ومع النهي عن مشية المرح ، بيان للمشية المعتدلة القاصدة : واقصد في مشيك . . والقصد هنا من الاقتصاد وعدم الإسراف . وعدم إضاعة الطاقة في التبختر والتثني والاختيال . ومن القصد كذلك . لأن المشية القاصدة إلى هدف ، لا تتلكأ ولا تتخايل ولا تتبختر ، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق .
والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته . وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيء الأدب ، أو شاك في قيمة قوله ، أو قيمة شخصه ؛ يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق !
والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة بشعة حين يعقب عليه بقوله : ( إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) . . فيرتسم مشهد مضحك يدعو إلى الهزء والسخرية ، مع النفور والبشاعة . ولا يكاد ذو حس يتصور هذا المشهد المضحك من وراء التعبير المبدع ، ثم يحاول . . شيئا من صوت هذا الحمير . . !
وهكذ تنتهي الجولة الثانية ، بعدما عالجت القضية الأولى ، بهذا التنويع في العرض ، والتجديد في الأسلوب .
{ واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير . . . }
أي امش مشيا وسطا بين ليس مثل دبيب المتماوتين ولا مثل سرعة المفرطين بل سيرا مقتصدا معتدلا والقصد : الاعتدال .
{ واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير . . . } أي : اخفض من صوتك واجعله قصدا ولا ترفعه إذا تكلمت فالصوت الهادئ أوقر للمتكلم وابسط لنفس السامع وفهمه وإن أقبح ما يستنكر من الأصوات ويستكره منها صوت الحمير .
وهذا تعبير بالصورة حيث لفت الأنظار إلى صورة الحمار عند نهيقه تحذيرا من رفع الصوت حتى لا يتنبه صاحبه بالحمار وهي صورة للتحذير والتنفير من رفع الصوت وقد استشهد الحافظ ابن كثير بحديث النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا " x ثم قال ابن كثير وقد أخرجه بقية الجماعة سوى ابن ماجة وفي بعض الألفاظ : " بالليل " فالله أعلم .
وساق ابن كثير في تفسيره طائفة من حكم لقمان مثل : إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك .
ثم ساق فصلا في الخمول والتواضع وفصلا آخر في ذم الشهرة أو الاشتهار بين الناس بالبدعة أو الفسوق ثم فصلا في حسن الخلق ثم فصلا في ذم الكبر وفصلا في ذم الاختيال .
وكلها تتلاقى على رسم صورة للمؤمن الموصول قلبه بالله فهو متواضع ملتزم بمكارم الأخلاق بعيد عن التكبر والتجبر يفر من البدعة والخروج عن الصراط المستقيم وهو ملتزم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في رحمته وتواضعه ومراقبته لله وبعده عن التكبر والتجبر وهذا الوصايا النافعة في سورة لقمان ورد نظير لها في سورة الإسراء وأيضا ورد وصف عباد الرحمان في سورة الفرقان ومجموع هذه الوصايا التي وردت في الآيات 22-39 ، من سورة الإسراء وفي الآيات 63-77 ، من سورة الفرقان وفي الآيات 12-19 ، من سورة لقمان هذه المواطن الثلاثة في القرآن الكريم تكون نموذجا مثاليا لمكارم الأخلاق في القرآن الكريم كما ورد في السنة المطهرة طائفة من الأحاديث النبوية الصحيحة تحث المسلمين على التمسك بروح هذا الدين مثل التكافل والتراحم والتعاون والبعد عن الخصام والسخرية والاستهزاء وتطفيف الكيل والميزان والزنا والربا والغرور وأكل أموال الناس بالباطل .
أي أن القرآن والسنة يتلاقيان في الحث على مكارم الأخلاق ويحذران من الكبائر والرذائل .
قال صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثت لأنعم مكارم الأخلاق " . xi
قال صلى الله عليه وسلم : " أن أحبكم إلي وأقربكم مني منازل يوم القيامة ، أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني منازل يوم القيامة الثرثارون المتشدقون المتفيهقون قيل يا رسول الله هؤلاء الثرثارون المتشدقون فما المتفيهقون ؟ قال " المتكبرون " . xii
{ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أي : امش متواضعا مستكينا ، لا مَشْيَ البطر والتكبر ، ولا مشي التماوت .
{ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } أدبا مع الناس ومع اللّه ، { إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ } أي أفظعها وأبشعها { لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة ، لما اختص بذلك الحمار ، الذي قد علمت خسته وبلادته .
وهذه الوصايا ، التي وصى بها لقمان لابنه ، تجمع أمهات الحكم ، وتستلزم ما لم يذكر منها ، وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها ، إن كانت أمرا ، وإلى تركها إن كانت نهيا .
وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة ، أنها العلم بالأحكام ، وحِكَمِها ومناسباتها ، فأمره بأصل الدين ، وهو التوحيد ، ونهاه عن الشرك ، وبيَّن له الموجب لتركه ، وأمره ببر الوالدين ، وبين له السبب الموجب لبرهما ، وأمره بشكره وشكرهما ، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما ، ما لم يأمرا بمعصية ، ومع ذلك فلا يعقهما ، بل يحسن إليهما ، وإن كان لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك . وأمره بمراقبة اللّه ، وخوَّفه القدوم عليه ، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر ، إلا أتى بها .
ونهاه عن التكبر ، وأمره بالتواضع ، ونهاه عن البطر والأشر ، والمرح ، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات ، ونهاه عن ضد ذلك .
وأمره بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الصلاة ، وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر ، كما قال تعالى : فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا ، أن يكون مخصوصا بالحكمة ، مشهورا بها . ولهذا من منة اللّه عليه وعلى سائر عباده ، أن قص عليهم من حكمته ، ما يكون لهم به أسوة حسنة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.