سورة القيامة مكية وآياتها أربعون
هذه السورة الصغيرة تحشد على القلب البشري من الحقائق والمؤثرات والصور والمشاهد ، والإيقاعات واللمسات ، ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلت منه . . تحشدها بقوة ، في أسلوب خاص ، يجعل لها طابعا قرآنيا مميزا ، سواء في أسلوب الأداء التعبيري ، أو أسلوب الأداء الموسيقي ، حيث يجتمع هذا وذاك على إيقاع تأثير شعوري قوي ، تصعب مواجهته ويصعب التفلت منه أيضا !
إنها تبدأ في الآيتين الأوليين منها بإيقاع عن القيامة ، وإيقاع عن النفس : ( لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة ) . . ثم يستطرد الحديث فيها متعلقا بالنفس ومتعلقا بالقيامة ، من المطلع إلى الختام ، تزاوج بين النفس وبين القيامة حتى تنتهي . وكأن هذا المطلع إشارة إلى موضوع السورة . أو كأنه اللازمة الإيقاعية التي ترتد إليها كل إيقاعات السورة ، بطريقة دقيقة جميلة . .
من تلك الحقائق الكبيرة التي تحشدها هذه السورة في مواجهة القلب البشري ، وتضرب بها عليه حصارا لا مهرب منه . . حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي ، فلا يملك لها ردا ، ولا يملك لها أحد ممن حوله دفعا . وهي تتكرر في كل لحظة ، ويواجهها الكبار والصغار ، والأغنياء والفقراء ، والأقوياء والضعاف ، ويقف الجميع منها موقفا واحدا . . لا حيلة . ولا وسيلة . ولا قوة . ولا شفاعة . ولا دفع . ولا تأجيل . . مما يوحي بأنها قادمة من جهة عليا لا يملك البشر معها شيئا . ولا مفر من الاستسلام لها ، والاستسلام لإرادة تلك الجهة العليا . . وهذا هو الإيقاع الذي تمس به السورة القلوب وهي تقول : ( كلا ! إذا بلغت التراقي ، وقيل : من راق ? وظن أنه الفراق . والتفت الساق بالساق . . إلى ربك يومئذ المساق ) . .
ومن تلك الحقائق الكبيرة التي تعرضها السورة ، حقيقة النشأة الأولى ، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى ، وعلى أن هناك تدبيرا في خلق هذا الإنسان وتقديرا . . وهي حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها وتتابعها في صنعة مبدعة ، لا يقدر عليها إلى الله ، ولا يدعيها أحد ممن يكذبون بالآخرة ويتمارون فيها . فهي قاطعة في أن هناك إلها واحدا يدبر هذا الأمر ويقدره ؛ كما أنها بينة لا ترد على يسر النشأة الآخرة ، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الأخرى ، تمشيا مع التقدير والتدبير الذي لا يترك هذا الإنسان سدى ، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب . . وهذا هو الإيقاع الذي تمس السورة به القلوب وهي تقول في أولها : ( أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ? )ثم تقول في آخرها : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ? ألم يك نطفة من مني يمنى ? ثم كان علقة فخلق فسوى ? فجعل منه الزوجين : الذكر والأنثى ? أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ? ) . .
ومن المشاهد المؤثرة التي تحشدها السورة ، وتواجه بها القلب البشري مواجهة قوية . . مشهد يوم القيامة وما يجري فيه من انقلابات كونية ، ومن اضطرابات نفسية ، ومن حيرة في مواجهة الأحداث الغالبة حيث يتجلى الهول في صميم الكون ، وفي أغوار النفس وهي تروغ من هنا ومن هناك كالفأر في المصيدة ! وذلك ردا على تساؤل الإنسان عن يوم القيامة في شك واستبعاد ليومها المغيب ، واستهانة بها ولجاج في الفجور . فيجيء الرد في إيقاعات سريعة ، ومشاهد سريعة ، وومضات سريعة : ( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه . يسأل : أيان يوم القيامة ? فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر ، يقول الإنسان يومئذ : أين المفر ? كلا ! لا وزر ، إلى ربك يومئذ المستقر ، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر . بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره ! ) . .
ومن هذه المشاهد مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربهم ، المتطلعين إلى وجهه الكريم في ذلك الهول . ومشهد الآخرين المقطوعي الصلة بالله ، وبالرجاء فيه ، المتوقعين عاقبة ما أسلفوا من كفر ومعصية وتكذيب . وهو مشهد يعرض فيه قوة وحيوية كأنه حاضر لحظة قراءة القرآن . وهو يعرض ردا على حب الناس للعاجلة ، وإهمالهم للآخرة . وفي الآخرة يكون هذا الذي يكون : ( كلا ! بل تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة . وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة . ووجوه يومئذ باسرة ، تظن أن يفعل بها فاقرة ! ) . .
وفي ثنايا السورة وحقائقها تلك ومشاهدها تعترض أربع آيات تحتوي توجيها خاصا للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وتعليما له في شأن تلقي هذا القرآن . ويبدو أن هذا التعليم جاء بمناسبة حاضرة في السورة ذاتها . إذ كان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يخاف أن ينسى شيئا مما يوحى إليه ، فكان حرصه على التحرز من النسيان يدفعه إلى استذكار الوحي فقرة فقرة في أثناء تلقيه ؛ وتحريك لسانه به ليستوثق من حفظه . فجاء هذا التعليم : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ، إن علينا جمعه وقرآنه ، فإذا قرأناه ، فاتبع قرآنه ، ثم إن علينا بيانه ) . . جاءه هذا التعليم ليطمئنه إلى أن أمر هذا الوحي ، وحفظ هذا القرآن ، وجمعه ، وبيان مقاصده . . كل أولئك موكول إلى صاحبه . ودوره هو ، هو التلقي والبلاغ . فليطمئن بالا ، وليتلق الوحي كاملا ، فيجده في صدره منقوشا ثابتا . . وهكذا كان . . فأما هذا التعليم فقد ثبت في موضعه حيث نزل . . أليس من قول الله ? وقول الله ثابت في أي غرض كان ? ولأي أمر أراد ? وهذه كلمة من كلماته تثبت في صلب الكتاب شأنها شأن بقية الكتاب . . ودلالة إثبات هذه الآيات في موضعها هذا من السورة دلالة عميقة موحية على حقيقة لطيفة في شأن كل كلمات الله في أي إتجاه . . وفي شأن هذا القرآن وتضمنه لكل كلمات الله التي أوحى بها إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لم يخرم منها حرف ، ولم تند منها عبارة . فهو الحق والصدق والتحرج والوقار !
وهكذا يشعر القلب - وهو يواجه هذه السورة - أنه محاصر لا يهرب . مأخوذ بعمله لا يفلت . لا ملجأ له من الله ولا عاصم . مقدرة نشأته وخطواته بعلم الله وتدبيره ، في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة سواء ، بينما هو يلهو ويلعب ويغتر ويتبطر : ( فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى . ثم ذهب إلى أهله يتمطى ) . .
وفي مواجهة تلك الحشود من الحقائق والمؤثرات واللمسات والإيحاءات يسمع التهديد الملفوف : ( أولى لك فأولى . ثم أولى لك فأولى )فيكون له وقعه ومعناه !
وهكذا تعالج السورة عناد هذا القلب وإعراضه وإصراره ولهوه . وتشعره بالجد الصارم الحازم في هذا الشأن ، شأن القيامة ، وشأن النفس وشأن الحياة المقدرة بحساب دقيق . ثم شأن هذا القرآن الذي لا يخرم منه حرف ، لأنه من كلام العظيم الجليل ، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكلماته ، وتثبت في سجل الكون الثابت ، وفي صلب هذا الكتاب الكريم .
وقد عرضنا نحن لحقائق السورة ومشاهدها فرادى لمجرد البيان . وهي في نسق السورة شيء آخر . إذ أن تتابعها في السياق ، والمزاوجة بينها هنا وهناك ، ولمسة القلب بجانب من الحقيقة مرة ، ثم العودة إليه بالجانبالآخر بعد فترة . . كل ذلك من خصائص الأسلوب القرآني في مخاطبة القلب البشري ؛ مما لا يبلغ إليه أسلوب آخر ، ولا طريقة أخرى . .
لا أقسم بيوم القيامة ، ولا أقسم بالنفس اللوامة ، أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ? بلى قادرين على أن نسوي بنانه ، بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ، يسأل : أيان يوم القيامة ? فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر . . يقول الإنسان يومئذ : أين المفر ? كلا لا وزر . إلى ربك يومئذ المستقر ، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ، بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره . .
هذا التلويح بالقسم مع العدول عنه أوقع في الحس من القسم المباشر ؛ وهذا الوقع هو المقصود من العبارة ، وهو يتم أحسن تمام بهذا الأسلوب الخاص ، الذي يتكرر في مواضع مختلفة من القرآن . . ثم تبرز من ورائه حقيقة القيامة وحقيقة النفس اللوامة .
( سورة القيامة مكية ، وآياتها 40 آية ، نزلت بعد سورة القارعة )
وهي سورة تتحدث عن القيامة ، وعن النفس اللوامة ، وتحشد على القلب البشري من الحقائق والمؤثرات ، والصور والمشاهد ، ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلّت منه .
ومن ذلك الحقائق الكبيرة التي تحشدها السورة في مواجهة القلب البشري ، حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي ، وتتكرر كل لحظة ، ويواجهها الكبار والصغار ، والأغنياء والفقراء ، والأقوياء والضعاف ، ويقف الجميع منها موقفا واحدا ، هو الاستسلام والخضوع لقدرة العلي القدير : إلى ربك يومئذ المساق . ( القيامة : 30 ) .
ومن تلك الحقائق التي تعرضها السورة ، حقيقة النشأة الأولى ، وأن من خلق الإنسان من نطفة ، قادر على أن يعيده مرة أخرى ، أيحسب الإنسان أن يترك سدى* ألم يك نطفة من منيّ يمنى . ( القيامة : 36 ، 37 ) .
ومن المشاهد المؤثرة في السورة ، مشهد القيامة ، وقد وقف الجميع للحساب ، وزاغت الأبصار ، واشتد الهول ، ولقي كل إنسان جزاءه : يسأل أيان يوم القيامة* فإذا برق البصر . ( القيامة : 6 ، 7 ) .
ومن هذه المشاهد ، مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربهم ، المتطلعين إلى وجهه الكريم ، ومشهد الآخرين المقطوعي الصلة بالله : وجوه يومئذ ناضرة* إلى ربها ناظرة* ووجوه يومئذ باسرة . ( القيامة : 22-24 ) .
وهكذا يشعر القلب وهو يواجه هذه السورة ، بأنه محاصر لا يهرب ، مأخوذ بعمله لا يفلت ، لا ملجأ له من الله ولا عاصم ، وهكذا تعالج السورة عناد المشركين وإصرارهم ، وتشعر الإنسان بالجد الصارم الجازم في شأن القيامة ، وشأن النفس ، وشأن الحياة المقدرة بحساب دقيق .
وقد لونت السورة وزاوجت بين حقائق الآخرة ، وحقائق الخلق والإبداع ، ومشاهد الموت والحساب ، وتكفل الله بشأن القرآن وحفظه ، وتلك خصيصة من خصائص الأسلوب القرآني ، حيث يخاطب القلب البشري بشتى الأساليب والمؤثرات والحقائق والمشاهد ، مما يأخذ عليه كل طريق ، ويقوده إلى الإذعان والتسليم .
1 ، 2- يقسم الله تعالى بيوم القيامة وعظم هوله ، وبالنفس التي تلوم صاحبها على الخير والشر ، وتندم على ما فات ، يقسم أن البعث حق .
3 ، 4- يرد سبحانه على بعض المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث ، وقد كانت المشكلة الشعورية عند المشركين هي صعوبة تصورهم لجمع العظام البالية ، الذاهبة في التراب ، المتفرقة في الثرى ، وإعادة بعث الإنسان حيا .
والنص يؤكد عملية جمع العظام ، بما هو أرقى من مجرد جمعها ، وهي تسوية البنان ، وتركيبه في موضعه كما كان ، وهي كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدق ما فيه ، حتى يتمثل الإنسان بشرا سويا ، لا ينقصه حتى تسوية أصابعه ، وما حملت من خاصيات مميزة .
5 ، 6- لا يجهل ابن آدم أن ربه قادر على أن يجمع عظمه ، ولكنه يريد أن يداوم على فجوره فيما يستأنف من الزمان ، ولا يتخلى عنه ، ومن ثم فهو يستبعد وقوع البعث ، ويستبعد مجيء القيامة .
7-9- ذكر سبحانه من علامات يوم القيامة أمورا ثلاثة :
( أ ) فالبصر يخطف ويتقلب سريعا سريعا ، تقلب البرق وخطفه .
( ب ) والقمر يخسف ويطمس نوره .
( ج ) والشمس تقترن بالقمر بعد افتراق ، ويختل نظامها الفلكي المعهود ، حيث ينفرط ذلك النظام الكوني الدقيق .
10- 12- يتساءل الإنسان المرعوب : أين المفر من جهنم ؟ وهل من ملجأ منها ؟
ولا ملجأ ولا وقاية ولا مفر من قهر الله وأخذه ، والرجعة إليه والمستقر عنده ، لا مستقر عند غيره .
قال السدّي : كانوا إذا فزعوا في الدنيا تحصنوا بالجبال ، فقال الله لهم : لا وزر يعصمكم مني .
13- يخبر الإنسان حين العرض والحساب بجميع أعماله : قديمها وحديثها ، أولها وآخرها ، صغيرها وكبيرها .
وفي الحديث : ( سبع يجرى أجرها للعبد بعد موته وهو في قبره : من علّم علما ، أو أجرى نهرا ، أو حفر بئرا ، أو غرس ظلا ، أو بنى مسجدا ، أو ورّق مصحفا ، أو ترك وليا يستغفر له بعد موته ) .
14 ، 15- بل الإنسان على نفسه بصيرة ، بل الإنسان حجة بينة على نفسه ، وفي ذلك اليوم تنطق جوارحه بما فعل ، فسمعه وبصره ويداه ورجلاه وجميع أعضائه تشهد عليه ، ويتضح الحق ، ولو جاء بكل الأعذار .
16- تكفل الله بشأن القرآن ، وحيا وحفظا وجمعا وبيانا ، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم من أمره إلا حمله وتبليغه .
وقد كان الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم شديد اللهفة والحرص على استيعاب القرآن وحفظه ، مما كان يدعوه إلى متابعة جبريل عليه السلام في التلاوة آية آية ، وكلمة كلمة .
فلما نزلت هذه الآية ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل أطرق وسكت ، فإذا ذهب قرأه كما أمره الله .
17- 19- إن علينا جمعه في صدرك الشريف ، وقراءته على لسانك ، فلن تنساه أبدا ، بل نحن سنجمعه في صدور المؤمنين ، ونحفظ قراءته ، تلاه عليك الملك فاستمع له ، ثم اقرأه كما أقرأك ، ثم إننا بعد حفظه وتلاوته ، ونبينه لك ونلهمك معناه .
20 ، 21- إنكم يا بني آدم خلقتم من عجل ، وطبعتم عليه ، فتعجلون في كل شيء ، ومن ثم تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة .
22 ، 23- في ذلك اليوم –يوم القيامة- ستكون هناك وجوه حسنة ناعمة ، تنظر إلى جلال الله ، وتتمتع برضوانه ، وهي متعة دونها كل متعة .
إن روح الإنسان لتستمتع أحيانا بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس ، تراها في الليلة القمراء ، أو الليل الساجي ، أو الفجر الوليد ، أو الظل المديد ، أو البحر العباب ، أو الصحراء المنسابة ، أو الروض البهيج ، أو الطلعة البهية ، أو القلب النبيل ، أو الإيمان الواثق ، أو الصبر الجميل ، إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود . . فتغمرها النشوة ، وتفيض بها السعادة ، فكيف بها وهي تنظر إلى جمال ذات الله ؟ وتستمتع بهذه السعادة الغامرة التي لا يحيط بها وصف ، ولا يتصور حقيقتها إدراك ؟
24 ، 25- ووجوه الفجار تكون يوم القيامة عابسة كالحة ، مستيقنة أنها ستصاب بداهية عظيمة تقصم ظهرها وتهلكها .
25- 30- تعرض الآيات مشهد الاحتضار ، حين تبلغ الروح أعالي الصدر ، وتشرف النفس على الموت ، ويقول أهل المحتضر : من يرقيه للشفاء مما نزل به ؟ والتمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا ، وأيقن المحتضر أن ما نزل به نذير الفراق من الدنيا والمال والأهل والولد ، وبطلت كل حيلة ، وعجزت كل وسيلة ، والتوت ساقه بساقه ، فلا يقدر على تحريكهما ، وتبين الطريق الواحد الذي يساق إليه كل حي في نهاية المطاف : إلى ربك يومئذ المساق .
إن المشهد ليكاد يتحرك وينطق ، وكل آية ترسم حركة ، إنه مشهد الموت الذي ينتهي إليه كل حي ، الموت الذي يصرع الجبابرة ، بنفس السهولة التي يصرع بها الأقزام ، ويقهر المتسلطين كما يقهر المستضعفين سواء ، الموت الذي لا حيلة للبشر فيه ، وهم مع هذا لا يتدبرون القوة القاهرة التي تجريه .
31- 33- ورد أن هذه الآيات تعني شخصا معينا بالذات . قيل : هو أبو جهل ( عمرو بن هشام ) ، وكان يجيء أحيانا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن ، ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع ، ولا يتأدب ولا يخشى ، ويؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول ، ويصد عن سبيل الله ، ثم يذهب مختالا بما فعل ، فخورا بما ارتكب من الشر ، كأنما فعل شيئا يذكر ، ويتمطّى . أي : يمط في ظهره ويتعاجب تعاجبا ثقيلا كريها .
وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوة إلى الله ، يسمع ويعرض ، ويتفنن في الصدّ عن سبيل الله ، والأذى للدعاة .
34 ، 35- ويل لك مرة بعد مرة أخرى ، وأهلكك الله هلاكا أقرب من كل شر وهلاك ، وهو تعبير اصطلاحي يتضمن التهديد والوعيد ، أو معناها : أجمل بك وأحرى . ثم أولى لك فأولى . أي : يتكرر هذا الدعاء عليك مرة أخرى .
روى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد أبي جهل فقال : ( أولى لك فأولى ، ثم أولى لك فأولى ) . فقال عدو الله : أتوعدني يا محمد ، والله لا تستطيع أنت وربك شيئا ، وإني لأعز من مشى بين جبليها . فأخذه الله يوم بدر بيد المؤمنين .
36- أيحسب الكافر أن يترك مهملا ، لا يؤمر ولا ينهى ولا يبعث ولا يجازى ؟ كانت الحياة في نظر القوم حركة لا علة لها ولا هدف ولا غاية . . أرحام تدفع ، وقبور تبلع ، وبين هاتين لهو ولعب ، وزينة وتفاخر ، فلفتت الآية نظر الإنسان إلى التقدير والتدبير في حياته ، وأنه لا بد من البعث والجزاء ، ليميز الصالح من الطالح ، والمؤمن من الكافر ، ثم يأتي ما بعدها بالدلائل الواقعية على هذا القول .
37- 39- فما هذا الإنسان ؟ مم خلق ؟ وكيف كان ؟
ألم يك نطفة من الماء من مني يراق ؟ ألم تتحول هذه النطفة إلى علقة ذات وضع خاص في الرحم ، تعلق بجدرانه لتعيش وتستمد الغذاء ؟ فمن ذا الذي ألهمها هذه الحركة ؟ ومن ذا الذي وجهها هذا الاتجاه ؟
ثم من ذا الذي خلقها بعد ذلك جنينا معتدلا منسق الأعضاء ، مؤلفا جسمه من ملايين الملاين من الخلايا الحية ، وهو في الأصل خلية واحدة مع بويضة ؟
ومن ذا الذي قاد هذه الخلية ، وهي خلية صغيرة ضعيفة لا عقل لها ولا مدارك ولا تجارب ؟
ثم في النهاية . . من ذا الذي جعل من الخلية الواحدة . . الذكر والأنثى ؟
إنه لا مفر من الإحساس باليد اللطيفة المدبرة ، التي قادت النطفة المراقة في طريقها الطويل ، حتى انتهت بها إلى ذلك المصير : فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى .
35- وفي ختام السورة يجئ هذا الاستفهام القوي الحاسم : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى . أي : أليس الذي أنشأ هذا الخلق السويّ من هذه النطفة المراقة ، بقادر على أن يعيده كما بدأه ؟
أليس الفعال للتدبير والتقدير والنشأة الأولى بقادر على البعث والإحياء مرة أخرى ؟
قال تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه . . . ( الروم : 27 ) .
وإذا سمع المؤمن هذه الآية الأخيرة من سورة القيامة فليقل : بلى قادر .
أخرج الإمام أحمد ، وأبو داود ، والحاكم وصححه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ منكم : والتين والزيتون . وانتهى إلى آخرها : أليس الله بأحكم الحاكمين . فليقل : بلى ، وأنا على ذلكم من الشاهدين . ومن قرأ : لا أقسم بيوم القيامة . فانتهى إلى آخرها : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى . فليقل : بلى ، ومن قرأ المرسلات فبلغ : فبأي حديث بعده يؤمنون . فليقل : آمنا بالله ) .
بيان القيامة وهيبتها ، وبيان إثبات البعث ، وتأثير القيامة في أعيان العالم ، حيث يزوغ البصر ويظلم القمر ، وتنكدر الشمس ، ويفزع الإنسان ويقول : أين المفر ؟
وفي ذلك اليوم سينال كل إنسان جزاء عمله .
وبينت السورة آداب الوحي ، والوعد باللقاء والرؤية ، وبيّنت هول الاحتضار ، وقدرة الله على البدء والإعادة ، وبعث الموتى وحسابهم وجزائهم ، في قوله سبحانه : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى .
{ لا أقسم بيوم القيامة 1 ولا أقسم بالنفس اللّوّامة 2 أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه 3 بلى قادرين على أن نسوّي بنانه 4 بل يريد الإنسان ليفجر أمامه 5 يسأل أيّان يوم القيامة 6 فإذا برق البصر 7 وخسف القمر 8 وجمع الشمس والقمر 9 يقول الإنسان يومئذ أين المفر 10 كلاّ لا وزر 11 إلى ربك يومئذ المستقر 12 ينبّأ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخّر 13 بل الإنسان على نفسه بصيرة 14 ولو ألقى معاذيره 15 }
لا أقسم : أقسم ، ولا ( لا ) مزيدة .
أقسم بيوم القيامة ، وهو اليوم الذي يقوم الناس فيه من قبورهم ، حفاة عراة غرلاi كما ولدتهم أمهاتهم ، وهو اليوم الذي تبدّل فيه الأرض غير الأرض والسماوات ، وهو اليوم الذي يشيب فيه الوليد ، ويحشر الناس في أرض المحشر ، ويتم القضاء .
سورة القيامة مكية وآياتها أربعون ، نزلت بعد سورة القارعة . وهي تعالج موضوع البعث والجزاء فإن هذا الموضوع جاء غريبا على المشركين الذين
لا يؤمنون به . وقد بدأت بالحديث عن يوم القيامة ، وأقسم الله بعظمة القيامة وبالنفس اللوامة الطماحة إلى الرقي ، التي لا ترضى بمرتبة إلا طلبت سواها ، ولا بحالة إلا أحبت ما تلاها ، ورامت ما فوقها . وهذا القسم كأنه استدلال على القيامة ، يقول : إن ما في النفوس من حب الرقي وعدم الوقوف عند حد محدود في هذه الحياة ، دليل على أن هناك حالا أخرى ينال فيها الإنسان ما كان يرغبه .
وأن هذا القسم وأمثاله لم يكن للعرب به عهد ، ولم يطرق آذانهم ، فإنهم تعودوا أن يُقسموا بالأشياء المعهودة فيما بينهم لا يتجاوزونها ، فيقسمون بالأب وبالعمر ، وبالكعبة . أما هذه الأقسام العجيبة فكانوا لا يعرفونها ، ولا يقسمون بها . . فإن فيها دلائل على ما يقصد في جوابها ، وفيها فتح باب البراهين والحكمة والعلم .
وبعد هذا القسَم العظيم بالقيامة وبالنفس اللوامة يؤكد الله تعالى أنه سيبعث الناس ويجمع عظامهم . وقد شرح ذلك بعض الشرح بقوله تعالى : { يسأل أيّان يوم القيامة ، فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجُمع الشمس والقمر ، يقول الإنسان يومئذ أين المفر } . فأتى بثلاث علامات على يوم القيامة ، وعند ذلك يعاين الإنسان الحقائق ، ويعلم أنه لا مفر من عذاب الله ، ويرى حسابه بنفسه وكل
ثم يأتي بأربع آيات فيها توجيه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتعليم خاص في شأن تلقي هذا القرآن العظيم ، ليطمئنه إلى أنّ أمر هذا الوحي ، وحفظ القرآن ، وجمعه وبيان مقاصده ، كل أولئك موكول إلى الله ، وما عليه إلا أن يتلقى ويبلّغ ما تلقى .
ثم يوجه الردع إلى من يحبون العاجلة ويذرون الآخرة ، ثم يوازن بين وجوه المؤمنين الناضرة ، ووجوه الكافرين الباسرة الكالحة المعبسة .
ثم يأتي الحديث عن حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي ، فلا يملك لها ردّا ، ولا يملك لها أحد ممن حوله دفعا . وهي تكرر في كل لحظة ، ويواجهها الكبار والصغار ، والأغنياء والفقراء ، والأقوياء والضعفاء ، ويقف الجميع منها موقفا واحدا لا حيلة ولا وسيلة ولا قوة ولا شفاعة { كلا إذا بلغت التراقي ، وقيل من راق ، وظن أنه الفراق ، والتفّت الساق بالساق ، إلى ربك يومئذ المساق } .
وبعد هذا المشهد الرهيب الذي حير البشر ، واستسلموا تجاهه لأمر الله ، تتحدث السورة عن النشأة الأولى ، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى ، وعلى أن هناك تدبيرا في خلق هذا الإنسان وتقديرا ، كما أنها بينة لا تُرد على يسر النشأة الأخرى ، { أيحسب الإنسان أن يُترك سدى ، ألم يكُ نطفة من مني يُمنى ، ثم كان علقة فخلَقَ فسوّى ، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ، أليس ذلك بقادر على أن يُحيي الموتى } ؟ كما قدر الله على الخلق الأول وأوجد الإنسان من نطفة لا ترى بالعين المجردة ، فمن الهيّن عليه أن يعيده خلقا جديدا .
وقد سميت السورة " سورة القيامة " بقوله تعالى { لا أقسم بيوم القيامة } ولأنها تعالج هذا الموضوع بأسلوب عظيم ، وأداء ممتاز بعرض مشاهد يوم القيامة
وما يمس الإنسان من خلق وموت وحياة وتختم السورة كما بدئت بإثبات الحشر والمعاد .
لا أُقسِم بيوم القيامة : إن الامر لا يحتاج إلى قسم لأنه في غاية الوضوح .
سورة القيامة{[1]}
مقصودها الدلالة على عظمة المدثر المأمور بالإنذار صلى الله عليه وسلم لعظمة مرسله سبحانه وتمام اقتداره بأنه كشف له العلوم حتى صار إلى الأعيان{[2]} بعد الرسوم{[3]} بشرح آخر سورته من أن هذا القرآن تذكرة عظيمة لما أودعه [ الله-{[4]} ] من وضوح{[5]} المعاني وعذوبة الألفاظ وجلالة النظوم{[6]} ورونق السبك وعلو المقاصد ، فهو لذلك معشوق لكل طبع ، معلوم ما خفي من أسراره{[7]} وإشاراته بصدق النية وقوة العزم بحيث يصير بعد كشفه إذا أثر {[8]}كأنه كان{[9]} منسيا بعد حفظه فذكر { فمن شاء ذكره } فحفظه{[10]} وعلم معانيه وتخلق بها ، وإنما المانع عن ذلك مشيئة الله تعالى ، فمن شاء حجبه عنه أصلا ورأسا ، ومن شاء حجبه عن{[11]} بعضه ، ومن شاء كشف عنه الحجاب ، وجعله يعينه على أعظم صواب ، دون شك ولا ارتياب ، وجلى عليه أوانسه وعرائسه وحباه جواهره ونفائسه ، وحلاه به ؛ فكان ملكه وسائسه ، كما كان{[12]} المدثر صلى الله عليه وسلم حين كان خلقه القرآن ، واسمها القيامة واضح في ذلك جدا ، وليس فيها ما يقوم بالدلالة عليه غيره إذا تؤملت الآية مع ما أشارت إليه " لا " النافية للقسم أو المؤكدة مع أنها في الوضوح في حد لا يحتاج إلى الإقسام [ عليه-{[13]} ] لأنه لا يوجد أحد يدع من تحت يده يعدو بعضهم على بعض ، ويتصرفون فيما حولهم فيه من غير حساب ، فكيف بأحكم الحاكمين الذي وكل بعبيده أضعافهم من الملائكة فهم يريدون في كل لحظة فيهم كؤوس المنايا ، ويأخذون من أمرهم به سبحانه إلى داره{[14]} البرزخ للتهيئة للعرض ويسوقونهم زمرا بعد زمر إلى العود في الأرض حتى ينتهي الجمع في القبور ، ويقيمهم بالنقر{[15]} في الناقور ، والنفخ في الصور ، إلى ساحة الحساب للثواب و{[16]}العقاب ، / ولم يحجب عن علم ذلك حتى ضل عنه أكثر الخلق إلا مشيئته سبحانه بتغليب النفس الأمارة حتى صارت اللوامة منهمكة في الشر شديدة اللوم عن الإقصار عن{[17]} شيء منه كما أن ما جلاه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم حتى كان خلقه ، ولمن أراد من أتباعه إلا إرادته سبحانه بتغليب{[18]} المطمئنة حتى صار الكل روحا صرفا [ و-{[19]} ] نورا خالصا بحتا { بسم الله } الذي شرف رسوله صلى الله عليه وسلم فأعجز الخلق بكتابه بما له من الجلال { الرحمن } الذي عم بنعمتي الإيجاد والبيان أهل الهدى والضلال { الرحيم* } الذي خص أهل العناية بالسداد في الأقوال والأفعال .
لما ذكر سبحانه الآخرة أول سورة{[70067]} المدثر وخوف منها بالتعبير بالناقور وما تبعه ، ثم أعاد أمرها آخرها ، وذكر التقوى التي هي أعظم أسباب النجاح فيها والمغفرة التي هي الدواء الأعظم لها ، وكان الكفار يكذبون بها ، وكان سبحانه قد أقام عليها من الأدلة من أول القرآن إلى هنا تارة مع الإقسام وأخرى مع الخلو عنه ما صيرها في حد البديهيات ، وكانت{[70068]} العادة قاضية بأن المخبر إذا كذبه السامع حلف على ما أخبره به ، وكان الإقسام مع تحقق العناد لا يفيد ، أشار سبحانه وتعالى إلى أن الأمر قد صار غنياً عن الإقسام لما له من الظهور الذي لا ينكره إلا-{[70069]} معاند ، فقال مشيراً إلى تعظيمها والتهويل في أمرها بذكرها{[70070]} وإثبات أمرها بعدم{[70071]} الإقسام أو تأكيده : { لا أقسم } أي لا أوقع{[70072]} الإقسام أو أوقعه{[70073]} مؤكداً { بيوم القيامة * } على وجود يوم القيامة أو بسبب وجوده لأن الأمر{[70074]} غني فيه عن ذلك-{[70075]} وعلى القول بأنه قسم هو مؤكد بالنافي ، ودخوله في التأكيد سائغ بل شائع في كلامهم جداً ، وجاز القسم بالشيء على وجوده إشارة إلى أنه في العظمة في الدرجة العليا كما يقول الإنسان : والله إن الله موجود ، أي لا شيء أحلف به على وجوده - يا أيها المنكر - أعظم منه حتى-{[70076]} أحلف به ولا بد لي من الحلف لأجل إنكارك فأنا أحلف به عليه ، فالمعنى حينئذ أنه لا شيء أدل على عظمة الله من هذين{[70077]} الشيئين فلذا أوقع القسم بهما{[70078]} ، وسر التأكيد ب " لا " -{[70079]} كما قال الرازي في اللوامع ، إن الإثبات من طريق النفي آكد كأنه رد على المنكر أولاً ثم أثبت القسم ثانياً ، فإن الجمع بين النفي والإثبات دليل الحصر .