} جبل الزيتون بدأ جمع الملأ والتلاميذ يفرحون و{[62806]} يسبحون الله ويمجدونه {[62807]}بجميع الأصوات{[62808]} من أجل جميع القوات التي نظروا قائلين : تبارك الملك الآتي باسم الرب والسلامة في السماء والمجد في{[62809]} العلا ، وقوم من الفريسيين من بين الجمع قالوا له : يا معلم انتهر تلاميذك ، فقال لهم : إن سكت التلاميذ{[62810]} نطقت الحجارة ، فلما قرب نظر المدينة وبكى عليها وقال : لو علمت في هذا اليوم ما لك فيه من السلامة ، فأما الآن فإنه قد خفي عن عينيك ، وسوف تأتي أيام تلقى أعداؤك معلمك{[62811]} ويحيطون بك{[62812]} ويضيقون عليك من كل موضع ويقتلونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً ، وقال متى{[62813]} : فلما دخل إلى يروشليم ارتجت المدينة كلها قائلين : من هذا{[62814]} ؟ فقال{[62815]} الجمع : هذا يسوع النبي الذي هو من ناصرة الجليل ، فدخل يسوع إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين{[62816]} يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارف وكراسي باعة الحمام وقال لهم : مكتوب أن بيتي بيت الصلاة يدعى ، وأنتم جعلتموه مغارة للصوص . وقال يوحنا{[62817]} : فصعد يسوع إلي يروشليم فوجد في الهيكل باعة{[62818]} البقرة والكباش والحمام وصيارف جلوساً ، فصنع{[62819]} محضرة{[62820]} من حبل وأخرج جميعهم من الهيكل فطرد{[62821]} البقر والخراف وبدد دراهم الصيارف وقلب موائدهم ، و{[62822]}قال متى{[62823]} : وقدم إليه{[62824]} عميان وعرج في الهيكل فشفاهم ، فرأى رؤساء الكهنة العجائب التي صنع{[62825]} والصبيان يصيحون في الهيكل ويقولون : أوصنا يا ابن داود ، مبارك الآتي باسم الرب ، فتقمقموا وقالوا : ما تسمع ما يقول هؤلاء ، فقال لهم يسوع : نعم ، أما قرأتم قط أن من فم الأطفال والمرضعين أعددت سبحاً ، وتركهم وخرج خارج المدينة وبات هناك في بيت عنيا وفي غد عبر إلى المدينة فجاع{[62826]} ونظر إلى شجرة تين على الطريق فجاء إليها فلم يجد فيها شيئاً إلا الورق ، فقال لها{[62827]} : لا يخرج منك ثمرة إلى الأبد ، فيبست تلك الشجرة للوقت{[62828]} ، فنظر التلاميذ وتعجبوا وقالوا : كيف يبست التينة للوقت ، أجاب يسوع وقال لهم : الحق أقول لكم ! إن كان لكم إيمان {[62829]}ولا تشكون ليس مثل{[62830]} هذه الشجرة التين فقط{[62831]} تصنعون ولكن تقولون لهذا الجبل : تعال واسقط في البحر ، فيكون ، وقال مرقس{[62832]} : إن كان لكم إيمان بالله ، الحق أقول لكم : إن من قال لهذا الجبل : انتقل واسقط في هذا البحر ، ولا يشك في قلبه بل يصدق{[62833]} فيكون له الذي قال ، من أجل{[62834]} هذا أقول لكم : إن كل ما تسألونه في الصلاة بإيمان أنكم تنالونه فيكون لكم ، وقال متى{[62835]} : وكل ما تسألونه في الصلاة بإيمان تنالونه ، وقال مرقس{[62836]} : فقال له يوحنا ، يا معلم ! رأينا واحداً يخرج الشياطين باسمك فمنعناه لأنه لم يتبعنا ، قال لهم يسوع : لا تمنعوه ليس يصنع أحد قوة باسمي ، ويقدر سريعاً أن يقول{[62837]} على الشر ، كل من ليس هو{[62838]} {[62839]}عليكم فهو معكم{[62840]} ومن سقاكم كأس ماء باسم أبيكم المسيح الحق{[62841]} أقول لكم : إن أجره لا يضيع .

وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا إطلاق الأب على الله وإطلاق{[62842]} الرب على غيره بلا قيد{[62843]} ، وقد تقدم التنبيه على مثل ذلك غير مرة - والله الهادي للصواب .


[62658]:- زيد من ظ.
[62659]:- من ظ، وفي الأصل: لها.
[62660]:- من ظ، وفي الأصل: ولبيينا.
[62661]:-زيد في ظ: به.
[62662]:- من ظ، وفي الأصل: اتبعناه.
[62663]:- من ظ، وفي الأصل: منها.
[62664]:- من ظ، وفي الأصل: قال.
[62665]:- زيد في الأصل وظ: في.
[62666]:- من ظ، وفي الأصل: أمور.
[62667]:- من ظ، وفي الأصل: إليها.
[62668]:- من ظ، وفي الأصل: لا تناها.
[62669]:- زيد من ظ.
[62670]:- زيد من ظ.
[62671]:- من ظ، وفي الأصل: الزامهم.
[62672]:- زيد في الأصل: الأصبهاني و، ولم تكن الزيادة في ظ فحذفناها.
[62673]:- زيد من ظ.
[62674]:- من ظ، وفي الأصل: عبد الله.
[62675]:- راجع ص: 44.
[62676]:- من ظ والفتوح، وفي الأصل: من.
[62677]:- زيد من ظ.
[62678]:راجع ص : 44.
[62679]:-زيد في الأصل الرجوع، ولم تكن الزيادة في ظ والفتوح فحذفناها.
[62680]:- في ظ: بقى.
[62681]:- في ظ: تحذيرا.
[62682]:- من ظ، وفي الأصل: أحد الدين.
[62683]:- من ظ، وفي الأصل: التشديد والتعميق.
[62684]:- من ظ، وفي الأصل: التشديد والتعميق.
[62685]:- من ظ، وفي الأصل: من عمل.
[62686]:- من ظ، وفي الأصل: من عمل.
[62687]:- من ظ، وفي الأصل: بالروى.
[62688]:- من ظ، وفي الأصل: "و".
[62689]:- من ظ، وفي الأصل: المعروف.
[62690]:- من ظ، وفي الأصل: توجب.
[62691]:- من ظ، وفي الأصل: للتعميق.
[62692]:- من ظ، وفي الأصل: للاقتصار.
[62693]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[62694]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[62695]:- راجع معالم التنزيل بهامش اللباب 7/ 33.
[62696]:- زيد من ظ والمعالم.
[62697]:- زيد من ظ.
[62698]:- من ظ، وفي الأصل: على.
[62699]:- في ظ: شرعية.
[62700]:- من ظ، وفي الأصل: بما.
[62701]:- من ظ، وفي الأصل: كان كذلك.
[62702]:- في ظ: فيها خيار المسلمين.
[62703]:- في ظ: فيها خيار المسلمين.
[62704]:- من ظ، وفي الأصل: الزوايا.
[62705]:- من ظن وفي الأصل: بالصدق.
[62706]:- من ظ، وفي الأصل: بالصدق.
[62707]:- من ظ، وفي الأصل: المقامات وأحوال.
[62708]:- من ظ، وفي الأصل: المقامات وأحوال.
[62709]:- راجع آية 15 فما بعدها من الأصحاح 18.
[62710]:- زيد من ظ.
[62711]:- راجع آية 4 فما بعدها من الأصحاح 17.
[62712]:- زيد من ظ.
[62713]:- من ظ، وفي الأصل: اخطأت.
[62714]:- من ظ، وفي الأصل: مرات.
[62715]:- راجع آية 21 فما بعدها من الأصحاح 18.
[62716]:- زيد من ظ.
[62717]:- من ظ، وفي الأصل: فوجدا.
[62718]:- زيد من ظ.
[62719]:-زيد من ظ.
[62720]:- في ظ: فأبقاهم.
[62721]:- راجع آية 52 فما بعدها من الأصحاح.
[62722]:- من ظ، وفي الأصل: تلميذه.
[62723]:- من ظ، وفي الأصل: ريحنا- كذا.
[62724]:- من ظ، وفي الأصل: ريحنا- كذا.
[62725]:- في ظ: نارا.
[62726]:- راجع آية 13 فما بعدها من الأصحاح 19.
[62727]:- راجع آية 13 فما بعدها من الأصحاح 19.
[62728]:- من ظ، وفي الأصل: إليهم.
[62729]:- راجع آية 15 فما بعدها من الأصحاح 10.
[62730]:- راجع آية 16 فما بعدها من الأصحاح 19.
[62731]:- راجع آية 17 من الأصحاح 10.
[62732]:- تكرر ما بين الرقمين في الأصل.
[62733]:- من ظ، وفي الأصل: قيل.
[62734]:- من ظ، وفي الأصل: حقيقته.
[62735]:- زيد من ظ.
[62736]:- زيد من ظ.
[62737]:-زيد من ظ.
[62738]:- في إنجيل متى: التجديد.
[62739]:- في إنجيل متى: التجديد.
[62740]:- من ظ، وفي الأصل: ما.
[62741]:- راجع آية 29 فما بعدها من الأصحاح 18.
[62742]:- زيد من ظ.
[62743]:- راجع آية 30 فما بعدها من الأصحاح 19 وراجع آية 31 من الأصحاح 30 من مرقس.
[62744]:- في إنجيل متى: الفعله.
[62745]:- من ظ، وفي الأصل: كثير.
[62746]:- زيد من ظ.
[62747]:- زيد من إنجيل متى.
[62748]:-زيد من ظ.
[62749]:- زيد من إنجيل متى.
[62750]:- من ظ، وفي الأصل: إلى.
[62751]:- من ظ، وفي الأصل: وجدهم وتوفى.
[62752]:- من ظ، وفي الأصل: وجدهم وتوفى.
[62753]:- زيد من ظ.
[62754]:- في إنجيل متى: دينارا.
[62755]:- في ظ: الكرمة.
[62756]:- من ظ، وفي الأصل: اعط.
[62757]:- في ظ: لك.
[62758]:- من ظ، وفي الأصل: السادسة.
[62759]:- من ظ، وفي الأصل: في أول النهار.
[62760]:- راجع آية 17 فما بعدها من الأصحاح 20.
[62761]:- راجع آية 20 من الأصحاح 20.
[62762]:- من ظ، وفي الأصل ابنيهما.
[62763]:- من ظ، وفي الأصل: ابني.
[62764]:- راجع آية 42 من الأصحاح 10.
[62765]:- زيد من ظ.
[62766]:- من ظ، وفي الأصل: يسيون.
[62767]:- من ظ، وفي الأصل: كبير منكم.
[62768]:- من ظ، وفي الأصل: كبير منكم.
[62769]:- من ظ، وفي الأصل: ليستخدم.
[62770]:- من ظ، وفي الأصل: فصرخوا.
[62771]:- راجع آية 46 فما بعدها من الأصحاح 10.
[62772]:- زيد من ظ.
[62773]:- تكرر في الأصل.
[62774]:- زيد من ظ.
[62775]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[62776]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[62777]:- من ظ، وفي الأصل: بينهما.
[62778]:- من ظ، والأصحاح التاسع عشر –لوقا. وفي الأصل: مومن.
[62779]:- في الأصل فارووا نفوسكم- والتصحيح من ظ والأصحاح.
[62780]:- في الأصل فارووا نفوسكم- والتصحيح من ظ والأصحاح.
[62781]:- في الأصل: مجد.
[62782]:في الأصل مجد.
[62783]:- من الأصحاح، وفي الأصل وظ: قال.
[62784]:- من ظ، وفي الأصل: بصوت بعظيم لرجعوا وبمحمد.
[62785]:- من ظ، وفي الأصل: بصوت بعظيم لرجعوا وبمحمد.
[62786]:- زيد من ظ وراجع آية، فما بعدها من الأصحاح 11.
[62787]:-راجع آية 1 من الأصحاح 21.
[62788]:- من ظ والأصحاح، وفي الأصل: أمامهما.
[62789]:- من ظ والأصحاح 21، وفي الأصل: معها.
[62790]:- من ظ والأصحاح، وفي الأصل: اليتيم.
[62791]:- وقع في الأصل: أنه فعون-مصحفا.
[62792]:- من الأصحاح 21، وفي الأصل وظ: العفور، مصحفا، وهو اليعفور بمعنى الجحش.
[62793]:- زيد من ظ، ومثله في الإصحاح 21.
[62794]:- راجع آية 2 من الإصحاح 11.
[62795]:- زيد في الأصلك شيئا، ولم تكن الزيادة في ظ فحذفناها.
[62796]:- من ظ، وفي الأصل: فوجدوا.
[62797]:- من الاصحاح الحادي عشر، وفي الأصل و ظ: بالعفور.
[62798]:- من الأصحاح 21، وفي الأصل وظ: العفور، مصحفا، وهو اليعفور بمعنى الجحش.
[62799]:- من ظ، وفي الأصل: عن.
[62800]:- في الاصحاح: والقيا عليه ثيابهما.
[62801]:- في الاصحاح: والقيا عليه ثيابهما.
[62802]:- زيد من الاصحاح.
[62803]:- راجع آية 9 فما بعدها من الأصحاح 21.
[62804]:- سقط من ظ
[62805]:- من الاصحاح 19، وفي الأصل: مسجدو، وفي ظ: صخور.
[62806]:- زيد من ظ، ومثله في الاصحاح.
[62807]:- في ظ والاصحاح: بصوت عظيم.
[62808]:- في ظ والاصحاح: بصوت عظيم.
[62809]:- من ظ والاصحاح، وفي الأصل: و.
[62810]:- في الاصحاح: هؤلاء.
[62811]:- كذا من ظ، وفي الأصل: معالمك.
[62812]:- من ظ، وفي الأصل: به.
[62813]:- راجع آية 11 فما بعدها من الاصحاح 21.
[62814]:- من ظ، وفي الأصل: هودا.
[62815]:- من ظ، وفي الأصل: فاين.
[62816]:- من إنجيل متى، وفي الأصل وظ: الذي.
[62817]:- راجع آية 13 فما بعدها من الاصحاح 2.
[62818]:- في الأصل و ظ: فباعه.
[62819]:- من ظ، وفي الأصل: فجعل.
[62820]:- في إنجيل يوحنا: سوطا.
[62821]:- من ظ، وفي الأصل: فطردوا.
[62822]:- زيد من ظ.
[62823]:- راجع آية 14 فما بعدها من الاصحاح 21.
[62824]:- راجع آية 14 فما بعدها من الاصحاح 21.
[62825]:- من ظ، وفي الأصل: تصنع.
[62826]:- من ظ، وفي الأصل: فجاح.
[62827]:- من إنجيل متى، وفي الأصل وظ: لهم.
[62828]:- من ظ، وفي الأصل: إلى الوقت.
[62829]:- من ظ، وفي الأصل: لا تسلبون- عن كذا.
[62830]:- من ظ، وفي الأصل: لا تسلبون- عن كذا.
[62831]:- زيد من ظ.
[62832]:- راجع آية 22 فما بعدها من الأصحاح.
[62833]:- من ظ، وفي الأصل: يسل- كذا.
[62834]:- زيد من ظ.
[62835]:- راجع آية 2 من الاصحاح 21.
[62836]:راجع آية 38 فما بعدها من الاصحاح 9.
[62837]:- من ظ، وفي الأصل: يكون.
[62838]:- زيد من ظ.
[62839]:- في إنجيل مرقس: علينا فهو معنا.
[62840]:- في إنجيل مرقس: علينا فهو معنا.
[62841]:- زيد من ظ.
[62842]:- زيد من ظ.
[62843]:- زيد من ظ.
 
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي - تفسير الجلالين [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

{ ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون }

{ ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيس ابن وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةٌ ورحمة ورهبانية } هي رفض النساء واتخاذ الصوامع { ابتدعوها } من قبل أنفسهم { ما كتبناها عليهم } ما أمرناهم بها { إلا } لكن فعلوها { ابتغاء رضوان } مرضاة { الله فما رعوْها حق رعايتها } إذ تركها كثير منهم وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملكهم وبقي على دين عيسى كثير منهم فآمنوا بنبينا { فآتينا الذين آمنوا } به { منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون } .

 
التفسير الميسر لمجموعة من العلماء - التفسير الميسر [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 27 ) }

ثم أتبعنا على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم بالبينات ، وقفَّينا بعيسى بن مريم ، وآتيناه الإنجيل ، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه على دينه لينًا وشفقة ، فكانوا متوادِّين فيما بينهم ، وابتدعوا رهبانية بالغلوِّ في العبادة ما فرضناها عليهم ، بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم ، قَصْدُهم بذلك رضا الله ، فما قاموا بها حق القيام ، فآتينا الذين آمنوا منهم بالله ورسله أجرهم حسب إيمانهم ، وكثير منهم خارجون عن طاعة الله مكذبون بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا جزاء الابتداع في الدين .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

قوله : { ثم قفينا على آثارهم برسلنا } يعني ، ثم أتبعنا على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم من بعدهما ، كموسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم من المرسلين { وقفينا بعيسى ابن مريم } أي أتبعنا على آثارهم بعيسى ابن مريم ، فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه مريم { وآتيناه الإنجيل } وهو الكتاب الذي أنزله الله هداية لبني إسرائيل .

قوله : { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة } جعل الله في قلوب الذين آمنوا به واتبعوا ما جاءهم به وهم الحواريون ، رأفة وهي أشد الرحمة ، أو الرفق واللين . والرحمة ، الشفقة { ورهبانية ابتدعوها } رهبانية ، منصوب بفعل مقدر . وتقديره : ابتدعوا رهبانية ابتدعوها{[4468]} أي أحدثوها من قبل أنفسهم { ما كتبناها عليهم } أي ما افترضنا عليهم تلك الرهبانية { إلا ابتغاء رضوان الله } أي لكنهم أحدثوها من عند أنفسهم طلبا لمرضاة الله فالاستثناء منقطع . والرهبانية والترهب بمعنى التعبد . ومن مظاهرها الاختصاء واعتناق السلاسل ولبس المسوح وترك اللحم ونحو ذلك من وجوه التقشف وحرمان النفس{[4469]} .

قوله : { فما رعوها حق رعايتها } أي ما قاموا بها حق القيام . أو لم يرعوا الرهبانية التي ابتدعوها حق الرعاية . ولكنهم بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى فتنصروا وتهودوا ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا وتركوا الترهب .

قوله : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } أي أعطينا الذين آمنوا بالله ورسوله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ورعوها ، ثوابهم لصدق إيمانهم وابتغائهم رضوان الله . قوله : { وكثير منهم فاسقون } كثير منهم خارجون عن دين الله الحق وعن طاعته سبحانه{[4470]} .


[4468]:البيان لابن الأنباري جـ 2 ص 425.
[4469]:القاموس المحيط جـ 1 ص 79 ومختار الصحاح ص 59.
[4470]:تفسير الطبري جـ 27 ص 140 وفتح القدير جـ 5 ص 178.