البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ فَوۡقَهُمۡ صَـٰٓفَّـٰتٖ وَيَقۡبِضۡنَۚ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحۡمَٰنُۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءِۭ بَصِيرٌ} (19)

ولما حذرهم ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب ، نبههم على الاعتبار بالطير وما أحكم من خلقها ، وعن عجز آلهتهم عن شيء من ذلك ، وناسب ذلك الاعتبار بالطير ، إذ قد تقدمه ذكر الحاصب ، وقد أهلك الله أصحاب الفيل بالطير والحاصب الذي رمتهم به ، ففيه إذكار قريش بهذه القصة ، وأنه تعالى لو شاء لأهلكهم بحاصب ترمي به الطير ، كما فعل بأصحاب الفيل .

{ صافات } : باسطة أجنحتها صافتها حتى كأنها ساكنة ، { ويقبضن } : ويضممن الأجنحة إلى جوانبهن ، وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى .

وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه ، ومثله قوله تعالى : { فالمغيرات صبحاً فأثرن } عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى : فاللاتي أغرن صبحاً فأثرن ، ومثل هذا العطف فصيح ، وعكسه أيضاً جائز إلا عند السهيلي فإنه قبيح ، نحو قوله :

بات يغشيها بغضب باتر *** يقصد في أسوقها وجائر

أي : قاصد في أسوقها وجائر .

وقال الزمخشري : { صافات } : باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ، لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً ، { ويقبضن } : ويضمنها إذا ضربن بها جنوبهن .

فإن قلت : لم قيل { ويقبضن } ، ولم يقل : وقابضات ؟ قلت : أصل الطيران هو صف الأجنحة ، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها .

وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ، كما يكون من السابح . انتهى .

وملخصه أن الغالب هو البسط ، فكأنه هو الثابت ، فعبر عنه بالاسم .

والقبض متجدد ، فعبر عنه بالفعل ب { ما يمسكهن إلا الرحمن } : أي بقدرته .

قال الزمخشري : وبما دبر لهن من القوادم والخوافي ، وبنى الأجسام على شكل وخصائص قد يأتي منها الجري في الجو { إنه بكل شيء بصير } : يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب .

انتهى ، وفيه نزوع إلى قول أهل الطبيعة .

ونحن نقول : إن أثقل الأشياء إذا أراد إمساكها في الهواء واستعلاءها إلى العرش كان ذلك ، وإذا أراد إنزال ما هو أخف سفلاً إلى منتهى ما ينزل كان ، وليس ذلك معذوقاً بشكل ، لا من ثقل ولا خفة .

وقرأ الجمهور : ما يمسكهن مخففاً .

والزهري مشدداً .