بعدئذ ينتقل بهم من لمسة التهديد والنذير ، إلى لمسة التأمل والتفكير . في مشهد يرونه كثيرا ، ولا يتدبرونه إلا قليلا . وهو مظهر من مظاهر القدرة ، وأثر من آثار التدبير الإلهي اللطيف .
( أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ? ما يمسكهن إلا الرحمن ، إنه بكل شيء بصير ) . .
وهذه الخارقة التي تقع في كل لحظة ، تنسينا بوقوعها المتكرر ، ما تشي به من القدرة والعظمة . ولكن تأمل هذا الطير ، وهو يصف جناحيه ويفردهما ، ثم يقبضهما ويضمهما ، وهو في الحالين : حالة الصف الغالبة ، وحالة القبض العارضة يظل في الهواء ، يسبح فيه سباحة في يسر وسهولة ؛ ويأتي بحركات يخيل إلى الناظر أحيانا أنها حركات استعراضية لجمال التحليق والانقضاض والارتفاع !
تأمل هذا المشهد ، ومتابعة كل نوع من الطير في حركاته الخاصة بنوعه ، لا يمله النظر ، ولا يمله القلب . وهو متعة فوق ما هو مثار تفكير وتدبر في صنع الله البديع ، الذي يتعانق فيه الكمال والجمال !
والقرآن يشير بالنظر إلى هذا المشهد المثير :
( أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ? ) . .
ثم يوحي بما وراءه من التدبير والتقدير :
والرحمن يمسكهن بنواميس الوجود المتناسقة ذلك التناسق العجيب ، الملحوظ فيه كل صغيرة وكبيرة ، المحسوب فيه حساب الخلية والذرة . . النواميس التي تكفل توافر آلاف الموافقات في الأرض والجو وخلقة الطير ، لتتم هذه الخارقة وتتكرر ، وتظل تتكرر بانتظام .
والرحمن يمسكهن بقدرته القادرة التي لا تكل ، وعنايته الحاضرة التي لا تغيب . وهي التي تحفظ هذه النواميس أبدا في عمل وفي تناسق وفي انتظام . فلا تفتر ولا تختل ولا تضطرب غمضة عين إلى ما شاء الله : ( ما يمسكهن إلا الرحمن ) . . بهذا التعبير المباشر الذي يشي بيد الرحمن تمسك بكل طائر وبكل جناح ، والطائر صاف جناحيه وحين يقبض ، وهو معلق في الفضاء !
يبصره ويراه . ويبصر أمره ويخبره . ومن ثم يهيئ وينسق ، ويعطي القدرة ، ويرعى كل شيء في كل لحظة رعاية الخبير البصير .
وإمساك الطير في الجو كإمساك الدواب على الأرض الطائرة بما عليها في الفضاء . كإمساك سائر الأجرام التي لا يمسكها في مكانها إلا الله . ولكن القرآن يأخذ بأبصار القوم وقلوبهم إلى كل مشهد يملكون رؤيته وإدراكه ؛ ويلمس قلوبهم بإيحاءاته وإيقاعاته . وإلا فصنعة الله كلها إعجاز وكلها إبداع ، وكلها إيحاء وكلها إيقاع . وكل قلب وكل جيل يدرك منها ما يطيقه ، ويلحظ منها ما يراه . حسب توفيق الله .
صافّات : باسطات أجنحتها في الجوّ حين طيرانها تارة .
19- أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافّات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمان إنه بكل شيء بصير .
أو لم ينظر الإنسان ببصره إلى أسراب الطير في الفضاء ، وكأنها وسيلة لاستعراض البراعة والجمال ، والطير يرتفع وينخفض ، ويستدير ، ويفرد جناحيه في أحيان كثيرة ، ويقبض جناحيه في أحيان قليلة ، أو يقبض جناحا ويبسط جناحا ، لقد ألهم الله الطير حياته وحركته وطيرانه ، وألهم كلّ كائن عوامل وجوده ، وطرائق حياته ، ما يمسك الطير في السماء في حالات البسط والقبض إلا الرحمان الذي أبدع نظام هذا الكون ، وألهم كل كائن وسيلة حياته في هذه الدنيا .
إنه سبحانه بصير بكل شيء ، مطّلع على كل شيء ، ممسك بنظام هذا الكون ، بديع السماوات والأرض .
صافّات : باسطاتٍ أجنحتهنّ في الجوّ أثناء الطيران .
ثم بعد ذلك وجّه أنظارهم إلى باهر قدرته ، وعظيم منّته على عباده ، فطلبَ إليهم أن ينظروا إلى بعض مخلوقاته ، كالطّير كيف تطير باسطةً أجنحتها في الجو تارةً وتضمّها أخرى ، وذلك كلّه بقدرة الله وتعليمه لها ما هي بحاجة إليه .
فبعد هذا كله اعتبِروا يا أيها الجاحدون ، مما قصَصْنا عليكم ، فهل أنتم آمنون أن ندبر بحكمتنا عذاباً نصبّه ونقضي عليكم ، فلا يبقى منكم أحد ! ؟
{ صافات } : أي باسطات أجنحتها .
{ ويقبضن } : أي ويمسكن أجنحتهن .
{ ما يمسكهن إلا الرحمن } : أي حتى لا يسقطن على الأرض حال البسط للأجنحة والقبض لها .
وقوله تعالى { أو ألم يروا إلى الطير فوقهم صافات } أي باسطات أجنحتهن ويقبضنها ما يمسكهن في حالة البسط أو القبض إلا الرحمن أنكره المشركون وقالوا وما الرحمن وهم يعيشون في رحمته التي وسعت كل شيء وهو متجلية حتى في الطير تحفظه من السقوط والتحطيم أي أينكرون ألوهية الله ورحمته ولم يروا إلى الطير وهي صافات وقابضات أجنحتها ولا يمسكها أحد من الناس فمن يمسكها إذاً ؟ إنه الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه بما شاء من السنن والنواميس التي يحكم بها خلقه ويدبر بها ملكوته أن أمر المشركين في كفرهم بالله لعجب وقوله { إنه بكل شيء بصير } سواء عنده السابح في الماء والسارح في الغبراء والطائر في السماء والمستكن في الأحشاء .
- من آيات الله في الآفاق الدالة على قدرة الله وعلمه ورحمته الموجبة لعبادته وحدة طيران الطير في السماء وهو يبسط جناحيه ويقبضهما ولا يسقط إذ المفروض أن يبقى دائماً يخفق بجناحيه يدفع نفسه فيطير بمساعدة الهواء أما إن قبض أو بسط المفروض أنه يسقط ولكن الرحمن عز وجل يمسكه فلا يسقط .
قوله تعالى : " أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات " أي كما ذلل الأرض للآدمي ذلل الهواء للطيور . و " صافات " أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ؛ لأنهن إذا بسطنها صففن قوائمها صفا . " ويقبضن " أي يضربن بها جنوبهن . قال أبو جعفر النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحيه : صاف ، وإذا ضمهما فأصابا جنبه : قابض ، لأنه يقبضهما . قال أبو خراش :
يبادر جُنْحَ الليل فهو مُوَائِل{[15198]}*** يَحُثّ الجناح بالتَّبَسُّطِ والقَبْضِ
وقيل : ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران . وهو معطوف على " صافات " عطف المضارع على اسم الفاعل ، كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر :
بات يُغشِّيها بعَضْب باتر*** يقصد في أسْوُقها وجَائِر{[15199]}
" ما يمسكهن " أي ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل . " إنه بكل شيء بصير " .
ولما ذكر بمصارع الأولين ، وكان التذكير بالحاصب تذكيراً لقريش ، بما حصب به على قرب الزمان ، عدوهم أصحاب الفيل ، بما أرسل عليهم{[66996]} من الطير الأبابيل ، تحذيراً لهم من ذلك إن تمادوا على كفره{[66997]} ، ولم ينقادوا إلى شكره ، فكان التقدير تقريراً لزيادة قدرته ، وحسن تدبيره ، ولطف تربيته ، حيث جبر الطير لضعفها{[66998]} بالطيران ، ليكمل بعموم رحمانيته{[66999]} أمر معاشها تقريراً ، لأن بيده الملك ، وترهيباً من أن ينازعه أحد في تدبيره ، مع تبقية القول مصروفاً عن خطابهم ، إيذاناً بشدة حسابهم ، وسوء منقلبهم ومآبهم ؛ ألم يروا إلى قدرتنا على مصارع الأولين ، وإهلاك المكذبين ، وإنجاء المؤمنين ، عطف عليه قوله معرضاً عنهم ، زيادة في الإنذار بالحصب من الطير وغيرها : { أو لم يروا } وأجمع القراء على القراءة هنا بالغيب ، لأن السياق للرد على المكذبين ، بخلاف ما في النحل .
وأشار إلى بعد الغاية بحرف النهاية ، فقال : { إلى الطير } وهو جمع طائر .
ولما كان الجو كله مباحاً للطيران ، نزع الجار فقال : { فوقهم } وبين حال الطير في الفوقية بقوله واصفاً لها بالتأنيث ، إشارة إلى ضعفها في أنفسها{[67000]} لولا تقويته{[67001]} لها { صافات } أي باسطات أجنحتها ، تمدها غاية المد ، بحيث تصير مستوية لا اعوجاج فيها ، مع أنه إذا كان جماعة منها كانت صفوفاً ، أو صفاً واحداً في غاية الانتظام ، تابعة لإمام منها .
ولما عبر عن الصف بالاسم ، لأنه الأصل الثابت ، عبر عن التحريك بالفعل ، لأن الطيران في ساحة الهواء ، كالسباحة في باحة الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها ، والبقض طارىء على البسط ، فقال : { ويقبضن } أي يوقعن قبض الأجنحة وبسطها وقتاً بعد وقت ، للاستراحة والاستظهار به على السبح في الهواء . ولما تم هذا التقدير على هذا الوجه الرائع للقلوب ، ترجمه بقوله{[67002]} : { ما يمسكهن } أي في الجو في حال القبض والبسط عن السقوط ، على خلاف ما يقتضيه الطبع .
ولما كان هذا من التدبير المحكم الناظر إلى عموم الرحمة قال : { إلا الرحمن } أي الملك الذي رحمته عامة لكل شيء ، بأن هيأهن - بعد أن أفاض عليهن رحمة الإيجاد - على أشكال مختلفة وخصائص مفترقة للجري في الهواء ، بما أوجد لها من القوادم والحوافي وغير ذلك{[67003]} من الهيئات المقابلة لذلك ، وكذا جميع العالم لو أمسك عنه حفظه{[67004]} طرفة عين لفسد بتهافت الأفلاك وتداعي الجبال وغيرها ، وعبر في النحل بالاسم الأعظم ، لأن سياقها للرد على أهل الطبائع{[67005]} وهم الفلاسفة ، الذين لا يقوم بالرد عليهم إلا المتبحر في معرفة{[67006]} جميع أصول الدين ، بمعرفة جميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى ، التي{[67007]} جمعها اسم الذات .
ولما كان هذا أمراً رائعاً للعقل ، ولكنه لشدة الإلف ، صار لا يتنبه له إلا بالتنبيه ، وكان الجاهل ربما ظن أن التقدير على الطيران خاص بالطير ، نبه سبحانه على عظمة ما هيأ الطير له ، وعلى أنه يقدر أن يجعل ذلك لغيره ، بقوله مؤكداً لأجل قصور بعض العقول عن التصديق بذلك ، وتضمن الإشراك للطعن في تمام الاقتدار المتضمن للطعن في تمام العلم : { إنه } أي الرحمن سبحانه { بكل شيء }{[67008]} قل أو كثر ، جليل وحقير ، ظاهر وباطن{[67009]} { بصير * } بالغ البصر والعلم بظواهر الأشياء وبواطنها ، فمهما أراد كان ، وهو يخلق العجائب ويوجد الغرائب ، فيهيىء من أراد من الآدميين وغيرهم لمثل{[67010]} ذلك .