قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ } .
لما ذكر ما تقدم من الوعيد ، ذكر البرهان على كمال قدرته ، وعلى إيصال جميع أنواع العذاب إليهم ، ومعناه : كما ذلل الأرض للآدمي ، ذلل الهواء للطيور ، وصافاتٍ : أي : باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن .
قال شهاب الدين{[57430]} : «صافَّاتٍ » يجوز أن يكون حالاً من «الطَّير » ، وأن يكون حالاً من «فَوقَهُمْ » إذا جعلناه حالاً ، فتكون متداخلة ، و «فَوقَهُمْ » ظرف ل «صافَّاتٍ » أو ل «يَرَوا » .
قوله : «ويَقْبِضْنَ » عطف الفعل على الاسم ؛ لأنه بمعناه ، أي : وقابضات ، فالفعل هنا مؤول بالاسم عكس قوله : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] فإن الاسم هناك مؤول بالفعل ، وقد تقدم الاعتراض على ذلك .
وقول أبي البقاء{[57431]} : معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى ، أي : يصففن ويقبضن ، أي «صافَّاتٍ وقَابضاتٍ » لا حاجة إلى تقديره : يصففن ويقبضن ؛ لأن الموضع للاسم فلا نؤوله بالفعل .
قال أبو حيان{[57432]} : «وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه ، ومثله قوله تعالى : { فالمغيرات صُبْحاً فَأَثَرْنَ }[ العاديات : 3 - 4 ] ، ومثل هذا العطف فصيحٌ وكذا عكسه إلاَّ عند السُّهيلي ؛ فإنه قبيح ؛ نحو قوله : [ الرجز ]
4802 - بَاتَ يُغشِّيهَا بعَضْبٍ بَاتِر*** يَقْصِدُ فِي أسْوُقِهَا وجَائرِ{[57433]}
أي : قاصد في أسواقها وجائر » .
وكذا قال القرطبيُّ{[57434]} : هو معطوف على «صافَّاتٍ » عطف المضارع على اسم الفاعل ، كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر : «بَاتَ يُغشِّيها » البيت .
قال شهاب الدين{[57435]} : هو مثله في عطف الفعل على اسم الفاعل ، إلا أن الاسم فيه مؤولٌ بالفعل ، عكس هذه الآية ، ومفعول «يقبِضنَ » محذوف ، أي : ويقبضن أجنحتهن .
قاله أبو البقاء{[57436]} ، ولم يقدر ل «صَافَّاتٍ » مفعولاً ، كأنه زعم أن الاصطفاف في أنفسها ، والظاهر أن المعنى : صافات أجنحتها وقابضات ، فالصف والقبض منها لأجنحتها .
ولذلك قال الزمخشري{[57437]} : «صافَّاتٍ » باسطات أجنحتهن ، ثم قال : فإن قلت : لم قال : ويقبضن ، ولم يقل : «قابضات » ؟ .
قلت : لأن الطيران هو صف الأجنحة ؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها ، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل ، على معنى أنهن صافات ، يكون منهن القبض تارة بعد تارة ، كما يكون من السابح .
قوله : «مَا يُمسِكُهُنَّ » يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، وأن تكون حالاً من الضمير في «يَقْبِضنَ » قاله أبو البقاء{[57438]} . والأول أظهر .
وقرأ الزهريُّ{[57439]} : بتشديد السِّين .
قوله : «ويَقْبِضْنَ » . أي : يضربن بها لجنوبهن .
قال أبو جعفر النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحيه : صاف ، وإذا ضمها فأصاب جنبه قابض ، لأنه يقبضهما .
قال أبو خراش الشاعر : [ الطويل ]
4803 - يُبَادِرُ جُنْحَ اللَّيْلِ فهو مُوائِلٌ***يَحُثُّ الجَناحَ بالتَّبسُّطِ والقبْضِ
وقيل : ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران .
وقوله : «ما يُمسِكُهنَّ » أي : ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } .
قال ابن الخطيب{[57440]} : وفيه وجهان :
الأول : المراد من «البصير » كونه عالماً بالأشياء الدقيقة ، كما يقال : فلان له بصر في هذا الأمر ، أي : حذق .
والثاني : أن يجري اللفظ على ظاهره ، فتقول : { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } فيكون رائياً لنفسه ، ولجميع الموجودات ، وهذا الذي يقوله أصحابنا : إنه تعالى شيء يصح أن يكون مرئياً ، وأن كل الموجودات كذلك ، فإن قيل : البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم ، يقال : فلان بصير بكذا إذا كان عالماً ، قلنا : لا نسلم ، فإنه يقال : إن الله سميع بالمسموعات بصير بالمبصرات .
في قوله تعالى : { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن } دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى{[57441]} ، لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري له ، وقد نسبه للرحمن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.