روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ فَوۡقَهُمۡ صَـٰٓفَّـٰتٖ وَيَقۡبِضۡنَۚ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحۡمَٰنُۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءِۭ بَصِيرٌ} (19)

{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } أغفلوا ولم ينظروا { إلى الطير فَوْقَهُمْ صافات } باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها فإنهن إذا بسطنها صففن قوادمها أعني ما تقدم من ريشها صفاً ونصب صافات على الحال من الطير أو من ضميرها في فوقهم وهو في موضع الحال فتكون الحال متداخلة وجوز أن يكون ظر فالصافات أو ليروا ومفعول صافات على الاحتمالات محذوف كما أشرنا إليه وناسب ذكر الاعتبار بالطير ذكر التوعد بالحاصب لاسيما إذا فسر بالحجارة إذ قد أهلك الله تعالى بذلك أصحاب الفيل حينما رمتهم به الطير ففي ذلك إذكار قريش بتلك القصة { وَيَقْبِضْنَ } ويضممن أجنحتهن إذا ضربن بها جنوبهن والعطف على صافات لأن المعنى يصففن ويقبضن أو صافات وقابضات وعطف الفعل على الاسم في مثله فصيح شائع وعكسه جائز حسن إلا عند السهيلي فإنه عنده قبيح نحو قوله

: بات يعيشها بعضب باتر *** يقصد في أسوقها وجائر

فإنه أراد قاصد وجائر ولما كان أصل الطيران هو صف الأجنحة لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل فيها مد الأطراف وبسطها وكان القبض طارئاً على البسط للاستظهار به على التحرك جيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل وبما هو أصل بلفظ الاسم على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ويتجدد حيناً إثر حين كما يكون من السابح { مَا يُمْسِكُهُنَّ } في الجو عند الصف والقبض على خلاف مقتضى طبيعة الأجسام الثقيلة من النزول إلى الأرض والانجذاب إليها { إِلاَّ الرحمن } الواسع رحمته كل شيء حيث برأهن عز وجل على أشكال وخصائص وألهمهن حركات قد تأتي منها الجري في الهواء والجملة مستأنفة أو حال من الضمير في يقبضن وقرأ الزهري ما يمسكهن بالتشديد { إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ } دقيق العلم فيعلم سبحانه وتعالى كيفية إبداع المبدعات وتدبير المصنوعات ومن هذا خلقه عز وجل للطير على وجه تأتي به جريه في الجو مع قدرته تعالى أن يجريه فيه بدون ذلك إلا أن الحكمة اقتضت ربط المسببات بأسبابها وليس فيما ذكرنا نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة لأن كون طبيعة الأجسام الثقيلة ما سمعت أمر محسوس لا ينكره إلا من كابر حسه ومثله كون الإمساك بالسبب السابق وكونه سبباً من آثار رحمته تعالى الواسعة وأبى ذلك أبو حيان توهماً منه أنه نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة وقال نحن نقول إن أثقل الأشياء إذا أراد الله سبحانه إمساكه في الهواء واستعلاءه إلى العرش كان ذلك وإذا أراد جل شأنه إنزال ما هو أخف سفلاً إلى منتهى ما ينزل كان أيضاً وليس ذلك لشكل أو ثقل أو خفة ونحن لا ننكر أن الله تعالى على كل شيء قدير وأنه سبحانه فعال لما يريد وأنه لا يتوقف فعله عز وجل على السبب عقلاً بيد أنا نقول أنه تعالى اقتضت حكمته في هذا العالم ذلك الربط وهو أمر عادي اختاره تعالى حكمة وتفضلاً ولو شاء جل وعلا غيره لكان كما شاء وتقديم بكل شيء على بصير للفاصلة أو للحصر رداً على من يزعم عدم شمول علمه تعالى شأنه .