ثم يشير إلى الحديث ولا يذكر موضوعه ولا تفصيله ، لأن موضوعه ليس هو المهم ، وليس هو العنصر الباقي فيه . إنما العنصر الباقي هو دلالته وآثاره :
( وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا ) . .
ومن النص نطلع على نموذج من تلك الفترة العجيبة في تاريخ البشرية . الفترة التي يعيش فيها الناس مع السماء . والسماء تتدخل في أمرهم علانية وتفصيلا . ونعلم أن الله قد أطلع نبيه على ما دار بين زوجيه بشأن ذلك الحديث الذي أسره إلى بعض أزواجه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] حين راجعها فيه اكتفى بالإشارة إلى جانب منه . ترفعا عن السرد الطويل ، وتجملا عن الإطالة في التفصيل ؛ وأنه أنبأها بمصدر علمه وهو المصدر الأصيل :
( فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض . فلما نبأها به قالت : من أنبأك هذا ? قال : نبأني العليم الخبير ) . .
والإشارة إلى العلم والخبرة هنا إشارة مؤثرة في حالة التآمر والمكايدات المحبوكة وراء الأستار ! ترد السائلة إلى هذه الحقيقة التي ربما نسيتها أو غفلت عنها ، وترد القلوب بصفة عامة إلى هذه الحقيقة كلما قرأت هذا القرآن .
بعض أزواجه : هي حفصة على المشهور .
أظهره : أطلعه وأعلمه قول حفصة لعائشة .
عرّف : أعلمها ببعض الحديث الذي أفشته .
3- { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } .
كانت حفصة رضي الله عنها في زيارة أبيها ، ولما جاءت مارية القبطية من عوالي المدينة ، خلا بها النبي صلى الله عليه وسلم في غرفة حفصة ، وانتظرت حفصة حتى خرجت مارية ، وتألمت من دخول مارية غرفتها ، فحرّم النبي صلى الله عليه وسلم مارية على نفسه ، وأخبر حفصة بذلك ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندها ، أخبرت عائشة بذلك ، ولم تستطع من شدة سرورها بتحريم مارية أن تكتم الخبر فأخبرت به عائشة ، وطلبت منها أن تكتم الأمر ، أو كان الأمر هو تحريم العسل .
وإذ قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة : إني حرّمت العسل على نفسي ، أو حرمت مارية على نفسي ، واكتمي هذا الخبر ، لكن حفصة أخبرت به عائشة ، وأعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بما حَدَثَ .
فلما عاتب النبي صلى الله عليه وسلم حفصة ، وأخبرها بما فعلت ، قالت له : من أين علمت بذلك ؟ فأفادها أن الذي أخبره بذلك هو الْعَلِيمُ . بسائر أحوال الناس ، الْخَبِيرُ . بكل شيء في الوجود .
وفي ذلك دعوة للناس جميعا إلى مراقبة الله تعالى ، ودعوة لزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ترك التآمر والمكايدات المحبوكة وراء الأستار ، والتفرُّع بالقلوب إلى مراقبة الله تعالى ، وذكره وشكره والالتجاء إليه .
{ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه } يعني حفصة { حديثا } تحريم الجارية وأمر الخلافة { فلما نبأت به } أخبرت به عائشة رضوان الله عليهما وعلى أبيهما { وأظهره الله عليه } أطلع نبيه عليه السلام على افشائها السر { عرف بعضه } أخبر حفصة ببعض ما قالت لعائشة { وأعرض عن بعض } فلم يعرفها اياه على وجه التكرم والاغضاء { فلما نبأها به } أخبر حفصة بما فعلت { قالت من أنبأك هذا } من أخبرك بما فعلت { قال نبأني العليم الخبير }
ولما كانت العادة فيمن رأى حبيبه قد ضاق صدره أن يسعى أولاً في شرح {[66354]}صدره وطيب نفسه{[66355]} ثم يزيده بسطاً بأن يقول للحاضرين : إن حبيبنا هذا الكريم علينا اتفق له كذا ، وقد كرهت هذا{[66356]} وضمنت زواله ، وكان تعالى قد طيب نفسه صلى الله عليه وسلم بأول السورة ، ثم{[66357]} أتبعه الأمر الآخر ، فكان التقدير : اذكروا هذا الذي ذكرته من حسن عشرة نبيكم صلى الله عليه وسلم لنسائه رضي الله تعالى عنهن {[66358]}وكريم صحبته وشريف{[66359]} أخلاقه وجميل{[66360]} أفضاله وجليل حلمه واذكروا ما خفف الله به عنكم في الأيمان التي لا مثنوية فيها واذكروا فيها{[66361]} اسمه المقدس ، عطف عليه قوله تعالى تشريفاً لنبيه صلى الله عليه وسلم بالمعاتبة عليه{[66362]} وبإظهار ما هو حامل له من ثقل هذا السر على أجمل وجه تخفيفاً عنه وترويحاً له : { وإذ } أي و{[66363]}اذكروا كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم وطاهر شمائله في عشرتهن حين { أسر النبي } أي الذي شأنه أن يرفعه الله دائماً بأن يتلقى من فياض علمه ما يخبر به الناس فإنه ما ينطق عن الهوى وأبهم الزوجة ولم يعينها سبحانه تشريفاً له صلى الله عليه وسلم ولها رضي الله عنهن فقال تعالى : { إلى بعض أزواجه } وهي حفصة رضي الله عنها ، كنى{[66364]} عنها صيانة لهن لأن حرمتهن رضي الله عنهن من حرمته صلى الله عليه وسلم { حديثاً } ليس هو من شأن الرسالة ولو كان من شأنها لهم به وأعلنه ولم يخص به ولا أسره وذلك هو تحريم مارية رضي الله عنها ووعده بأن{[66365]} يترك العسل وبشارته بولاية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يبين الحديث ويفصله إكراماً له صلى الله عليه وسلم وحفظاً لسره لأن العادة جارية بأن الإنسان لا يحب تفصيل سره وإن كنا اطلعنا عليه بعد ذلك لنتأسى به فيما فيه من الأحكام ، فإن أحواله صلى الله عليه وسلم كلها أحكام لنا إلا ما اختص به وأشار إلى قرب زمن إفشائه من زمن التحديث بالفاء في قوله تعالى : { فلما نبأت } أي أخبرت إخباراً عظيماً جليلاً لشرفه في نفسه ولأنه من عند الله وبالغت في ذلك وأخبرت { به } كله من جميع وجوهه ، وجعل ذلك في{[66366]} سياق حكاية لأنه أستر لحرمه{[66367]} صلى الله عليه وسلم حيث لم يقل : فنبأت به{[66368]} ولا قال : أساءت بالإنباء به ، ونحو ذلك مما يفهم أنه مقصود بالذات { وأظهره الله } أي أطلعه الملك الذي له الإحاطة بكل شيء { عليه } أي الحديث بأنه قد أفشى مناصحة له في إعلامه بما يقع في غيبته ليحذره إن كان شراً ويثيب عليه إن كان خيراً { عرف } أي النبي صلى الله عليه وسلم التي أسر إليها { بعضه } وهو أمر الخلافة عتاباً لها عليه لأنه كان أوصاها أن لا تظهره ، والكف عن بعض العتب{[66369]} أبعث على حياء المعتوب وأعون على توبته وعدم عدده إلى فعل مثله { وأعرض عن بعض } وهو أمر السرية والعسل تكرما منه أن يستقصي في العتاب وحياء وحسن عشرة ، قال الحسن : ما استقصى كريم قط ، وقال سفيان الثوري : ما زال التغافل من فعل الكبراء{[66370]} وإنما عاتب على أمر الخلافة خوفاً من{[66371]} أن ينتشر في الناس ويذيع ، فربما أثار حسداً من بعض المنافقين وأورث الحسود للصديق والفاروق كيداً أو جر إلى مفسدة{[66372]} لا نعلمها ، وخفف الكسائي{[66373]} : عرف أي أقر به والمعرفة سبب التعريف والتعريف عن المعرفة فإطلاق أحدهما على{[66374]} الآخر شائع وعلاقته ذلك وأشار إلى مبادرته بتعريفها ذلك لئلا ينتشر ما يكرهه منه بقوله : { فلما نبأها } {[66375]}بما فعلت من إفشاء ما عرفها منه على وجه لم يغادر من ذلك الذي عرفها { به } شيئاً منه ولا من عوارضه ليزداد بصيرة ، روي أنها قالت : قلت لعائشة رضي الله عنها سراً وأنا أعلم أنها لا تظهره ، قاله الملوي وهو معنى قوله : { قالت } أي ظناً منها أن عائشة رضي الله عنها أفشت عليها { من أنبأك هذا } أي مطلق إخبار ، واستأنف قوله : { قال نبأني } وحذف المتعلق اختصاراً للفظ وتكثيراً للمعنى بالتعميم إشارة إلى أنه أخبره بجميع ما دار بينها وبين عائشة رضي الله عنهما مما عرفها به ومن غيره على أتم ما كان { العليم } أي المحيط بالعلم { الخبير * } أي المطلع على الضمائر{[66376]} والظواهر فهو أهل لأن يحذر فلا يتكلم سراً ولا جهراً إلا بما يرضيه .