ثياب سندس : ثياب من ديباج رقيق .
3- عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلّوا وأساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا .
ما أجمل نعيم الجنة ، وما أكمل هذا النعيم ، إن الثمار تقترب منهم ، والظلال قريبة منهم ، ويطاف عليهم بأواني الفضة وأكواب من فضة في صفاء الزجاج ، ويسقون الخمر ممزوجة بالزنجبيل في هناء السلسبيل ، ويطوف عليهم الغلمان الحسان كأنهم اللؤلؤ المنثور ، وأمامهم النعيم الكبير ، وفوق كل ما سبق تعلوهم ثياب من أنواع الحرير الرقيق وهو السندس ، والغليظ وهو الإستبرق ، في ألوان خضراء متميزة تتناسق مع النعيم والتكريم ، ويلبسون أساور من فضة يتحلّون بها ، وقد سبق أنهم يتحلّون بأساور الذهب واللؤلؤ ، أي أنهم يلبسون أساور الفضة حينا ، والذهب حينا ، واللؤلؤ حينا ، على التعاقب ، وأحيانا يجمعون بينها في وقت واحد .
وفي سورة الكهف قال تعالى : يحلّون فيها من أساور من ذهب . . . ( الكهف : 31 ) .
وفي سورة فاطر قال تعالى : يحلّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير . ( فاطر : 33 ) .
والمقصود أن الله جمّلهم بأحسن الثياب ، وأنواع الحرير الرقيق والغليظ ، وجمّلهم بأساور متعددة من الفضة والذهب واللؤلؤ ، وهناك تكريم معنوي أسمى وأعلى ، إنه تكريم إلهي ، حيث تأتيهم الأكواب بدون واسطة .
وسقاهم ربهم شرابا طهورا . أي : طاهرا لم تدنّسه الأيدي ، وليس بنجس كخمر الدنيا .
سقى هؤلاء الأبرار شرابا طهورا ، ومن طهره أنه لا يصير نجسا ، بل رشحا من أبدانهم كرشح المسك ، روي أن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا ، فإذا أكل سقى شرابا طهورا ، فيصير رشحا يخرج من جلده أطيب ريحا من المسك الأذخرv .
أي : طهّر بواطنهم من الحسد والحقد ، والغلّ والأذى ، وسائر الخلاق الرديئة .
روي عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه قال : إذا انتهى أهل الجنة إلى باب الجنة وجدوا هنالك عينين ، فكأنما ألهموا ذلك ، فشربوا من إحداهما ، فأذهب الله ما في بطونهم من أذى ، ثم اغتسلوا من الأخرى ، فجرت عليهم نضرة النعيم ، فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر وجمالهم الباطنvi .
السندس : نوع من الحرير الرقيق .
الإستبرق : نوع من الحرير الغليظ .
في هذه الآية الكريمة يصف الله تعالى ملبسَهم أنه من حريرٍ ناعم رقيقِ
هو السندس ، وحريرٍ غليظ هو الديباج ، ويلبسون الحليةَ من فضة وذهب كما جاء في آية أخرى في سورة فاطر : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } [ الكهف : 31 ] .
ثم ذكر شرابا آخر يُسقَونه يفوق النوعَين السابقين اللذَين مر أنهما يمزجان بالكافور والزنجبيل . فقال هنا : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } يطهُر شاربه ، ويتلذّذ به فيصبح في منتهى السعادة والسرور .
قرأ نافع وحمزة وابن محيصن : عليهم بإسكان الياء وكسر الهاء . وقرأ الباقون عاليهم بنصب الياء وضم الهاء . وقرأ ابن كثير وأبو بكر وابن محيصن ثياب سندس خضر بجر خضرٍ نعتاً لسندس ، ورفع إستبرق عطفا على ثياب . وقرأ نافع وحفص برفع خضر وإستبرق . وقرأ حمزة والكسائي بجر خضر وإستبرق .
{ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ } أي : قد جللتهم ثياب السندس والإستبرق الأخضران ، اللذان هما أجل أنواع الحرير ، فالسندس : ما غلظ من الديباج{[1313]} والإستبرق : ما رق منه . { وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ } أي : حلوا في أيديهم أساور الفضة ، ذكورهم وإناثهم ، وهذا وعد وعدهم الله ، وكان وعده مفعولا ، لأنه لا أصدق منه قيلا ولا حديثا .
وقوله : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } أي : لا كدر فيه بوجه من الوجوه ، مطهرا لما في بطونهم من كل أذى وقذى .
{ عاليهم } بسكون الياء مبتدأ خبره .
{ ثياب سندس } أي : ما يعلوهم من الثياب ثياب سندس ، وقرئ بالنصب على الحال ، من الضمير في يطوف عليهم أو في حسبتهم ، وقال ابن عطية : العامل فيه لقاهم أو جزاهم ، وقال أيضا يجوز أن ينتصب على الظرف لأن معناه فوقاهم ، وقد ذكرنا معنى السندس والإستبرق وقرئ . { خضر } بالخفض صفة لسندس وبالرفع صفة لثياب .
{ وإستبرق } بالرفع عطف على ثياب ، وبالخفض عطف على سندس .
{ وحلوا } وزنه فعلوا معناه : جعل لهم حلي .
{ أساور من فضة } ذكرنا الأساور في الكهف ، فإن قيل : كيف قال هنا أساور من فضة ، وفي موضع آخر أساور من ذهب ؟ فالجواب : أن ذلك يختلف باختلاف درجات أهل الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم : " جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهم " . فلعل الذهب للمقربين ، والفضة لأهل اليمين ويحتمل أن يكون أهل الجنة لهم أساور من فضة ومن ذهب معا .
{ شرابا طهورا } أي : ليس بنجس كخمر الدنيا ، وقيل : معناه أنه لم تعصره الأقدام ، وقيل : معناه لا يصير بولا .
ولما ذكر الدار وساكنيها من مخدوم وخدم ، ذكر لباسهم بانياً حالاً{[70698]} من الفاعل والمفعول : { عليهم } أي حال كون الخادم والمخدوم {[70699]}يعلو أجسامهم{[70700]} على سبيل الدوام ، وسكن نافع وحمزة الياء على أنه مبتدأ وخبر شارح للملك على سبيل الاستئناف { ثياب سندس } وهو ما رق من الحرير { خضر } رفعه الجماعة صفة لثياب ، وجره ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم صفة لسندس حملاً على المعنى فإنه اسم جنس { وإستبرق } وهو ما غلظ من الديباج يعمل بالذهب ، أو هو ثياب حرير صفاق نحو الديباج - قاله في القاموس{[70701]} ، رفعه ابن كثير ونافع وعاصم نسقاً على ثياب ، وجره الباقون على سندس .
ولما كان المقصود لأرباب اللباس الفاخر الحلية ، أخبر عن تحليتهم ، وبني الفعل للمفعول دلالة على تيسر ذلك لهم وسهولته عليهم فقال : { وحلّوا } أي وجدت تحلية المخدومين والخدم { أساور من فضة } وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب ، وتقدم سر تخصيص هذه السورة بالفضة والأساورة بجمع{[70702]} ما فيها من لذة الزينة لذة اتساع الملك فإنها كناية عنه فإنه - كما قال الملوي - كان في الزمن القديم-{[70703]} إذا ملك ملك أقاليم عظيمة كثيرة لبس سواراً وسمي الملك المسور لاتساع مملكته وعظمتها وكثرة أقاليمها ، وإن لم تجمع أقاليم لم يسور فما ظنك بمن أعطى من ذلك جمع الكثرة ، وهي بالغة من الأعضاء ما يبلغه التحجيل في الوضوء كما قال صلى الله عليه وسلم : " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " فلذا كان أبو هريرة رضي الله عنه يرفع الماء{[70704]} إلى المنكبين وإلى الساقين .
ولما كان ربما ظن بما تقدم من ذلك الممزوج شيء من نقص لأجله يمزج كما هو في الدنيا ، وكان قد قال أولاً { يشربون } بالبناء للفاعل ، وثانياً ( يسقون ) بالبناء للمفعول ، قال بانياً للفاعل بياناً لفضل ما يسقونه في نفسه وفي كونه من عند الإله الأعظم المتصف بغاية الإحسان على{[70705]} صفة من العظمة تليق بإحسانه سبحانه بما أفاده إسناد{[70706]} الفعل إليه : { وسقاهم } وعبر بصفة الإحسان تأكيداً لذلك{[70707]} فقال : { ربهم } أي الموجد لهم المحسن إليهم المدبر لمصالحهم { شراباً طهوراً * } أي ليس هو كشراب الدنيا سواء كان من الخمر أو من الماء أو{[70708]} من غيرهما ، بل هو بالغ الطهارة والوصف بالشرابية من العذوبة واللذة واللطافة ، وهو مع ذلك آلة للتطهير البالغ للغير فلا يبقى {[70709]}في بواطنهم{[70710]} غش ولا وسواس ، ولا يريدون إلا ما يرضي مليكهم مما أسس{[70711]} على غاية الحكمة وفاق كامل وسجايا مطهرة وأخلاق مصطفاة لا عوج فيها ، ولا يستحيل شيء من شرابهم إلى نجاسة من بول ولا غيره ، بل يصير رشحاً كرشح المسك ويعطي الرجل شهوة مائة رجل في الأكل وغيره ، فإذا أكل شرب فطهر باطنه ورشح منه المسك فعادت الشهوة ، بل الحديث يدل على أن شهوتهم لا تنقضي أصلاً فإنه قال :