السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ فَوۡقَهُمۡ صَـٰٓفَّـٰتٖ وَيَقۡبِضۡنَۚ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحۡمَٰنُۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءِۭ بَصِيرٌ} (19)

ولما ذكر تعالى ما تقدم من الوعيد ، ذكر البرهان على كمال قدرته بقوله تعالى : { أو لم يروا } أجمع القراء على القراءة بالغيب ، لأن السياق للرد على المكذبين ، بخلاف ما في النحل . وأشار إلى بعد الغاية بحرف النهاية فقال تعالى : { إلى الطير } وهو جمع طائر { فوقهم } أي : في الهواء ، وقوله تعالى : { صافات } أي : باسطات أجنحتهن ، يجوز أن يكون حالاً من الطير ، وأن يكون حالاً من فوقهم ، إذا جعلناه حالاً فتكون متداخلة . وفوقهم ظرف لصافات على الأول أو ليروا .

وقوله تعالى : { ويقبضن } عطفه الفعل على الاسم لأنه بمعناه ، أي : وقابضات ، فالفعل هنا مؤول بالاسم ، عكس قوله تعالى : { إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا } [ الحديد : 18 ] فإن الاسم هناك مؤول بالفعل ، وقال أبو حيان : وعطف الفعل على الاسم ، لما كان في معناه ، ومثله قوله تعالى : { فالمغيرات صبحاً 3 فأثرن } [ العاديات ، الآيات : 3 4 ] عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى : فاللاتي أغرن فأثرن ، ومثل هذا العطف فصيح وكذا عكسه ، إلا عند السهيلي فإنه قبيح ، وقال الزمخشري : { صافات } باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ؛ لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً { ويقبضن } ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن .

فإن قلت : لم قال : { ويقبضن } ولم يقل قابضات ؟ قلت : لأن أصل الطيران هو صف الأجنحة ، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها ، وأما القبض فطارئ على البسط ، للاستظهار به على التحرك . فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل ، على معنى أنهن صافات ، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ، كما يكون من السابح . اه .

وقال أبو جعفر النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحيه : صاف ، وإذا ضمهما فأصابا جنبيه : قابض ، لأنه يقبضهما . وقيل : ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها ، إذا أوقفن عن الطيران . { ما يمسكهن } أي : عن الوقوع في حال البسط والقبض { إلا الرحمن } أي : الملك الذي رحمته عامة لكل شيء ، بأن هيأهن بعد أن أفاض عليهن رحمة الإيجاد ، على أشكال مختلفة وخصائص مفترقة ، هيأهن للجري في الهواء . { إنه } أي : الرحمن سبحانه { بكل شيء بصير } أي : بالغ البصر والعلم بظواهر الأشياء وبواطنها ، فمهما أراد كان . والمعنى : أولم يستدلوا بثبوت الطير في الهواء ، على قدرتنا أن نفعل بهم ما تقدم وغيره من العذاب .