وقرب نهاية الخط يجيء عيسى بن مريم :
ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم . .
أي على آثار السابقين من ذرية نوح وإبراهيم . فكانت الرسالة ممتدة واحدة على إثر واحدة حتى جاء عيسى ابن مريم .
ويذكر هنا صفة بارزة من صفات الذين اتبعوا عيسى بن مريم : ( وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ) . . وهم الثمرة الطبيعية لدعوة المسيح - عليه السلام - وروحها السمحة وتطهرها الروحي ، وشفافيتها الوضيئة والرأفة والرحمة ظاهرة واضحة في المؤمنين حقيقة برسالة عيسى عليه السلام ، ممن أحسنوا اتباعه . وقد أشارت إليها آيات أخرى في القرآن الكريم ، كما حفظ منها التاريخ صورا يرويها الرواة عن النجاشي وعن وفد نجران وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام ، بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق ، مذ كانوا أتباع عيسى بن مريم بحق .
كذلك يذكر النص هنا ظاهرة أخرى عرفت في تاريخ أتباع المسيح عيسى بن مريم : ( ورهبانية ابتدعوها - ما كتبناها عليهم - إلا ابتغاء رضوان الله ) . .
والراجح في تفسير الآية أن هذه الرهبانية التي عرفها تاريخ المسيحية كانت اختيارا من بعض أتباع عيسى عليه السلام ، ابتدعوها من عند أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، وابتعادا عن أوضار الحياة ، ولم يكتبها الله عليهم ابتداء . ولكنهم حين اختاروها وأوجبوها على أنفسهم صاروا مرتبطين أمام الله بأن يرعوا حقوقها ، ويحافظوا على مقتضياتها من تطهر وترفع ، وقناعة وعفة ، وذكر وعبادة . . مما يحقق في أنفسهم حقيقة التجرد لله ، التي قصدوا إليها بهذه الرهبانية التي ابتدعوها .
ولكنها انتهت إلى أن تصبح في الغالب طقوسا وشعائر خالية من الروح ، وأن يتخذها الكثيرون مظهرا عاريا من الحقيقة . فلا يصبر على تكاليفها إلا عدد منهم قليل :
( فما رعوها حق رعايتها . فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .
والله لا يأخذ الناس بالمظاهر والأشكال ، ولا بالطقوس والمسوح . إنما يأخذهم بالعمل والنية ، ويحاسبهم على حقيقة الشعور والسلوك . وهو الذي يعلم خبايا القلوب وذوات الصدور .
الإنجيل : الكتاب الذي أنزله الله على عيسى وفيه شريعته .
رأفة : دفع الشر باللطف واللّين .
ورحمة : جلب الخير والمودة والحسنى .
رهبانية : هي الانقطاع عن الناس للعبادة ، واتخاذ الصوامع في الجبال وغيرها ، والامتناع عن لذيذ الطعام والشراب ، واعتزال النساء ، والتعبد في الغيران والكهوف .
ابتدعوها : استحدثوها ولم تكن في دينهم .
إلا ابتغاء رضوان الله : استثناء منقطع ، أي : لكنّهم ابتدعوها بقصد مرضاة الله .
فما رعوها : لم يرعها الجميع ، ولم يحافظوا عليها .
فآتينا الذين آمنوا : آتينا الذين آمنوا بعيسى الإيمان الصحيح .
فاسقون : خارجون عن حال الاتباع .
27- { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
بعد نوح وإبراهيم أرسلنا رسلنا تترى ، رسولا بعد رسول ، كما ذكر القرآن الكريم جهاد الرسل وكفاحهم في دعوة أقوامهم إلى الإيمان ، وتحمّل الرسل الإيذاء ، وصبروا وصابروا حتى نصرهم الله .
وكان عيسى ابن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل ، وقد بشر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعطاه الله الإنجيل مشتملا على صيحات روحانية ، وسكب الله في قلوب أتباع عيسى ( الرأفة ) وهي الشفقة واللين ، و( الرحمة ) وهي التعاطف فيما بينهم ، كما قال سبحانه عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم : رحماء بينهم . ( الفتح : 29 ) .
وتعرض أبتاع عيسى للقتل والتعذيب ، فاختاروا طائعين ( الرهبانية ) وهي ترك الشهوات والنساء ولذائذ الطعام ، وهاجروا إلى الصوامع والأديرة في الصحراء ، متعبدين لله تعالى ، وما طلب الله منهم ذلك ، وما فرضه عليهم ، لكنهم نذروه والتزموا به أمام الله ، رغبة في رضوانه ومرضاته .
ثم تحولت الرهبانية بعد فترة إلى طقوس خالية من الروح ، والله لا ينظر إلى الصورة والشكل ، وإنما ينظر إلى القلب ، وما يسكن في الروح والفؤاد .
{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ . . . }
والاستثناء هنا منقطع ، والمعنى : ما كتبنا عليهم الرهبانية ، ولكنهم فعلوها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، ونلحظ إنصاف القرآن الكريم لأتباع عيسى ، حيث وصفهم بالرأفة والرحمة و والرهبانية ، والتقشّف رغبة في مرضاة الله .
ونجد مثل ذلك في القرآن الكريم ، والحديث الشريف ، كما حفظ التاريخ صورا يرويها بها الرواة عن النجاشي ، وعن وفد نجران ، وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق مُذ كانوا أتباع عيسى بن مريم بحق .
{ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا . . . }
فما حافظوا على هذه الرهبانية التي ألزموا أنفسهم بها ، ولم يستمروا في إخلاصهم وتجردهم ، ورغبتهم في مرضاتهم لربهم ، " بل أصبحت الرهبانية في الغالب طقوسا وشعائر خالية من الروح ، واتخذها الكثيرون مظهرا عاريا من الحقيقة ، ولم يصبر على تكاليفها إلا عدد قليل منهم " 25
{ فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
فأعطينا المؤمنين إيمانا صحيحا ثوابهم الذي يستحقونه بالإيمان ، وكثير من هؤلاء المترهبين ، فَاسِقُونَ . خارجون عن حدود الله وطاعته ، بأكلهم أموال الناس بالباطل ، وبسلوكهم المنحرف .
روى الحافظ أبو يعلى ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا تشدّدوا على أنفسكم ، فيشدّد عليكم ، فإن قوما شدّدوا على أنفسهم فشدِّد عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات " .
{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ . . . }
وروى الإمام أحمد ، عن إياس بن مالك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل نبي رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل " 26
وقد أورد الحافظ ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة في تفسير هذه الآية ، وكذلك ابن جرير الطبري والقرطبي ، وهي تفيد أن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة ، وأن ثلاث فرق من أتباع عيسى عليه السلام التزموا بالحق وأتباع الدين الحق .
الفرقة الأولى : قاتلت الجبابرة ، فقُتلت وصبرت ونجت .
الفرقة الثانية : لم تكن لها قوة بالقتال ، فقامت بين الملوك والجبابرة ، فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقتلت وقطّعت بالمناشير ، وحرّقت بالنيران ، فصبرت ونجت .
الفرقة الثالثة : لم تكن لها قوة ، ولم تطق القيام بالقسط ، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت ، وهم الذين ذكر الله تعالى : وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ . . .
أخرجه ابن أبي حاتم ، ورواه ابن جرير بطريق أخرى ولفظ آخر .
وأخرج الإمام أحمد أن أبا سعيد الخدري قال : يا رسول الله ، أوصني ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء ، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام ، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض " 27
ثم قفّينا على آثارهم : ثم أرسلنا بعدهم الواحدَ تلو الآخر .
الرهبانية : الطريقة التي يتبعها قُسُس النصارى ورهبانهم .
ابتدعوها : استحدثوها من عند أنفسِهم .
فما رَعَوْها : فما حافظوا عليها .
بعثنا بعدَهم رسولاً بعد رسول على توالي العصور والأيام ، حتى انتهى الأمر إلى عيسى عليه السلام وأعطيناه الإنجيلَ الّذي أوحيناه إليه ، وأودعنا في قلوب المتّبعين له رأفةً ورحمة . وبعد ذلك كله ابتدعوا رهبانيةً وغُلواً في العبادة
ما فرضناها عليهم ، ولكن التزموهما ابتغاء رضوان الله تعالى ، فما حافظوا عليهما حقَّ المحافظة . فآتينا الذين آمنوا منهم إيماناً صحيحاً أجورَهم التي استحقّوها . أما كثير منهم فقد خرجوا عن أمر الله ، واجترموا الشرور والآثام ، فلهم عذابٌ عظيم .
وقوله { ورهبانية ابتدعوها } أي ابتدعوا من قبل أنفسهم رهبانية أي الترهب في الصوامع { ما كتبناها عليهم } ما أمرناهم بها { إلا ابتغاء رضوان الله } لكنهم ابتغوا بتلك الرهبانية رضوان الله { فما رعوها حق رعايتها } أي قصروا في تلك
28 29 الرهبانية حين لم يؤمنوا بمحمد عليه السلام { فآتينا الذين آمنوا منهم } بمحمد عليه السلام { أجرهم وكثير منهم فاسقون } وهم الذين لم يؤمنوا به
{ ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون }
{ ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيس ابن وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةٌ ورحمة ورهبانية } هي رفض النساء واتخاذ الصوامع { ابتدعوها } من قبل أنفسهم { ما كتبناها عليهم } ما أمرناهم بها { إلا } لكن فعلوها { ابتغاء رضوان } مرضاة { الله فما رعوْها حق رعايتها } إذ تركها كثير منهم وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملكهم وبقي على دين عيسى كثير منهم فآمنوا بنبينا { فآتينا الذين آمنوا } به { منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون } .