تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ فَوۡقَهُمۡ صَـٰٓفَّـٰتٖ وَيَقۡبِضۡنَۚ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحۡمَٰنُۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءِۭ بَصِيرٌ} (19)

الآية 19 وقوله تعالى : { أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن } قيل : { صافات } بأجنحتها لا يتحرك منها شيء { ويقبضن ما يمسكهن إلا } الله تعالى في الحالين جميعا ؟ أعني القبض والبسط ، كقوله{[21699]} في آية أخرى : { ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } [ النحل : 79 ] أي لآيات للمؤمنين على الكفرة .

وهكذا شأن الآيات : أنها جعلت آيات للمؤمنين والأولياء ، على الكفرة والأعداء ، لأن الكفرة تصل إليهم الآيات على ألسن الرسل والأنبياء والأولياء ، فجعلت الآيات آيات للمؤمنين ليحتجوا بها على أهل الكفر .

ثم الهواء ليس بمكان يمسك ما عليه من الأشياء ، مثل السماء والأرض في ما أنشئتا على حد يمسكان الأشياء ، وتقر عليهما الخلائق . وإذا كان كذلك فإن الله تعالى بلطفه أمسك الطير وقت طيرانها ، ووقت قبضها في الهواء . ومن قدر على إمساك الطير مع وقفه وتقريره في مكان ، لا تقر فيه الأشياء ، قادر على ما يشاء .

ثم في هذه الآية ، أن لله تعالى في أفعال الطير صنعا وتدبيرا على ما يشاء ، لأن الفعل الذي يوجد من الطائر ، الطيران إذا طار ، والوقوف إذا قبض ، ثم أضاف فعل الإمساك ، وكل ذلك إلى نفسه .

وذكر جعفر بن حرب في قوله : { ما يمسكهن إلا الله } [ النحل : 79 ] أن الإمساك كناية عن التعليم وعبارة عنه ، لأنه قد يعبر بالإمساك عن التعليم ؛ يقول الرجل لآخر في ما يعلمه الرماية : أمسكت على يده حتى رمى ، فيريد به أي توليت تعليمه الرماية . فقوله : { ما يمسكهن إلا الله } أي ما يعلم إمساكهن وقت الطيران إلا الله تعالى ، وكذلك وقت القبض .

والجواب عن هذا أن القائل يقول : أمسكت على يده حتى رمى ؛ إنما يستحب{[21700]} إطلاق اللفظ{[21701]} نفسه إذا وجد منه فعل الإمساك في وقت ما هم الرامي بالرمي ، وإذا لم يوجد منه في ذلك الوقت فعل الإمساك ، لم يستقم أن يقول : أمسكت على يده ، وإن كان هو الذي علمه الرمي .

ألا ترى أن من علم آخر الخياطة حتى اهتدى الخياطة ، إذا خاط ثوبا لم [ يستحب من ]{[21702]} أستاذه أن يقول : أنا الذي خطته ؟ وإن كان هو الذي علمه الخياطة ، وكذلك من بنى بناء ، لم يستقم من أستاذه أن يضيف فعل البناء إلى نفسه ، فيقول : أنا الذي بنيته ، ويريد به أنا الذي علمته ، وإذا لم يستقم هذا ، بطل أن يضاف فعل الإمساك إلى الله تعالى ، ولا فعل له في ذلك سوى التعليم .

فلو كانت الإضافة إليه من حيث التعليم ، لجاز أن ينسب إليه فعل الخياطة وفعل البناء والحياكة ، فيقال : خائط وبان وحائك ، لأنه هو الذي علم . فإذا بطل أن ينسب إليه ما ذكرنا من الأفعال ، وإن كان هو الذي علم الخلق ، بطل أن ينسب إليه فعل الإمساك ، من حيث التعليم ، والله الموفق .

واحتج جعفر بن حرب أيضا في نفي الفعل عن الله تعالى ، فقال : إن الله تعالى لم يقل : ما خلق طيرانهن إلا الله ، ولا خلق القبض إلا الله ، وإنما قال : { ما يمسكهن إلا الله } فثبت أن لا صنع له في الإمساك ، وبان أن الذي أضيف إليه من الإمساك هو على الوجه الذي ذكرنا .

فالجواب عن هذا ، أن الأمة فهمت من قوله تعالى : { ما يمسكهن إلا الله } ما يفهم من قوله : ما خلق طيرانهن وقبضهن إلا الله ؛ إذ هو يقضي ما يقتضيه ذكر الخلق . وإذا كان كذلك فلا فرق بين أن يضيف الخلق [ إلى ]{[21703]} نفسه ، وبين أن يضيف فعل الإمساك .

ثم لو ذكر الخلق مكان الإمساك ، أمكن جعفر أن يتأول في الخلق ما تأول في الإمساك ، فيقول : معنى قوله : خلق طيرانهن ، أي علّم طيرانهن ، وقوّاهن على الأسباب التي [ بها ]{[21704]} تطير ، فلا{[21705]} يتهيأ لله تعالى على قوله : أن يثبت لخلقه ، ويقرر عندهم خلق شيء من الأشياء .

ثم الأصل أن الآيات المذكورة في القرآن ، إنما ذكرت{[21706]} لإثبات أوجه خمسة :

أحدها : في تثبيت القدرة على البعث ، وهي لا تثبت القدرة ، ولا توجب القول بالبعث على قول المعتزلة ؛ وذلك أن الله تعالى احتج في تثبيت القدرة على البعث ، بقدرته على ابتداء الخلق ، فقال : { أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة }[ يس : 77 ] وقال : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } [ الروم : 27 ] فاحتج بالابتداء على الإعادة عندهم ، لأنهم نفوا خلق الأفعال عن الله تعالى ، مع إقرارهم أن الله تعالى ، هو الذي أنشأهم ، ولم يكن في إثبات القدرة على خلق الأعيان ، إثبات قدرة منه على خلق الأفعال ، وإن كان خلق الأفعال دون خلق الأنفس ، فكيف ذكر قدرته على ابتداء الخلق [ في أفعال العباد ]{[21707]} على تثبيت القدرة على الإعادة ، وإن كان أمر الإعادة أيسر من الابتداء ، مع أن آثار الخلق في أفعال العباد وإثبات التدبير فيها ، أوجد منه في أمر البعث ؛ وذلك أنك تجد من الأفعال ، أفعالا هي مؤذية لأهلها متعبة مؤلمة ؟ ومعلوم بأن قصد أربابها أن يتلذذوا ، ويتمتعوا بها ، فثبت أن لغيرهم تدبيرا وصنعا حتى صارت كذلك .

ولأنه يوجد في أفعالهم أحوال ، لا تبلغها أوهامهم ، ولا تقدرها عقولهم ، لأن الفعل يأخذ من الجو والمكان والوقت ، ما لا تقدره الأوهام ، ولا تبلغه العقول ، فثبت أن للغير فيه صنعا وتدبيرا .

ولأن فعله يخرج على قبيح وحسن لا يبلغ / 584- ب/ علم فاعله أنه يبلغ في الحسن والقبح ذلك المبلغ ، وينتهي في الحسن مبلغا ، لو أراد أن يخرج على ذلك الحد في المرة الثانية لم يخرج كذلك .

فكل ما ذكرنا يبين أن جميع أفعالهم على ما هي عليها ، ليست لهم ، ثم مع ذلك أنكروا أن تكون الأفعال من جهة الخلق لله تعالى ، ولم يظهر شيء من أمارات البعث ، ولا وجد فيه التدبير ، فصارت الكفرة في إنكارهم أمر البعث أعذر من المعتزلة في إنكارهم خلق الأفعال .

ولم يوجبوا{[21708]} القول بالقدرة على ابتداء الخلق قولا بالقدرة على إنشاء البعث والإعادة بعد الإفناء . فثبت أن ليس في الآيات التي جعلها الله تعالى دلالة إثبات البعث على قولهم .

والوجه الثاني : تثبيت الوحدانية ، وجعل دليل وحدانية توحده بخلق الأشياء وتفرده بإنشائها .

ألا ترى إلى قوله تعالى : { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه } [ الرعد : 16 ] وقوله{[21709]} : { وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق } ؟ [ المؤمنون : 91 ]

وعلى المعتزلة هو غير متوحد بخلق الأشياء ، بل أكثر خلق الأشياء كان بالعباد لا بالله تعالى . وإذا لم يوجد منه التوحيد والتفرد بخلق الأشياء ، ارتفع وجه الاستدلال من هذا الوجه على معرفة الصانع ، ووحدانية الرب .

وإذا كان كذلك ، لم تثبت وحدانية الله تعالى على قولهم من الوجه الذي جعله دليل الإثبات .

والوجه الثالث ، وهو أن الآيات ذكرت في إثبات حكمة الله تعالى ، وجعل دليل حكمته ، خلق السماوات والأرضين بما شاهدنا ، وغيرها{[21710]} من الأشياء . ونحن إنما عرفنا خلق السماوات والأرضين [ شاهدناها مجتمعة ]{[21711]} والاجتماع حادث فيها{[21712]} ، وما لا ينفك عن الحادث فهو حادث ، والحادث لا بد له من محدث ، ولولا ذلك لم نعرفه ، ولا يثبت لنا خلقها{[21713]} .

وعلى قول المعتزلة الجمع والتفريق لا يدل على الخلق ، لأن كل من له القوة ، يقدر على جمع الأشياء وتفريقها ، والاجتماع والتفريق فعل الجامع والمفرق لقولهم بالمتولدات ؛ فمن استحكمت قوته أمكنه جمع لأشياء القوية ، ومن ضعفت قوته جمع على قدر ما تنتهي إليه قوته .

وإذا كان كذلك لم يتبين عند الخلائق على قولهم أن الله تعالى ، هو الذي خلق السماوات والأرضين ؛ إذ خلقها{[21714]} لا يعرف إلا من الوجه الذي ذكرنا ، وذلك مما لا يجوز إلا بالله تعالى [ بوجهين :

أحدهما ]{[21715]} أن يكون الله تعالى أقدر ملكا من ملائكته ، وقواه على خلق السماوات والأرضين . وإذا كان كذلك لم يظهر بما ذكرنا أن الله تعالى هو الخالق لها{[21716]} ، فبطل أن يكون في خلق السماوات والأرضين ، وفي خلق سائر الأشياء دلالة حكمته وقدرته ووحدانيته ، وقد جعل الله تعالى خلقهما{[21717]} دلالة لهذه الأوجه التي ذكرناها .

والثاني : أنه جعل إتقان الأشياء وإحكامها علما لحكمته ، وقد يقع الإتقان والإحكام للأشياء لا به ، ثم لم يجعل الله لشيء مما أتقن وأحكم علما يتميز من بين ما أتقنه غيره وأحكمه ، فصار الإتقان والإحكام غير دال على حكمته ، بل صار دليلا على عجزه وضعفه حين{[21718]} لم يتهيأ له تمييز ما صار به متقنا وما بغيره صار كذلك .

ولأن الحكمة ، هي وضع الشيء في موضعه ، وتبيين ماله مما ليس له ، ومن قولهم أن الله تعالى أعطى الكافر قوة الإيمان ، ولم يبق في خزائنه ما جعل سببا يتوصل به إلى الإيمان إلا وقد أعطاه ، مع علمه أنه لا يؤمن به . وهذا من أعظم الجهل وأبين السفه في الشاهد ، لأن المرء إذا قام بسقي أرض ، وعمارتها بالكراب والثناء ، وألقى البذر فيها ، مع علمه أنها لا تنبت شيئا ، عدّ ذلك منه سفها وجهلا ، والسفيه لا يصلح أن يكون إلها حكيما ، وقال تعالى : { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا } [ الملك : 2 ] .

وعلى قول المعتزلة ، قد خلق غيره الحياة والموت جميعا ، لأن القتيل ميت بالاتفاق . ثم لا يجعل أهل الاعتزال لله تعالى في موته صنعا ، ويزعمون أنه مات قبل أجله ، فإذا قدر غيره على الإماتة ، ويقدر أيضا على الإحياء بالأسباب ، لأنه يسقي الأرض والزرع ، ويكون في سقيه إحياؤها ، فلم ينفرد هو بخلق الموت ولا بالحياة على قولهم ، بل يشركه غيره في خلق الأشياء ، فيبطل امتداحه على قولهم نفسه بأنه خالق الأشياء .

والوجه الرابع : أنه احتج بعلمه بأفعال الخلق بخلقه تلك الأفعال ، وذلك بقوله : { ألا يعلم من خلق } [ الملك : 14 ] وهم قد نفوا الخلق عن الأفعال ، وإذا انتفى لم يقع له بها علم ، وصارت الآيات التي فيها إثبات العلم لا تثبت علما على قولهم ، ويكون [ فيها كذب ]{[21719]} في الخبر . تعالى الله عن ذلك .

والوجه الخامس : أنه سمى نفسه محسنا منعما ، وأثبت إحسانه وإنعامه بآيات احتج بها على خلقه ؛ ما من نعمة أنعم بها [ على ]{[21720]} العباد إلا وقد كانوا مستوجبين على الله تعالى ، فيصير الله تعالى بإعطائهم ذلك قاضيا ما عليه من الحق بالنعمة . ومن قضى آخر حقا{[21721]} كان عليه ، لم يصر به منعما مفضلا ، وإنما صار قاضي حق ، فصارت الآيات التي فيها إثبات النعم غير مبينة على قولهم ، { سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا } [ الإسراء : 43 ] .

وقوله تعالى : { إنه بكل شيء بصير } أي بكل شيء ، لطف ، أو جل ، أو استتر ، أو ظهر ، أو اختلط بغيره ، أو تميز ، فهو بصير ؛ يبلغه إلى أجله الذي ضرب له ، ويأتيه بالرزق الذي قدر له ، أو بصير بأفعال الخلق ما كان ، وما يكون ، لأنه ذكره{[21722]} على إثر ذكر الأفعال ، وهو قوله : { وأسرّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور } { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخير } [ الآيتان : 13 و 14 ] .

ثم في قوله تعالى : { بكل شيء بصير } ترهيب وترغيب ، وإلزام المراقبة والتيقظ والتبصر ، وكذلك في قوله : { إن ربي على كل شيء حفيظ } [ هود : 57 ] وقوله{[21723]} : { وهو بكل شيء عليم } [ البقرة : 29 و . . . . ] لأن من علم أن عليه حافظا ورقيبا ، يعلم بكل شيء يتعاطاه ، فهو لا يتعاطى إلا المحمود من الفعال ، والمرضي عنها .


[21699]:في الأصل و م: وقال
[21700]:في الأصل و م: يستخبر
[21701]:أدرج بعدها في الأصل و م: من
[21702]:في الأصل و م: يستخبر.
[21703]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م
[21704]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م
[21705]:من نسخة الحرم المكي في الأصل وم: فلان
[21706]:من م في الأصل: ذكر
[21707]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم
[21708]:في الأصل و م: يوجب
[21709]:في الأصل و م: وقال.
[21710]:في الأصل و م: و غيرهما
[21711]:في الأصل و م: شاهدناهما مجتمعين.
[21712]:في الأصل و م: فيهما
[21713]:في الأصل و م: خلقهما
[21714]:في الأصل و م: خلقهما
[21715]:في الأصل و م: وجائز
[21716]:في الأصل و م: لهما
[21717]:في الأصل وم: خلقهما
[21718]:في الأصل و م: حيث
[21719]:في الأصل و م: و جائز
[21720]:ساقطة من الأصل و م
[21721]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: ما
[21722]:في الأصل و م: ذكر
[21723]:في الأصل و م: و