اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ فَوۡقَهُمۡ صَـٰٓفَّـٰتٖ وَيَقۡبِضۡنَۚ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحۡمَٰنُۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءِۭ بَصِيرٌ} (19)

قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ } .

لما ذكر ما تقدم من الوعيد ، ذكر البرهان على كمال قدرته ، وعلى إيصال جميع أنواع العذاب إليهم ، ومعناه : كما ذلل الأرض للآدمي ، ذلل الهواء للطيور ، وصافاتٍ : أي : باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن .

قال شهاب الدين{[57430]} : «صافَّاتٍ » يجوز أن يكون حالاً من «الطَّير » ، وأن يكون حالاً من «فَوقَهُمْ » إذا جعلناه حالاً ، فتكون متداخلة ، و «فَوقَهُمْ » ظرف ل «صافَّاتٍ » أو ل «يَرَوا » .

قوله : «ويَقْبِضْنَ » عطف الفعل على الاسم ؛ لأنه بمعناه ، أي : وقابضات ، فالفعل هنا مؤول بالاسم عكس قوله : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] فإن الاسم هناك مؤول بالفعل ، وقد تقدم الاعتراض على ذلك .

وقول أبي البقاء{[57431]} : معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى ، أي : يصففن ويقبضن ، أي «صافَّاتٍ وقَابضاتٍ » لا حاجة إلى تقديره : يصففن ويقبضن ؛ لأن الموضع للاسم فلا نؤوله بالفعل .

قال أبو حيان{[57432]} : «وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه ، ومثله قوله تعالى : { فالمغيرات صُبْحاً فَأَثَرْنَ }[ العاديات : 3 - 4 ] ، ومثل هذا العطف فصيحٌ وكذا عكسه إلاَّ عند السُّهيلي ؛ فإنه قبيح ؛ نحو قوله : [ الرجز ]

4802 - بَاتَ يُغشِّيهَا بعَضْبٍ بَاتِر*** يَقْصِدُ فِي أسْوُقِهَا وجَائرِ{[57433]}

أي : قاصد في أسواقها وجائر » .

وكذا قال القرطبيُّ{[57434]} : هو معطوف على «صافَّاتٍ » عطف المضارع على اسم الفاعل ، كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر : «بَاتَ يُغشِّيها » البيت .

قال شهاب الدين{[57435]} : هو مثله في عطف الفعل على اسم الفاعل ، إلا أن الاسم فيه مؤولٌ بالفعل ، عكس هذه الآية ، ومفعول «يقبِضنَ » محذوف ، أي : ويقبضن أجنحتهن .

قاله أبو البقاء{[57436]} ، ولم يقدر ل «صَافَّاتٍ » مفعولاً ، كأنه زعم أن الاصطفاف في أنفسها ، والظاهر أن المعنى : صافات أجنحتها وقابضات ، فالصف والقبض منها لأجنحتها .

ولذلك قال الزمخشري{[57437]} : «صافَّاتٍ » باسطات أجنحتهن ، ثم قال : فإن قلت : لم قال : ويقبضن ، ولم يقل : «قابضات » ؟ .

قلت : لأن الطيران هو صف الأجنحة ؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها ، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل ، على معنى أنهن صافات ، يكون منهن القبض تارة بعد تارة ، كما يكون من السابح .

قوله : «مَا يُمسِكُهُنَّ » يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، وأن تكون حالاً من الضمير في «يَقْبِضنَ » قاله أبو البقاء{[57438]} . والأول أظهر .

وقرأ الزهريُّ{[57439]} : بتشديد السِّين .

فصل في معنى : يقبضن

قوله : «ويَقْبِضْنَ » . أي : يضربن بها لجنوبهن .

قال أبو جعفر النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحيه : صاف ، وإذا ضمها فأصاب جنبه قابض ، لأنه يقبضهما .

قال أبو خراش الشاعر : [ الطويل ]

4803 - يُبَادِرُ جُنْحَ اللَّيْلِ فهو مُوائِلٌ***يَحُثُّ الجَناحَ بالتَّبسُّطِ والقبْضِ

وقيل : ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران .

وقوله : «ما يُمسِكُهنَّ » أي : ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } .

قال ابن الخطيب{[57440]} : وفيه وجهان :

الأول : المراد من «البصير » كونه عالماً بالأشياء الدقيقة ، كما يقال : فلان له بصر في هذا الأمر ، أي : حذق .

والثاني : أن يجري اللفظ على ظاهره ، فتقول : { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } فيكون رائياً لنفسه ، ولجميع الموجودات ، وهذا الذي يقوله أصحابنا : إنه تعالى شيء يصح أن يكون مرئياً ، وأن كل الموجودات كذلك ، فإن قيل : البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم ، يقال : فلان بصير بكذا إذا كان عالماً ، قلنا : لا نسلم ، فإنه يقال : إن الله سميع بالمسموعات بصير بالمبصرات .

فصل

في قوله تعالى : { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن } دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى{[57441]} ، لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري له ، وقد نسبه للرحمن .


[57430]:ينظر: الدر المصون 6/345.
[57431]:ينظر الإملاء 2/266.
[57432]:ينظر: البحر المحيط 8/297.
[57433]:ينظر الخزانة 2/345 والعيني 4/174، والصبان 3/20، والقرطبي 18/142، والبحر المحيط 8/797، والدر المصون 6/346.
[57434]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/142.
[57435]:ينظر: الدر المصون 6/346.
[57436]:ينظر: الإملاء 2/266.
[57437]:ينظر: الكشاف 4/581.
[57438]:ينظر: الإملاء 2/266.
[57439]:ينظر: البحر المحيط 8/297، والدر المصون 6/346.
[57440]:ينظر: الفخر الرازي 30/63.
[57441]:ينظر السابق.