ونعود بعد هذا الاستطراد إلى النص القرآني . فنجده - بعد تحديد القيم في أمر الدنيا والآخرة ؛ وتحقيق قوله تعالى : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه )في صورة عملية في حياة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأهل بيته . . نجده بعد هذا البيان يأخذ في بيان الجزاء المدخر لأزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وفيه خصوصية لهن وعليهن ، تناسب مقامهن الكريم ، ومكانهن من رسول الله المختار :
( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا . ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين ، وأعتدنا لها رزقا كريما ) . .
إنها تبعة المكان الكريم الذي هن فيه . وهن أزواج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهن أمهات المؤمنين . وهذه الصفة وتلك كلتاهما ترتبان عليهن واجبات ثقيلة ، وتعصمانهن كذلك من مقارفة الفاحشة . فإذا فرض وقارفت واحدة منهن فاحشة مبينة واضحة لا خفاء فيها ، كانت مستحقة لضعفين من العذاب . وذلك فرض يبين تبعة المكان الكريم الذي هن فيه . . ( وكان ذلك على الله يسيرا ) . . لا تمنعه ولا تصعبه مكانتهن من رسول الله المختار . كما قد يتبادر إلى الأذهان !
{ يا نساء النبيء من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا }
بفاحشة : فعلة قبيحة أو معصية كبيرة .
مبينة : ظاهرة القبح من قولهم : بين كذا بمعنى ظهر وتبين .
ضعفين : ضعفي عذاب غيرهن أي : مثليه .
يسيرا : هينا لا يمنعه عنه كونهن نساء النبي بل هذا سبب له .
زوجات الرسول الأمين يظلهن بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه ينزل وحي السماء وتعاليم الله لعباده وهن يشاهدن رسول الله أمامهن وهو القدوة والأسوة والمثل الأعلى لذلك يضاعف الله عقوبتهن على المعصية ولما كان الله قد عصم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من ارتكاب فاحشة الزنا فإن المراد بالفاحشة المبينة القبيح من الأفعال كعصيان الله ورسوله وطلب ما يشق على الرسول ويضيق به ذرعا ويغنم لأجله إذا فعلت إحدى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فإن الله تعالى يضاعف لها العذاب ضعفين : أي ضعفي عذاب غيرها لأن زلة العالم يقرع بها الطبل وزلة الجاهل يخفيها الجهل ، فلعلو منزلتهن ضاعف الله عقوبتهن عند المعصية ، كما ضاعف الله لهن الثواب عند الاستقامة والعمل الصالح .
روى أن رجلا قال لزين العابدين رضي الله عنه : إنكم أهل بيت مغفور لكم فغضب وقال : نحن أحرى أن يجرى فينا ما أجرى الله في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أن نكون كما قلت : إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ولمسيئنا ضعفين من العذاب وقرأ هذه الآية والتي تليها .
جاء في تفسير القاسمي ما يأتي :
قال القاضي لأن الذنب منهن أقبح فإن زيادة قبحه ، تتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه ولذلك جعل حد الحر ضعفي حد العبد وعوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم .
وجاء في تفسير الفخر الرازي ما ملخصه :
وحكمة مضاعفة العذاب لزوجاته صلى الله عليه وسلم أن امرأة لو كانت تحت النبي صلى الله عليه وسلم وأتت بفاحشة تكون قد اختارت غير النبي ويكون ذلك الغير خيرا عندها من النبي وأولى ، والنبي أولى من النفس التي هي أولى من الغير فقد نزلت منصب النبي مرتين فتعذب من العذاب ضعفين واعلم أن الله قد صان زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفاحشة فقوله تعالى : من يأت منكن بفاحشة مبينة من باب قوله تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك . . ( الزمر : 65 ) .
{ وكان ذلك على الله يسيرا . . . } أي ليس كونكن تحت النبي صلى الله عليه وسلم وكونكن شريفات جليلات مما يدفع العذاب عنكن وليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهم وأعوانهم أو شفعائهم وإخوانهم . 30
وجاء في تفسيرالقرطبي ما خلاصته :
أحبر تعالى أن من جاء من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بفاحشة يضاعف لها العذاب ضعفين ، لشرف منزلتهن ، وفضل درجتهن ، وتقديمهن على سائر النساء أجمع ، وكذلك بينت الشريعة في غيرما موضع ، أنه كلما تضاعفت الحرمات فهتكت ، تضاعفت العقوبات ، وقيل : لما كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي ، وفي منزل أوامر الله ونواهيه ، قوي الأمر عليهن ولزمهن ، بسبب مكانتهن ، أكثر مما يلزم غيرهن ، فضوعف لهن الأجر والعذاب ، وقيل : إنما ذلك لعظم الضرر في جرائمهن ، بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكانت العقوبة على قدر عظم الجريمة ، في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة . . . ( الأحزاب : 57 ) .
واختار هذا القول الكيا الطبري .
وكان عمر رضي الله عنه كثيرا ما يقرأ سورة يوسف وسورة الأحزاب في الصبح وكان إذا بلغ يا نساء النبي . . . . رفع بها صوته فقيل له في ذلك ، فقال : أذكرهن العهد .
وقرا الجمهور : من يأت بالياء وقرا يعقوب : من تأت ، و : تقنت بالتاء من فوق .
وقال قوم : الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنا واللواط وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي وإذا وردت منعوتة فهي عقوق الزوج وفساد عشرته وقالت فرقة : بل قوله : بفاحشة مبينة تعم جميع المعاصي وكذلك الفاحشة كيف وردت .
قال ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط ، وإنما خانت في الإيمان والطاعة .
وقال بعض المفسرين : العذاب الذي توعدن به ضعفين هو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فكذلك الأجر . 31
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وزوجاته أمهات المؤمنين فقد أدين الرسالة ونصحت الأمة وكن مثلا أعلى في الاستقامة والعفة ، ونصح المؤمنين والمؤمنات والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
"بفاحشة مبينة" يعني العصيان للنبي صلى الله عليه وسلم.
{يضاعف لها العذاب ضعفين} في الآخرة.
{وكان ذلك على الله يسيرا}: وكان عذابها على الله هينا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا نِساء النّبِيّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنّ بفاحِشَةٍ مَبَيّنَةٍ" يقول: من يزن منكنّ الزنى المعروف الذي أوجب الله عليه الحدّ، يضاعف لها العذاب على فجورها في الآخرة ضعفين على فجور أزواج الناس غيرهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الفاحشة المبينة، هي النشوز البين...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
زيادةُ العقوبة على الجُرْم من أمارات الفضيلة، ولذا فضل حدُّ الأحرار على العبيد. وتقليل ذلك من أمارات النقص؛ فلما كانت منزلتُهن في الشرف تزيد على منزلة جميع النساء ضاعَفَ عقوبتهن على أجرامهن.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وقد استدل أبو بكر الفارسي في أحكام القرآن بهذه الآية على أنهن أشرف نساء العالم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الفاحشة: السيئة البليغة في القبح وهي الكبيرة. والمبينة: الظاهرة فحشها، والمراد كل ما اقترفن من الكبائر؛ وإنما ضوعف عذابهنّ لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهنّ وأقبح؛ لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة، وزيادة النعمة على العاصي من المعصي، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولا على أحد منهنّ مثل ما لله عليهن من النعمة، والجزاء يتبع الفعل، وكون الجزاء عقاباً يتبع كون الفعل قبيحاً، فمتى ازداد قبحاً، ازداد عقابه شدّة. {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} إيذان بأن كونهن نساء النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمغن عنهن شيئاً. وكيف يغني عنهن وهو سبب مضاعفة العذاب، فكان داعياً إلى تشديد الأمر عليهنّ غير صارف عنه.
{وكان ذلك على الله يسيرا} أي ليس كونكن تحت النبي عليه السلام وكونكن شريفات جليلات مما يدفع العذاب عنكن، وليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهم وأعوانهم أو شفعائهم وإخوانهم.
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
هذه عادة الله تعالى في خلقه: من عظمت عليه نعمته اشتدت عليه نقمته.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{بفاحشة مبينة}: كبيرة من المعاصي، ولا يتوهم أنها الزنا، لعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ذلك، ولأنه وصفها بالتبيين والزنا مما يتستر به، وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{يا نساء النبي} تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ له إليهنَّ لإظهارِ الاعتناءِ بنُصحهنَّ، ونداؤهن ههنا وفيما بعدَه بالإضافةِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأنَّها التي يدورُ عليها ما يردُ عليهنَّ من الأحكامِ.
{وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} لا يمنعُه من التَّضعيفِ كونُهنَّ نساءَ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بل يدعُوه إليهِ لمراعاةِ حقِّهِ.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
فيه إشارة إلى تفاوت قبح المعاصي وحسن الطاعات باعتبار الأشخاص ومثل ذلك تفاوتها باعتبار الأماكن والأزمان.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها تبعة المكان الكريم الذي هن فيه. وهن أزواج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهن أمهات المؤمنين. وهذه الصفة وتلك كلتاهما ترتبان عليهن واجبات ثقيلة، وتعصمانهن كذلك من مقارفة الفاحشة. فإذا فرض وقارفت واحدة منهن فاحشة مبينة واضحة لا خفاء فيها، كانت مستحقة لضعفين من العذاب. وذلك فرض يبين تبعة المكان الكريم الذي هن فيه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ولما كان الأجر الموعود منوطاً بالإحسان أُريد تحذيرهن من المعاصي بلوغاً بهن إلى مرتبة الملكية، مبالغة في التحذير إذ جعل عذاب المعصية على فرض أن تأتيها إحداهن عذاباً مضاعفاً.
ونِدَاؤُهُنّ للاهتمام بما سيُلْقَى إليهن. ونَادَاهُنّ بوصف {نساء النبي} ليعلَمْنَ أن ما سيُلقَى إليهن خبر يناسب علوّ أقدارهِنّ. والنساء هنا مراد به الحلائل.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -بيان أن سيئة العالم الشريف اسوأ من سيئة الجاهل الوضيع. ولذا قالوا حسنات الأبرار سيّئات المقربين، كمثل من الأمثال السائرة للعظة والاعتبار.