ثم يكشف عن صفة تحمل معنى العلة لكفر الكافرين بنعمة الله التي يحملها رسوله الكريم :
( الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ) . . ( ويصدون عن سبيل الله ، ويبغونها عوجا ، أولئك في ضلال بعيد ) . .
فاستحباب الحياة الدنيا على الآخرة يصطدم بتكاليف الإيمان ؛ ويتعارض مع الاستقامة على الصراط . وليس الأمر كذلك حين تستحب الآخرة ، لأنه عندئذ تصلح الدنيا ، ويصبح المتاع بها معتدلا ، ويراعى فيه وجه الله . فلا يقع التعارض بين استحباب الآخرة ومتاع هذه الحياة .
إن الذين يوجهون قلوبهم للآخرة ، لا يخسرون متاع الحياة الدنيا - كما يقوم في الأخيلة المنحرفة . فصلاح الآخرة في الإسلام يقتضي صلاح هذه الدنيا . والإيمان بالله يقتضي حسن الخلافة في الأرض . وحسن الخلافة في الأرض هو استعمارها والتمتع بطيباتها . إنه لا تعطيل للحياة في الإسلام انتظارا للآخرة ، ولكن تعمير للحياة بالحق والعدل والاستقامة ابتغاء رضوان الله ، وتمهيدا للآخرة . . هذا هو الإسلام .
فأما الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، فلا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم من الاستئثار بخيرات الأرض ، ومن الكسب الحرام ، ومن استغلال الناس وغشهم واستعبادهم . . لا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم هذه في نور الإيمان بالله ، وفي ظل الاستقامة على هداه . ومن ثم يصدون عن سبيل الله . يصدون أنفسهم ويصدون الناس ، ويبغونها عوجا لا استقامة فيها ولا عدالة . وحين يفلحون في صد أنفسهم وصد غيرهم عن سبيل الله ، وحين يتخلصون من استقامة سبيله وعدالتها ، فعندئذ فقط يملكون أن يظلموا وأن يطغوا وأن يغشوا وأن يخدعوا وأن يغروا الناس بالفساد ، فيتم لهم الحصول على ما يبغونه من الاستئثار بخيرات الأرض ، والكسب الحرام ، والمتاع المرذول ، والكبرياء في الأرض ، وتعبيد الناس بلا مقاومة ولا استنكار .
إن منهج الإيمان ضمانة للحياة وضمانة للأحياء من أثرة الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، واستئثارهم بخيرات هذه الحياة .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يَسْتَحِبّونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الاَخِرَةِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلََئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : الّذِينَ يَسْتَحِبّونَ الحَياةَ الدّنْيا على الاَخرَةِ ، الذين يختارون الحياة الدنيا ومتاعهم ومعاصيَ الله فيها على طاعة الله وما يقربهم إلى رضاه من الأعمال النافعة في الاَخرة . وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ يقول : ويمنعون من أراد الإيمان بالله واتباع رسوله على ما جاء به من عند الله من الإيمان به واتباعه . وَيَبْغُونَها عِوَجا يقول : ويلتمسون سبيل الله ، وهي دينه الذي ابتعث به رسوله . عوجا : تحريفا وتبديلاً بالكذب والزور . «والعِوَج » بكسر العين وفتح الواو في الدين والأرض وكلّ ما لم يكن قائما ، فأما في كل ما كان قائما كالحائط والرمح والسنّ فإنه يقال بفتح العين والواو جميعا «عَوَج » يقول الله عزّ ذكره : أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ يعني : هؤلاء الكافرين الذي يستحبون الحياة الدنيا على الاَخرة ، يقول : هم في ذهاب عن الحقّ بعيد ، وأخذ على غير هدى ، وجَوْر عن قصد السبيل .
وقد اختلف أهل العربية في وجه دخول «على » في قوله : على الاَخِرَةِ فكان بعض نحوييّ البصرة يقول : أوصل الفَعَل ب «على » ، كما قيل : ضربوه في السيف ، يريد بالسيف ، وذلك أن هذه الحروف يوصل بها كلها وتحذف ، نحو قول العرب : نزلت زيدا ، ومررت زيدا ، يريدون : مررت به ، ونزلت عليه . وقال بعضهم : إنما أدخل ذلك ، لأن الفعل يؤدّي عن معناه من الأفعال ، ففي قوله : يَسْتَحبّونَ الحَياةَ الدّنيْا على الاَخِرَةِ ولذلك أدخلت «على » . وقد بيّنت هذا ونظائره في غير موضع من الكتاب بما أغنى عن الإعادة .
{ يستحبون } بمعنى يحبون ، فالسين والتاء للتأكيد مثل استقدم واستأخر . وضمن { يستحبون } معنى يؤثرون ، لأن المحبة تعدّت إلى الحياة الدنيا عقب ذكر العذاب الشديد لهم ، فأنبأ ذلك أنهم يحبون خير الدنيا دون خير الآخرة إذ كان في الآخرة في شقاء ، فنشأ من هذا معنى الإيثار ، فضُمّنه فعُدّي إلى مفعول آخر بواسطة حرف { على } في قوله : { على الآخرة } أي يؤثرونها عليها .
وقوله : { ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً } تقدم نظيره في قوله : { أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً } في سورة الأعراف ( 45 ) ، وعند قوله تعالى : { يا أهل الكتاب لِم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء } في سورة آل عمران ( 99 ) ، فانظره هنالك .
والصدّ عن سبيل الله : منع الداخلين في الإسلام من الدخول فيه . شبه ذلك بمن يمنع المارّ من سلوك الطريق . وجعل الطريق طريقَ الله لأنه موصل إلى مرضاته فكأنه موصل إليه ، أو يصدّون أنفسهم عن سبيل الله لأنهم عطلوا مواهبهم ومداركهم من تدبر آيات القرآن ، فكأنهم صدّوها عن السير في سبيل الله ويبغون السبيل العَوجاء ، فعلم أن سبيل الله مستقيم ، قال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } [ سورة الأنعام : 153 ] .
والإشارة في قوله : { أولئك في ضلال بعيد } [ سورة إبراهيم : 3 ] للتنبيه على أنهم أحرياء بما وصفوا به من الضلال بسبب صدّهم عن سبيل الحق وابتغائهم سبيل الباطل ، { فأولئك } في محل مبتدأ و { في ضلال بعيد } خبر عنه . ودلّ حرف الظرفية على أن الضلال محيط بهم فهم متمكنون منه .
ووصف الضلال بالبعيد يجوز أن يكون على وجه المجاز العقلي ، وإنما البعيد هم الضالّون ، أي ضلالاً بعدوا به عن الحق فأسند البعد إلى سببه .
ويجوز أن يراد وصفه بالبعد على تشبيهه بالطريق الشاسعة التي يتعذر رجوع سالكها ، أي ضلال قوي يعسر إقلاع صاحبه عنه . ففيه استبعاد لاهتداء أمثالهم كقوله : { ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد } [ سورة الشورى : 18 ] وقوله : { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } [ سورة سبأ : 8 ] . وتقدم في قوله : { ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً } في سورة النساء ( 116 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عنهم، فقال تعالى: {الذين يستحبون الحياة الدنيا} الفانية، {على الآخرة} الباقية، {ويصدون عن سبيل الله}، يعني عن دين الإسلام، {ويبغونها عوجا}، يعني سبيل الله عوجا، يقول: ويريدون بملة الإسلام زيغا، وهو الميل، {أولئك في ضلال بعيد}، يعني في خسران طويل، وذلك أن رؤوس كفار مكة كانوا ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وعن اتباع دينه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله:"الّذِينَ يَسْتَحِبّونَ الحَياةَ الدّنْيا على الآخرَةِ"، الذين يختارون الحياة الدنيا ومتاعها ومعاصيَ الله فيها على طاعة الله وما يقربهم إلى رضاه من الأعمال النافعة في الآخرة. "وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ "يقول: ويمنعون من أراد الإيمان بالله واتباع رسوله على ما جاء به من عند الله من الإيمان به واتباعه. "وَيَبْغُونَها عِوَجا "يقول: ويلتمسون سبيل الله، وهي دينه الذي ابتعث به رسوله "عوجا": تحريفا وتبديلاً بالكذب والزور... يقول الله عزّ ذكره: "أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ" يعني: هؤلاء الكافرين الذي يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، يقول: هم في ذهاب عن الحقّ بعيد، وأخذ على غير هدى، وجَوْر عن قصد السبيل...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} وصف أولئك الذين ذكر أن فيهم الويل؛ من هم؟ فقال: {الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} أي آثروا، واختاروا الحياة الدنيا على الآخرة، أي رضوا بها، واطمأنوا بها... اختاروا الحياة الدنيا للدنيا، لم يختاروا للآخرة، فالدنيا أنشئت لا للدنيا، ولكن إنما أنشئت للآخرة؛ فمن اختارها لها، لا يسلك بها إلى الآخرة، ضلّ، وزاغ عن الحق. وقوله تعالى:.. {الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} حتى يلهوا عن الآخرة، ويسهوا فيها، ويغفلوا... {ويبغونها عوجا} أي طعنا وعيبا فيه. دل هذا على أن الآية في الرؤساء منهم والقادة الذين كانوا يصدون الناس عن سبيل الله، ويبغون في دين الله الطعن والعيب، فما وجدوا إلى ذلك سبيلا قط. {وأولئك في ضلال بعيد} الضلال يحتمل وجوها: يحتمل الضلال:الهلاك، أي هلكوا هلاكا، لا نجاة فيه قط، ويحتمل الحيرة والتيه؛ أي تحيروا فيه وتاهوا، حتى لا يهتدوا. ويحتمل الضلال البطلان، أي في بطلان بعيد حتى لا يصلحوا أبدا. وهو في قوم، علم الله أنهم لا يهتدون أبدا، ويختمون على الضلال...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"الذين" في موضع جر، لأنه نعت للكافرين، وتقديره وويل للكافرين الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، والاستحباب: طلب محبة الشيء بالتعرض لها، والمحبة إرادة منافع المحبوب. وقد تكون المحبة ميل الطباع. والحياة الدنيا هو المقام في هذه الدنيا العاجلة على الكون في الآخرة. ذمهم الله بذلك، لأن الدنيا دار انتقال، والآخرة دار مقام.
" ويصدون عن سبيل الله "أي يعرضون بنفوسهم عن اتباع الطريق المؤدي إلى معرفة الله، ويجوز أن يريد أنهم يمنعون غيرهم من اتباع سبيل الله تعالى... والسبيل: الطريق... و" يبغونها عوجا "أي ويطلبون الطريق عوجا أي عدولا عن استقامته. والعوج: خلاف الميل إلى الاستقامة...
وقوله: "أولئك في ضلال بعيد" إخبار منه تعالى أن هؤلاء الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويصدون عن سبيل الله، في عدول عن الحق، بعيدون عن الاستقامة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ثم ذكر ذميمَ أخلاقِهم، فقال: هُمُ الذين يُؤْثِرُونَ اليسيرَ مِنْ حُطَامِ الدنيا على الخطير من نِعَم الآخرة، وذلك من شدة جُحْدِهم، ويبغون للدِّين عِوَجاً بكثرة جَمْعِهم...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
563- وصف الكفار بذلك، فمفهومه أن المؤمن هو الذي يتصف بنقيضه وهو أن يستحب الآخرة على الحياة الدنيا. [الإحياء: 4/233]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
...والاستحباب: الإيثار والاختيار، وهو استفعال من المحبة؛ لأنّ المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إِليه وأفضل عندها من الآخر... {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}: ويطلبون لسبيل الله زيغاً واعوجاجاً، وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة عن الحق غير مستوية...
{فِي ضلال بَعِيدٍ} أي ضلوا عن طريق الحق، ووقفوا دونه بمراحل.
فإن قلت: فما معنى وصف الضلال بالبعد. قلت: هو من الإسناد المجازي، والبعد في الحقيقة للضالّ؛ لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله، كما تقول: جدّ جدّه، ويجوز أن يراد: في ضلال ذي بعد، أو فيه بعد: لأنّ الضالّ قد يضلّ عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً.
الاستحباب طلب محبة الشيء، وأقول إن الإنسان قد يحب الشيء ولكنه لا يحب كونه محبا لذلك الشيء، مثل من يميل طبعه إلى الفسق والفجور، ولكنه يكره كونه محبا لهما، أما إذا أحب الشيء وطلب كونه محبا له، وأحب تلك المحبة فهذا هو نهاية المحبة فقوله: {الذين يستحبون الحياة الدنيا} يدل على كونهم في نهاية المحبة للحياة الدنيوية، ولا يكون الإنسان كذلك إلا إذا كان غافلا عن الحياة الأخروية، وعن معايب هذه الحياة العاجلة، ومن كان كذلك كان في نهاية الصفات المذمومة، وذلك لأن هذه الحياة موصوفة بأنواع كثيرة من العيوب:
فأحدها: أن بسبب هذه الحياة انفتحت أبواب الآلام والأسقام والغموم والهموم والمخاوف والأحزان.
وثانيها: أن هذه اللذات في الحقيقة لا حاصل لها إلا دفع الآلام، بخلاف اللذات الروحانية فإنها في أنفسها لذات وسعادات.
وثالثها: أن سعادات هذه الحياة منغصة بسبب الانقطاع والانقراض والانقضاء.
ورابعها: أنها حقيرة قليلة... قال: {يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} لأن فيه إضمارا، والتقدير: يستحبون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة، فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليتبين بذلك أن الاستحباب للدنيا وحده لا يكون مذموما إلا بعد أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة، فأما من أحبها ليصل بها إلى منافع النفس وإلى خيرات الآخرة فإن ذلك لا يكون مذموما حتى إذا آثرها على آخرته بأن اختار منها ما يضره في آخرته فهذه المحبة هي المحبة المذمومة...
واعلم أن من كان موصوفا باستحباب الدنيا فهو ضال، ومن منع الغير من الوصول إلى سبيل الله ودينه فهو مضل، فالمرتبة الأولى إشارة إلى كونهم ضالين، وهذه المرتبة الثانية وهي كونهم صادين عن سبيل الله إشارة إلى كونهم مضلين...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{أولئك في ضلال بعيد} أي ضلوا عن الحق ووقعوا عنه بمراحل، والبعد في الحقيقة للضال فوصف به فعله للمبالغة، أو للأمر الذي به الضلال فوصف به لملابسته...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، أي: يقدمونها ويُؤثرونها عليها، ويعملون للدنيا ونَسُوا الآخرة، وتركوها وراء ظهورهم، {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وهي اتباع الرسل {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي: ويحبون أن تكون سبيل الله عوجًا مائلة عائلة وهي مستقيمة في نفسها، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها، فهم في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق، لا يرجى لهم -والحالة هذه- صلاح...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أشار إلى ما للكافرين، وصفهم بما عاقهم عن قبول الخير وتركهم في أودية الشر فقال: {الذين يستحبون} أي يطلبون أن يحبوا أو يوجدون المحبة بغاية الرغبة متابعة للهوى {الحياة الدنيا} وهي النشأة الأولى التي هي دار الارتحال، مؤثرين لها {على الآخرة} أي النشأة الأخرى التي هي دار المقام، وذلك بأن يتابعوا أنفسهم على حبها حتى يكونوا كأنهم طالبون لذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فاستحباب الحياة الدنيا على الآخرة يصطدم بتكاليف الإيمان؛ ويتعارض مع الاستقامة على الصراط. وليس الأمر كذلك حين تستحب الآخرة، لأنه عندئذ تصلح الدنيا، ويصبح المتاع بها معتدلا، ويراعى فيه وجه الله. فلا يقع التعارض بين استحباب الآخرة ومتاع هذه الحياة. إن الذين يوجهون قلوبهم للآخرة، لا يخسرون متاع الحياة الدنيا -كما يقوم في الأخيلة المنحرفة. فصلاح الآخرة في الإسلام يقتضي صلاح هذه الدنيا. والإيمان بالله يقتضي حسن الخلافة في الأرض. وحسن الخلافة في الأرض هو استعمارها والتمتع بطيباتها. إنه لا تعطيل للحياة في الإسلام انتظارا للآخرة، ولكن تعمير للحياة بالحق والعدل والاستقامة ابتغاء رضوان الله، وتمهيدا للآخرة.. هذا هو الإسلام. فأما الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، فلا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم من الاستئثار بخيرات الأرض، ومن الكسب الحرام، ومن استغلال الناس وغشهم واستعبادهم.. لا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم هذه في نور الإيمان بالله، وفي ظل الاستقامة على هداه. ومن ثم يصدون عن سبيل الله. يصدون أنفسهم ويصدون الناس، ويبغونها عوجا لا استقامة فيها ولا عدالة. وحين يفلحون في صد أنفسهم وصد غيرهم عن سبيل الله، وحين يتخلصون من استقامة سبيله وعدالتها، فعندئذ فقط يملكون أن يظلموا وأن يطغوا وأن يغشوا وأن يخدعوا وأن يغروا الناس بالفساد، فيتم لهم الحصول على ما يبغونه من الاستئثار بخيرات الأرض، والكسب الحرام، والمتاع المرذول، والكبرياء في الأرض، وتعبيد الناس بلا مقاومة ولا استنكار. إن منهج الإيمان ضمانة للحياة وضمانة للأحياء من أثرة الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، واستئثارهم بخيرات هذه الحياة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{يستحبون} بمعنى يحبون، فالسين والتاء للتأكيد مثل استقدم واستأخر...
والصدّ عن سبيل الله: منع الداخلين في الإسلام من الدخول فيه...
أو يصدّون أنفسهم عن سبيل الله لأنهم عطلوا مواهبهم ومداركهم من تدبر آيات القرآن، فكأنهم صدّوها عن السير في سبيل الله ويبغون السبيل العَوجاء،... {في ضلال بعيد}... أي ضلال قوي يعسر إقلاع صاحبه عنه. ففيه استبعاد لاهتداء أمثالهم...
وحين تُدقّق في الآية الكريمة تجد أنها لا تمنعك من حبّ الدنيا، لكنها تتحدث أن تستحبّها على الآخرة، فهذا هو الأمر المذموم؛ أما إذا أحببت الدنيا لأنها تُعينك على تكاليف دينك وجعلتها مزرعة للآخرة، فهذا أمر مطلوب، لأنك تفعل فيها ما يجعلك تسعد في آخرتك، فهذا طَلَب للدنيا من أجل الآخرة...
أي: أن أصحاب المرتبة الأولى في الضلال هم من استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، والذين توغّلوا في الضلال أكثر فهم الذين يصدون عن سبيل الله، أما الذين توغّلوا أكثر فأكثر فهم الذين يُشوّهون في منهج الله لتنفير الناس منه، أو ليحقق لهم نزواتهم، وهكذا ساروا إلى أبعد منطقة في الضلال...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّه}، بوقوفهم ضد الدعاة إليه ومنعهم الناس من الاستماع إليهم، ومن الانسجام مع طروحاتهم، وتعاونهم مع قوى الكفر والشر والضلال لتأكيد مناهجهم، في الفكر والعمل، ولإبعاد الناس عن سبيل الله الذي هو الإسلام كله، وزجّهم في سبيل الشيطان الذي هو الكفر كله، والانحراف كله...