ويتغير السياق من الحكاية عن حادث وقع إلى مواجهة وخطاب للمرأتين كأن الأمر حاضر :
( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما . وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير ) . .
وحين نتجاوز صدر الخطاب ، ودعوتهما إلى التوبة لتعود قلوبهما فتميل إلى الله ، فقد بعدت عنه بما كان منها . . حين نتجاوز هذه الدعوة إلى التوبة نجد حملة ضخمة هائلة وتهديدا رعيبا مخيفا . .
ومن هذه الحملة الضخمة الهائلة ندرك عمق الحادث وأثره في قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى احتاج الأمر إلى إعلان موالاة الله وجبريل وصالح المؤمنين . والملائكة بعد ذلك ظهير ! ليطيب خاطر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويحس بالطمأنينة والراحة من ذلك الأمر الخطير !
ولا بد أن الموقف في حس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وفي محيطه كان من الضخامة والعمق والتأثير إلى الحد الذي يتناسب مع هذه الحملة . ولعلنا ندرك حقيقته من هذا النص ومما جاء في الرواية على لسان الأنصاري صاحب عمر - رضي الله عنهما - وهو يسأله : جاءت غسان ? فيقول لا بل أعظم من ذلك وأطول . وغسان هي الدولة العربية الموالية للروم في الشام على حافة الجزيرة ، وهجومها إذ ذاك أمر خطير . ولكن الأمر الآخر في نفوس المسلمين كان أعظم وأطول ! فقد كانوا يرون أن استقرار هذا القلب الكبير ، وسلام هذا البيت الكريم أكبر من كل شأن . وأن اضطرابه وقلقه أخطر على الجماعة المسلمة من هجوم غسان عملاء الروم ! وهو تقدير يوحي بشتى الدلالات على نظرة أولئك الناس للأمور . وهو تقدير يلتقي بتقدير السماء للأمر ، فهو إذن صحيح قويم عميق .
صغت قلوبكما : مالت قلوبكما عن الحق ، وعدلت عما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم من تعظيم وإجلال .
وإن تظاهرا عليه : تتظاهرا وتتعاونا على إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم من تعظيم وإجلال .
ظهير : ظهراء معانون ، وأنصار مساعدون .
4- { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ }
تأتي هذه الآية لتوجيه عائشة وحفصة رضي الله عنهما ، إلى التوبة النصوح والتفرغ إلى ذكر الله وطاعته .
وقد جرت العادة بأنّ الشئون المنزلية تشغل بال الرجال وتضيّع زمنا من تفكيرهم فيها .
وتبين الآية أن قلبي عائشة وحفصة قد انشغلا بتدبير مؤامرة ، يترتب عليها أن يزهد النبي صلى الله عليه وسلم في بعض نسائه ، والنبي الكريم يربي أمة ، ويوجّه دعوة ، وينزل عليه الوحي ، ويبلّغ الوحي للناس ، ويقود الجيوش ، ويرسل السرايا ، وينظم شئون الأمة الإسلامية صباح مساء ، فينبغي أن يتوفّر له القدر الكافي من الهدوء النفسي والمعنوي .
لذلك حمل القرآن حملة قوية على عائشة وحفصة ، وذكّرهما أن قلوبهما قد مالت عن الانشغال بطاعة الله إلى عمل مؤامرة لتزهيد النبي صلى الله عليه وسلم في بعض نسائه .
إن تتوبا إلى الله تعالى مما بدر منكما ، فذلك حق واجب ، وخير كبير ، لأن قلوبكما قد انصرفت عن الإخلاص والحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحب ما يحبه ، وكراهة ما يكرهه ، إلى تدبير مؤامرة منكما ليكره بعض نسائه
وإن تتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بما يسوءه ، من الوقيعة بين بنيه وبين بعض نسائه ، فإن تعاونكما وتظاهركما عليه فاشل ضائع ، لأن هناك قوة عليا ، وجيوشا متعاونة ، تؤازر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتشد أزره .
فإن الله . مولاه وناصره ، وكفى به وليا ونصيرا .
وصالح المؤمنين . وأبو بكر وعمر ، والصالحون من المؤمنين نصراء له .
والملائكة بعد ذلك ظهيرا . والملائكة هم أعظم المخلوقات ، بمثابة جيش جرار ، يملأ القفار ، نُصْرة للنبي المختار ، فمن ذا الذي يستطيع أن يناوئ النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، والآية مسوقة لتعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم ، وبيان منزلته العالية ، وأن الدنيا كلها تسانده ، وأيضا للتأثير العاطفي على نسائه ، حتى يَكففن عن التآمر عليه ، وحتى يتفرغ كليا لأمر دعوة الإسلام .
وقد كان يكفي أن يقال : فإن الله هو مولاه . ومن وجد الله وجد كل شيء ، ومن فقد الله فقد كل شيء ، لكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يبين أن الكون كله معه ، فخالق الكون معه ، والكون كله معه .
وقد ثبت في الصحيح ما يفيد أن هذا الأمر شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واعتزل نساءه شهرا ، وأنّ ذلك شق على المسلمين ، وحزنوا لغضب النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه .
ودخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله ، ما يشقّ عليك من شأن النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل ، وأبو بكر وعمر معك ، فنزلت هذه الآية موافقة لقول عمر رضي الله عنه .
إذا تظاهرتما عليه فلن يضرّه ، لأن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ، والملائكة بعد ذلك ظهير .
صغت قلوبكما : مالت إلى ما يجب للرسول الكريم من تعظيم وإجلال .
وإن تظاهرا عليه : تتظاهرا وتتعاونا على إيذاء الرسول .
ثم وجّه تعالى الخطابَ إلى حفصةَ وعائشة مبالغةً في العتاب والتحذير فقال :
{ إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا }
إن ترجعا إلى الله بالتوبة عن مثلِ هذه الأعمال التي تؤذي النبيَّ فقد مالت قلوبُكما إلى الحقّ والخير .
ثم بيّن الله أنه حافظٌ لرسوله الأمين وحارسُه فلا يَضُرُّه أذى مخلوقٍ فقال :
{ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } .
إن تتعاونا يا عائشة وحفصة في العمل على ما يؤذي النبيَّ ويسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء السر ، فلن يضرّه ذلك شيئا ، فالله ناصرهُ وجبريلُ والمؤمنون الصالحون والملائكة كلّهم مظاهرون له ومعينون .
قرأ أهل الكوفة : تظاهرا بفتح التاء والظاء من غير تشديد . وقرأ الباقون : تظاهرا بفتح التاء والظاء المشددة .
قرأ حفص ونافع وأبو عمرو وابن عامر : جبريل بكسر الجيم والراء من غير همزة . وقرأ أبو بكر : جبرئيل بفتح الجيم والراء وهمزة قبل الياء .
{ إن تتوبا إلى الله } يعني عائشة وحفصة { فقد صغت قلوبكما } عدلت وزاغت عن الحق وذلك أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته { وإن تظاهرا عليه } تتعاونا على أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم { فإن الله هو مولاه } وليه وحافظه فلا يضره تظاهركما عليه وقوله { وصالح المؤمنين } قيل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وهو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم { والملائكة بعد ذلك ظهير } أي الملائكة بعد هؤلاء أعوان
ولما عرف من هذا أن المعاتب المنبئة ومن نباته ، وكان قد يكون عدداً{[66377]} أشار إلى أنه واحد فالمعاتب اثنتان ، وكانتا قد اتسعت قلوبهما لما يأتي من قبل الله من الرغائب بهذا العتاب على هذا الأمر الخفي جداً والكرم عليهما فيه بعدم الاستقصاء فمالت قلوبهما إلى المعالي وغاصت على جليل المعارف فصاغت من جواهر ذلك دقيق المعاني ، لفت إليهما الخطاب بلطيف العباد{[66378]} لشريف المتاب ، فقال تشريفاً آخر له صلى الله عليه وسلم بالإقبال على نسائه رضي الله تعالى عنهن بالعتاب لأجله قياماً عنه بما ربما أزعجه لو باشره حفظاً لخاطره الشريف مما قد يغره { إن تتوبا } أي يا عائشة ويا حفصة مما صنعته حفصة بالإفشاء وعائشة بالاحتيال على المنع من شرب العسل والتحليف على مارية { إلى الله } أي الملك الذي أحاط علمه فجلت قدرته ولطف بهما لأجله صلى الله عليه وسلم غاية اللطف في قوله : { فقد صغت } أي مالت وغاضت بما صاغت { قلوبكما } وفي جمع{[66379]} القلوب جمع كثرة تأكيد{[66380]} لما فهمته من ميل القلب بكثرة المعارف بما أفادهما إظهار هذا السر والعتاب عليه من الحياء ، فصارتا جديرتين بالمبادرة إلى التوبة متأهلتين لذلك غاية التأهل .
ولما أورد ما صارتا حقيقيتين{[66381]} به بأداة الشك إقامة للسامع بين الخوف والرجاء من ذلك وهو أعلم مما يكون أكمل ذلك بذكر شق الخوف ، فقال معلماً بأن{[66382]} الملك وأوليائه أنصار{[66383]} له { وإن تظاهرا } بالتشديد للإدغام في قراءة الجماعة لأن التظهر{[66384]} هنا إن وقع كان على وجه الخفاء في أعمال{[66385]} الحيلة في أمر مارية رضي الله عنها والعسل وما يأتي من مثل ذلك ما يبعث عليه الغيرة { عليه } أي النبي صلى الله عليه وسلم المنبأ من قبل الله {[66386]}بما يرفع قدره ويعلي ذكره ، وقراءة الكوفيين بالتخفيف بإسقاط إحدى التاءين إشارة إلى سهولة أمر هذه المظاهرة وقلة أذاها له صلى الله عليه وسلم .
ولما كان المعنى كأنه لا يبالي بمظاهرة كما عبر عنه بعلته ، فقال مؤكداً إعلاماً بأن حال المتظاهرين عليه حال المنكر لمضمون الكلام : { فإن الله } أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له { هو } أي بنفسه الأقدس وحضرة غيب غيبه التي لا يقوم لما لها من العظمة شيء { مولاه } أي ناصره والمتولي من أمره ما يتولاه القريب الصديق القادر{[66387]} وكل من له وعي يعلم كفايته سبحانه في ذلك فهو يعمل {[66388]}أبلغ ما يعمله{[66389]} مولى مع من{[66390]} هو متول لأمره{[66391]} وفي معاونته{[66392]} لنبيه صلى الله عليه وسلم إظهار لشرفه ومراعاة {[66393]}لحفظ خاطره{[66394]} وشرح{[66395]} لصدره .
ولما كانت النفوس لمبنى هذه الدار على حكمة الأسباب مؤكلة{[66396]} بها ناظرة أتم نظر إليها ، وكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة ما يتلى في بيوتهن{[66397]} من آيات الله والحكمة على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام وكثرة تردده إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتهن ويعلمهن قد صار عندهن بذلك من الأسباب الظاهرة المألوفة ، وكان هو أعظم أنصار النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وجبريل } لأنه من أعظم الأسباب التي يقيمها الله سبحانه .
ولما كان الحامل على مظاهرته صلى الله عليه وسلم على كل{[66398]} ما يريده الإيمان فكل{[66399]} ما كان الإنسان فيه أمكن كان{[66400]} له أشد مظاهرة وأعون قال : { وصالح المؤمنين } أي الراسخين في رتبة الإيمان والصلاح من الإنس والجن وأبواهما رضي الله عنهما أعظم مراد بهذا ، وقد روي أن عمر رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لو أمرتني لأضربن عنقها ، والصالح وإن كان لفظه مفرداً فمعناه الجمع المستغرق لأنه للجنس ، ودل على ذلك مع دلالة السياق إضافته للجمع ولعله عبر بالإفراد مع أن هذا المراد للإشارة إلى قلة المتصف بهذا{[66401]} جداً لقلة الراسخين في الإيمان وقلة الراسخين في الصلاح من الراسخين في الإيمان فهو قليل من قليل وقد{[66402]} جوز بعضهم أن يكون جمعاً وأنه حذفت واؤه في الرسم على خلاف القياس وهي محذوفة{[66403]} في الوصل لالتقاء{[66404]} الساكنين ، فظن لذلك مفرداً ودخل{[66405]} في ذلك جبريل عليه السلام أيضاً .
ولما كان الله سبحانه وتعالى قد أعطى الملائكة من القوى والتصرف في الظواهر . والبواطن ما يجل عن الوصف ، قال تعظيماً للمقام بعد تعظيمه بما ذكر من رئيس الكروبيين عليهم الصلاة والسلام { والملائكة } أي كلهم ومنهم جبريل عليهم الصلاة والسلام فهو مذكور خصوصاً وعموماً ثلاث مرات إظهاراً لشدة محبته وموالاته للنبي صلى الله عليه وسلم . ولما كان المراد التعميم في الزمان والمكان بعد التعميم في الصالحين من الملائكة والإنس والجان ، قال من غير جار معظماً لنصرة الملائكة لما لهم من العظمة في القلوب لما تقرر لمن باشر منهم العذاب تارة بالرجفة وأخرى بالصعقة{[66406]} وتارة بالخسف وأخرى بغير ذلك ، فكيف إذا تصور الآدمي المقيد بالمحسوسات اجتماعهم على ما لهم من الأشكال المهولة { بعد ذلك } أي الأمر العظيم الذي تقدم{[66407]} ذكره وهو مظاهرة الله ومن ذكر معه { ظهير * } أخبر عن الجمع باسم الجنس إشارة إلى أنهم على كلمة واحدة في المظاهرة ، فخوف بهذا{[66408]} كله لأجل المتاب لطفاً به صلى الله عليه وسلم وإظهاراً لعظمته وفي قصة صاحب ياسين قال { وما أنزلنا على قومه } الآية ، تحقيراً لقومه وإهانة لهم ، ويجوز أن يكون{[66409]} " ظهير " خبر جبريل عليه الصلاة والسلام ، وخبر ما بعده محذوف لدلالته عليه أي كذلك .
قوله : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } المراد بذلك حفصة وعائشة ، إذ يحثهما الله على التوبة مما كان منهما من ميل إلى خلاف ما يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله { فقد صغت قلوبكما } أي مالت أوزاغت عن الحق والاستقامة . فقد سرهما أن يحرم النبي على نفسه ما أحله له ، وهي أم ولده مارية القبطية أو اجتناب العسل .
قوله : { وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } يعني إن تتظاهرا و تتعاضدا على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء وإفشاء السر { فإن الله هو مولاه } أي ناصره ومؤيده فلا يصيبه شيء من تظاهركما وتعاونكما عليه . وكذلك يظاهره ويؤيده جبريل عظيم الملائكة ، والصالحون من المؤمنين { والملائكة بعد ذلك ظهير } أي أن الملائكة بعد تأييد الله له وتأييد جبريل وصالح المؤمنين أعوان له يظاهرونه ويؤيدونه .