بهذا ينتهي مشهد الحساب الرهيب بهوله وشدته ؛ ولكن المشهد كله لا ينتهي ، بل يكشف السياق عن جانب منه مخيف :
( يوم نقول لجهنم : هل امتلأت : وتقول : هل من مزيد ? ) .
إن المشهد كله مشهد حوار . فتعرض جهنم فيه في معرض الحوار وبهذا السؤال والجواب يتجلى مشهد عجيب رهيب . . هذا هو كل كفار عنيد . مناع للخير معتد مريب . . هؤلاء هم كثرة تقذف في جهنم تباعا ، وتتكدس ركاما . ثم تنادى جهنم : ( هل امتلأت ? )واكتفيت ! ولكنها تتلمظ وتتحرق ، وتقول في كظة الأكول النهم : ( هل من مزيد ? ! ) . . فيا للهول الرعيب !
30- { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد } .
تأتي جهنم يوم القيامة تتلمظ غيظا وغضبا على من عصى الله تعالى ، ويوضع فيها الكفار والعصاة ، وكلما وضع فيها اتسعت وطلبت الزيادة من العصاة ، غيظا عليهم ، وتضييقا للمكان عليهم ، حتى يضع عليها رحمته ، فتقول : كفاني كفاني ، فقد امتلأت .
وعلى هذا يكون الاستفهام الأول للتقرير ، فالله يقررها بأنها امتلأت ، أي يجعلها تقر بذلك ، واستفهام جهنم : { هل من مزيد } . للنفي ، بمعنى : هل بقي في مزيد ؟ أي لا أسع غير ذلك ، وهو جواب الاستفهام الأول .
وتحتمل الآية معنى ثانيا وهو أنها تطلب الزيادة على من قد صار فيها ، وأنها لا تشبع من الكفار .
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
سؤال جهنم وجوابها من باب التخييل والتصوير ، الذي يقصد به تقرير وتصوير المعنى في النفس وتثبيته ، وفيه معنيان :
أحدهما : أنها تمتلئ مع اتساعها ، حتى لا يزاد عليها شيء .
الثاني : أنها من السعة حيث يدخلها من يدخلها ، وفيها مواضع للمزيد . اه .
وقال الشوكاني : وهذا الكلام على طريقة التخييل والتمثيل ، ولا سؤال ولا جواب ، كذا قيل . والأولى أنه على طريقة التحقيق ، ولا يمنع من ذلك عقل ولا شرع . اه .
وقال الواحدي : أراها الله تصديق قوله تعالى :
{ لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } . ( هود : 119 ) .
فلما امتلأت ، قال لها : { هل امتلأت } ؟ وتقول هي : { هل من مزيد } ؟
أي : قد امتلأت ولم يبق فيّ موضع لم يمتلئ .
أخرج البخاري ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يلقي في النار ، وتقول : { هل من مزيد } ؟ حتى يضع قدمه فيها : فتقول قط قط ، أي : كفى كفى ) .
وفي رواية قطني قطني ، أي : كفاني كفاني11 .
وأخرج مسلم في صحيحه ، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( احتجت الجنة والنار ، فقالت النار : في الجبارون والمتكبرون ، وقالت الجنة : في ضعفاء الناس ومساكينهم ، فقضي بينهما ، فقال للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها )12 .
{ 30-35 } { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }
يقول تعالى ، مخوفًا لعباده : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ } وذلك من كثرة ما ألقي فيها ، { وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } أي : لا تزال تطلب الزيادة ، من المجرمين العاصين ، غضبًا لربها ، وغيظًا على الكافرين .
وقد وعدها الله ملأها ، كما قال تعالى { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } حتى يضع رب العزة عليها قدمه الكريمة المنزهة عن التشبيه ، فينزوي بعضها على بعض ، وتقول : قط قط ، قد اكتفيت وامتلأت .
ولما كان هذا التقاول مما يهول أمره ويقلع القلوب ذكره ، صور وقته بصورة تزيد في ذلك الهول ، وينقطع دون وصفها القول ، ولا يطمع في الخلاص منها بقوة ولا حول ، فقال ما معناه : يكون-{[61218]} هذا كله { يوم } ولما كان المقصود الإعلام بأن النار كبيرة مع ضيقها ، فهي تسع من الخلائق ما لا يقع{[61219]} تحت حصر ، وأنها مع كراهتها لمن يصلاها وتجهمها لهم تحب تهافتهم فيها وجلبهم{[61220]} إليها عبر عنه على طريق الكناية بقوله : { نقول } أي على ما لنا من العظمة التي لا-{[61221]} يسوغ لشيء{[61222]} أن يخفى عنها { لجهنم } دار العذاب مع الكراهة والعبوسة والتجهم إظهاراً للهول بتصوير الأمر المهدد به ، وتقريع الكفار ، وتنبيه من يسمع هذا الخبر عن هذا السؤال من الغفلة : { هل امتلأت } فصدق قولنا
{ لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين }[ هود : 119 ] وذلك بعد أن يلقى فيها من الخلائق ما لا يحيط به الوصف ، فتقول : لا ، { وتقول } طاعة لله ومحبة في عذاب أعدائه وإخباراً بأنها لم تمتلىء لأن النار من شأنها أنها كلما زيدت حطباً زادت لهباً : { هل من مزيد * } أي زيادة أو شيء من العصاة إزادة ، سواء {[61223]}كان كثيراً أو قليلاً{[61224]} ، فإني أسع ما يؤتى به إليّ ولا تزال كذلك كما ورد في الحديث " لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع الجبار فيها قدمه " أي يضربها من جبروته بسوط إهانة فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط وعزتك ، ثم يستمرون بين دولتي الحر والزمهرير ، وقد جعل الله سبحانه لذلك آية في هذه الدار باختلاف الزمان في الحر والبرد ، فإذا أفرط الحر جاءت رحمته تعالى بالبرد وبالماء من السماء فامتزجا معاً فكان التوسط ، وإذا أفرط البرد جاءت رحمته-{[61225]} بالحر بواسطة الشمس ، فامتزج الموجدان ، فكان له توسط ، وكل ذلك له-{[61226]} دوائر موزونة بأقساط مقسطة معلومة بتقدير العزيز العليم - ذكر ذلك ابن برجان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.