ثم يمضي السياق في تقرير حقائق التصور الإسلامي الكبيرة ؛ وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه الحقائق ؛ متخذا من أحداث المعركة محورا لتقرير تلك الحقائق ؛ ووسيلة لتربية الجماعة المسلمة بها على طريقة المنهج القرآني الفريد :
( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ؛ وسيجزي الله الشاكرين . وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ؛ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ؛ وسنجزي الشاكرين . وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا وما استكانوا ، والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ، وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ، والله يحب المحسنين ) . .
إن الآية الأولى في هذه الفقرة تشير إلى واقعة معينة ، حدثت في غزوة أحد . ذلك حين انكشف ظهر المسلمين بعد أن ترك الرماة أماكنهم من الجبل ، فركبه المشركون ، وأوقعوا بالمسلمين ، وكسرت رباعية الرسول [ ص ] وشج وجهه ، ونزفت جراحه ؛ وحين اختلطت الأمور ، وتفرق المسلمون ، لا يدري أحدهم مكان الآخر . . حينئذ نادى مناد : إن محمدا قد قتل . . وكان لهذه الصيحة وقعها الشديد على المسلمين . فانقلب الكثيرون منهم عائدين إلى المدينة ، مصعدين في الجبل منهزمين ، تاركين المعركة يائسين . . لولا أن ثبت رسول الله [ ص ] في تلك القلة من الرجال ؛ وجعل ينادي المسلمين وهم منقلبون ، حتى فاءوا إليه ، وثبت الله قلوبهم ، وأنزل عليهم النعاس امنة منه وطمأنينة . . كما سيجيء . .
فهذه الحادثة التي أذهلتهم هذا الذهول ، يتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه ، ومناسبة لتقرير حقائق التصور الإسلامي ؛ ويجعلها محورا لإشارات موحية في حقيقة الموت وحقيقة الحياة ، وفي تاريخ الإيمان ومواكب المؤمنين :
( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا . وسيجزي الله الشاكرين ) . .
إن محمدا ليس إلا رسولا . سبقته الرسل . وقد مات الرسل . ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله . . هذه حقيقة أولية بسيطة . فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة ؟
إن محمدا رسول من عند الله ، جاء ليبلغ كلمة الله . والله باق لا يموت ، وكلمته باقية لا تموت . . وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل . . وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول . وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة !
إن البشر إلى فناء ، والعقيدة إلى بقاء ، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس ، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ . . والمسلم الذي يحب رسول الله [ ص ] وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيرا . الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة . وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك ! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحدا إثر واحد . . وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم ، وبكل مشاعرهم ، حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره [ ص ] . . هذا المسلم الذي يحب محمدا ذلك الحب ، مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد [ ص ] والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده ، باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت .
( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) . .
قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن ، العميقة في منابت التاريخ ، المبتدئة مع البشرية ، تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق .
وهي أكبر من الداعية ، وأبقى من الداعية . فدعاتها يجيئون ويذهبون ، وتبقى هي على الأجيال والقرون ، ويبقى اتباعها موصولين بمصدرها الأول ، الذي أرسل بها الرسل ، وهو باق - سبحانه - يتوجه إليه المؤمنون . . وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه ، ويرتد عن هدى الله . والله حي لا يموت :
ومن ثم هذا الاستنكار ، وهذا التهديد ، وهذا البيان المنير :
( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا . وسيجزي الله الشاكرين ) . .
وفي التعبير تصوير حي للارتداد : ( انقلبتم على أعقابكم ) . . ( ومن ينقلب على عقبيه ) . فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة ، كأنه منظر مشهود . والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة ، ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف : إن محمدا قد قتل ، فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين ، وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين ، وانتهى أمر الجهاد للمشركين ! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا ، فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب ، كارتدادهم في المعركة على الأعقاب ! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس - رضي الله عنه - فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم ، وقالوا له : إن محمدا قد مات : " فما تصنعون بالحياة من بعده ؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله [ ص ] " .
( ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) . .
فإنما هو الخاسر ، الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق . . وانقلابه لن يضر الله شيئا . فالله غني عن الناس وعن إيمانهم . ولكنه - رحمة منه بالعباد - شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم ، ولخيرهم هم . وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله . وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق ، وتعوج الأمور كلها ، ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة ، وتستقيم في ظله النفوس ، وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها ، والسلام مع الكون الذي تعيش فيه .
الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج ، فيشكرونها باتباع المنهج ، ويشكرونها بالثناء على الله ، ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيبا على شكرهم ، ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة ، وهو أكبر وأبقى . .
وكأنما أراد الله - سبحانه - بهذه الحادثة ، وبهذه الآية ، أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي [ ص ] وهو حي بينهم . وأن يصلهم مباشرة بالنبع . النبع الذي لم يفجره محمد [ ص ] ولكن جاء فقط ليومىء إليه ، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق ، كما أومأ إليه من قبله من الرسل ، ودعوا القافلة إلى الارتواء منه !
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يأخذ بأيديهم ، فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى . العروة التي لم يعقدها محمد [ ص ] إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون !
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة ، وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة ، وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط . حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة ، التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول [ ص ] أو يقتل ، فهم إنما بايعوا الله . وهم أمام الله مسؤولون !
وكأنما كان الله - سبحانه - يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى - حين تقع - وهو - سبحانه - يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم . فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب ، وأن يصلهم به هو ، وبدعوته الباقية ، قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول .
ولقد أصيبوا - حين وقعت بالفعل - بالدهش والذهول . حتى لقد وقف عمر - رضي الله عنه - شاهرا سيفه ، يهدد به من يقول : إن محمدا قد مات !
ولم يثبت إلا أبو بكر ، الموصول القلب بصاحبه ، وبقدر الله فيه ، الاتصال المباشر الوثيق . وكانت هذه الآية - حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين - هي النداء الإلهي المسموع ، فإذا هم يثوبون ويرجعون !
{ وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : وما محمد إلا رسول كبعض رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه داعيا إلى الله وإلى طاعته ، الذين حين انقضت آجالهم ماتوا وقبضهم الله إليه يقول . جلّ ثناؤه : فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما هو فيما الله به صانع من قبضه إليه عند انقضاء مدة أجله كسائر مدة رسله إلى خلقه الذين مضوا قبله وماتوا عند انقضاء مدة آجالهم . ثم قال لأصحاب محمد معاتبهم على ما كان منهم من الهلع والجزع حين قيل لهم بأُحد : إن محمدا قتل ، ومقبحا إليهم انصراف من انصرف منهم عن عدوّهم وانهزامه عنهم : { أفِئنْ مَاتَ } محمد أيها القوم لانقضاء مدة أجله ، أو قتله عدوّكم ، { انْقَلَبْتُمْ على أعْقَابِكُمْ } يعني ارتددتم عن دينكم الذي بعث الله محمدا بالدعاء إليه ، ورجعتم عنه كفارا بالله بعد الإيمان به ، وبعد ما قد وضحت لكم صحة ما دعاكم محمد إليه ، وحقيقة ما جاءكم به من عند ربه . { وَمَنْ يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ } يعني بذلك : ومن يرتدد منكم عن دينه ويرجع كافرا بعد إيمانه ، { فَلَنْ يَضُرّ الله شَيْئا } يقول : فلن يوهن ذلك عزّة الله ولا سلطانه ، ولا يدخل بذلك نقص في ملكه ، بل نفسه يضرّ بردته ، وحظّ نفسه ينقص بكفره . { وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين } يقول : وسيثيب الله من شكره على توفيقه وهدايته إياه لدينه بنبوّته على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إن هو مات أو قتل واستقامته على منهاجه ، وتمسكه بدينه وملته بعده . كما :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ في قوله : { وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين } : الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه . فكان عليّ رضي الله عنه يقول : كان أبو بكر أمين الشاكرين وأمين أحباء الله ، وكان أشكرهم وأحبهم إلى الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن العلاء بن بدر ، قال : إن أبا بكر أمين الشاكرين . وتلا هذه الاَية : { وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين } : أي من أطاعه وعمل بأمره .
وذكر أن هذه الاَية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن انهزم عنه بأُحد من أصحابه . ذكر الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ } إلى قوله : { وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين } ذاكم يوم أُحد حين أصابهم القرح والقتل ، ثم تنازعوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بقية ذلك ، فقال أناس : لو كان نبيا ما قتل . وقال أناس من علية أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : قاتلوا على ما قاتل عليه محمد نبيكم ، حتى يفتح الله لكم ، أو تلحقوا به . فقال الله عزّ وجلّ : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أفِئنْ ماتَ أوْ قُتِل انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ } يقول : إن مات نبيكم ، أو قتل ، ارتددتم كفارا بعد إيمانكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بنحوه ، وزاد فيه : قال الربيع : وذكر لنا والله أعلم أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل ، فقد بلّغ ، فقاتلوا عن دينكم ! فأنزل الله عز وجل : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أفِئنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ ؟ } يقول : ارتددتم كفارا بعد إيمانكم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد إليهم يعني إلى المشركين أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجه خيل المشركين ، وقال : «لا تَبْرَحُوا مَكانَكُمْ إنْ رأيْتُمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ ، فإنّا لَنْ نَزَالَ غالِبِينَ ما ثَبَتّمْ مَكانَكُمْ » وأمّر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير . ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين ، فهزماهم ، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فهزموا أبا سفيان¹ فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين قدم ، فرمته الرماة فانقمع . فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهونه ، بادروا الغنيمة ، فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر¹ فلما رأى خالد قلة الرماح ، صاح في خيله ، ثم حمل فقتل الرماة ، وحمل على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل ، تبادروا فشدّوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم ، فأتى ابن قميئة الحارثي أحد بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة ، فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته ، وشجّه في وجهه فأثقله ، وتفرّق عنه أصحابه ، ودخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة ، فقاموا عليها ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : «إليّ عبادَ اللّهِ ! إليّ عِبادَ اللّهِ ! » فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً ، فجعلوا يسيرون بين يديه ، فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنيف ، فحماه طلحة ، فُرمي بسهم في يده فيبست يده ، وأقبل أبيّ بن خلف الجمحيّ وقد حلف ليقتلنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «بَلْ أنا أقْتُلُكَ » فقال : يا كَذّاب أين تفرّ ؟ فحمل عليه فطعنه النبيّ صلى الله عليه وسلم في جنب الدرع ، فجرح جرحا خفيفا ، فوقع يخور خوران الثور ، فاحتملوه وقالوا : ليس بك جراحة ، قال : أليس قال : لأقتلنك ؟ لو كانت لجميع ربيعة ومضر لقتلتهم . ولم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح . وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فقال بعض أصحاب الصخرة : ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبيّ ، فنأخذ لنا أمنة من أبي سفيان ! يا قوم إن محمدا قد قتل ، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم ! قال أنس بن النضر : يا قوم إن كان محمد قد قتل ، فإنّ ربّ محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم ! اللهمّ إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء . ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل . وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة¹ فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه فأراد أن يرميه ، فقال : «أنا رَسُولُ الله » ، ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا ، وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع . فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذهب عنهم الحزن ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابه الذين قتلوا ، فقال الله عزّ وجلّ للذين قالوا : إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفِئنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرّ اللّهَ شَيْئا وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين } .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَمَنْ يَنْقَلِبْ على عَقِبَيْهِ } قال : يرتد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه¹ وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه : أن رجلاً من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل ؟ فقال الأنصاريّ : إن كان محمد قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : ثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عبد النجار ، قال : انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ، فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا : قد قتل محمد رسول الله . قال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ! واستقبل القوم فقاتل حتى قتل . وبه سمي أنس بن مالك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبوزهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : ألا إن محمدا قد قتل ، فارجعوا إلى دينكم الأوّل ! فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ } . . . الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ألقي في أفواه المسلمين يوم أُحد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد قُتِل ، فنزلت هذه الاَية : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ } . . . الاَية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة ، والناس يفرّون ، ورجل قائم على الطريق يسألهم : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وجعل كلما مرّوا عليه يسألهم ، فيقولون : والله ما ندري ما فعل ! فقال : والذي نفسي بيده لئن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قتل لنعطينهم بأيدينا ، إنهم لعشائرنا وإخواننا ! وقالوا : إن محمدا إن كان حيا لم يهزم ، ولكنه قد قتل ، فترخصوا في الفرار حينئذ ، فأنزل الله عزّ وجلّ على نبيه صلى الله عليه وسلم : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ } . . . الاَية .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ } . . . الاَية : ناس من أهل الارتياب والمرض والنفاق ، قالوا يوم فرّ الناس عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وشجّ فوق حاجبه ، وكسرت رباعيته : قتل محمد ، فالحقوا بدينكم الأوّل ! فذلك قوله : { أفَئِنْ ماتَ أوْ قُتِل انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أفَئِنْ مات أوْ قُتِل انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ } ؟ قال : ما بينكم وبين أن تدعو الإسلام وتنقلبوا على أعقابكم ، إلا أن يموت محمد أو يقتل ، فسوق يكون أحد هذين ، فسوف يموت أو يقتل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ } إلى قوله : { وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين } : أي لقول الناس قتل محمد ، وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوّهم ، أي أفَئِنْ مات نبيكم أو قتل رجعتم عن دينكم كفارا كما كنتم ، وتركتم جهاد عدوكم وكتاب الله ، وما قد خلف نبيه من دينه معكم وعندكم¹ وقد بين لكم فيما جاءكم عني أنه ميت ومفارقكم ؟ { ومَنْ يَنْقَلِبْ على عَقِبَيْهِ } : أي يرجع عن دينه ، { فَلَنْ يَضُرّ الله شَيْئا } : أي لن ينقص ذلك من عزّ الله ولا ملكه ولا سلطانه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال : أهل المرض والارتياب والنفاق ، حين فرّ الناس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : قد قتل محمد ، فألحقوا بدينكم الأول ! فنزلت هذه الاَية .
ومعنى الكلام : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، أفتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا ! فجعل الاستفهام في حرف الجزاء ، ومعناه أن يكون في جوابه ( خبر ) وكذلك كل استفهام دخل على جزاء ، فمعناه أن يكون في جوابه ( خبر ) لأن الجواب خبر يقوم بنفسه والجزاء شرط لذلك الخبر ثم يجزم جوابه وهو كذلك ، ومعناه الرفع لمجيئه بعد الجزاء ، كما قال الشاعر :
حَلَفْتُ لَهُ إنْ تُدلِجِ اللّيلَ لا يَزلْ *** أمامَك بَيْتٌ مِنْ بَيُوِتيَ سائِرُ
فمعنى «لا يزل » رفع ، ولكنه جزم لمجيئه بعد الجزاء فصار كالجواب . ومثله : { أفَئِنْ مُتّ فَهُمُ الخالدونَ } و{ فَكيفَ تتقونَ إنْ كفرتم } ولو كان مكان فهم الخالدون يخلدون¹ وقيل : أفَئِنْ متّ يخلدوا جاز الرفع فيه والجزم ، وكذلك لو كان مكان «انقلبتم » «تنقلبوا » جاز الرفع والجزم لما وصفت قبل . وتركت إعادة الاستفهام ثانية مع قوله : «انقلبتم » اكتفاء بالاستفهام في أول الكلام ، وأن الاستفهام في أوله دالّ على موضعه ومكانه . وقد كان بعض القراء يختار في قوله : { أئِذا مِتْنَا وكُنّا تُرابا وعظاما أئِنّا لَمْبعُوثُون } ترك إعادة الاستفهام مع «أئنا » ، اكتفاء بالاستفهام في قوله : { أئِذَا مِتْنَا وكُنّا تُرابا } ، ويستشهد على صحة وجه ذلك باجتماع القراء على تركهم إعادة الاستفهام مع قوله : «انقلبتم » ، اكتفاء بالاستفهام في قوله : { أفَئِنْ مات } إذا كان دالاّ على معنى الكلام وموضع الاستفهام منه ، وكان يفعل مثل ذلك في جميع القرآن ، وسنأتي على الصواب من القول في ذلك إن شاء الله إذا انتهينا إليه .
عطف الإنكار على الملام المتقدّم في قوله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } [ آل عمران : 142 ] وقوله : { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه } [ آل عمران : 143 ] وكُلّ هاته الجمل ترجع إلى العتاب والتقريع على أحوال كثيرة ، كانت سبب الهزيمة يوم أُحُد ، فيأخذ كُلّ من حضر الوقعة من هذا الملام بنصِيبه المناسب لما يعلمه من حاله ظاهراً كان أم باطناً .
والآية تشير إلى ما كان من المسلمين من الاضطراب حين أرجَف بموت الرّسول صلى الله عليه وسلم فقال المنافقون : لو كان نبيّاً ما قتل ، فارجعوا إلى دينكم القديم وإخوانكم من أهل مكَّة ونكلّم عبد الله بن أبَي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان ، فهمّوا بترك القتال والانضمام للمشركين ، وثبت فريق من المسلمين ، منهم : أنس بن النضر الأنصاري ، فقال : إن كان قُتل محمد فإنّ ربّ محمد حيّ لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعده ، فقاتلوا على ما قاتل عليه .
ومحمد اسم رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم سمَّاه به جدّه عبد المطلب وقيل له : لِمَ سَمّيتَه محمّداً وليس من أسماء آبائك ؟ فقال : رجوت أن يحمده النَّاس . وقد قيل : لم يسمّ أحد من العرب محمداً قبل رسول الله . ذكر السهيلي في « الروض » أنّه لم يُسمّ به من العرب قبل ولادة رسول الله إلاّ ثلاثة : محمد بن سفيان بن مجاشع ، جدّ جدّ الفرزدق ، ومحمد بن أحَيْحَةَ بن الجُلاَح الأوسي . ومحمد بن حمران مِن ربيعة .
وهذا الاسم منقول من اسم مفعول حَمَّده تحميداً إذا أكثر من حمده ، والرسول فَعول بمعنى مَفعول مثل قولهم : حَلُوب ورَكوب وجَزور .
ومعنى { خلت } مضت وانقرضت كقوله : { قد خلت من قبلكم سنن } [ آل عمران : 137 ] وقول امرىء القيس : ( مَن كان في العصر الخالي ) وقَصر محمداً على وصف الرسالة قَصْرَ موصوف على الصفة . قصراً إضافياً ، لردّ ما يخالف ذلك ردّ إنكار ، سواء كان قصر قلب أو قصر إفراد .
والظاهر أنّ جملة { قد خلت من قبله الرسل } صفة « لرسول » ، فتكون هي محطّ القصر : أي ما هو إلاّ رسول موصوف بخلوّ الرسل قبله أي انقراضهم . وهذا الكلام مسوق لردّ اعتقاد من يعتقد انتفاء خلوّ الرسلِ مِن قبله ، وهذا الاعتقاد وإن لم يكن حاصلاً لأحد من المخاطبين ، إلاّ أنَّهم لمّا صدر عنهم ما من شأنه أن يكون أثراً لهذا الاعتقاد ، وهو عزمهم على ترك نصرة الدّين والاستسلام للعدوّ كانوا أحرياء بأن ينزلوا منزلة من يعتقد انتفاء خلوّ الرسل مِن قبله ، حيث يجدون أتباعهم ثابتين على مللهم حتّى الآن فكان حال المخاطبين حال من يتوهّم التلازم بين بقاء الملّة وبقاء رسولها ، فيستدلّ بدوام الملّة على دوام رسولها ، فإذا هلك رسول ملّة ظنّوا انتهاء شرعه وإبطال اتّباعه .
فالقصر على هذا الوجه قصر قلب ، وهو قلب اعتقادهم لوازم ضدّ الصّفة المقصور عليها ، وهي خلوّ الرسل قبله ، وتلك اللوازم هي الوهَن والتردّد في الاستمرار على نشر دعوة الإسلام ، وبهذا يشعر كلام صاحب « الكشّاف » .
وجعَل السكاكي المقصور عليه هو وصف الرسالة فيكون محطّ القصر هو قوله : « رسول » دون قوله : { قد خلت من قبله الرسل } ويكون القصر قصرَ إفْراد بتنزيل المخاطبين منزلة من اعتقد وصفه بالرسالة مع التنزّه عن الهلاك ، حين رتَّبوا على ظنّ موته ظنوناً لا يفرضها إلاّ من يعتقد عصمته من الموت ، ويكون قوله : { قد خلت من قبله الرسل } على هذا الوجه استئنافاً لا صفة ، وهو بعيد ، لأنّ المخاطبين لم يصدر منهم ما يقتضي استبعاد خبر موته ، بل هم ظنّوه صدقاً .
وعلى كلا الوجهين فقد نُزّل المخاطبون منزلَة من يَجهل قصر الموصوف على هذه الصفة وينكره ، فلذلك خوطبوا بطريق النَّفي والاستثناء ، الَّذي كثر استعماله في خطاب من يجهل الحكم المقصورَ عليه وينكره دون طريق ، إنَّما كما بيّنه صاحب « المفتاح » .
وقوله : { أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } عطف على قوله : { وما محمد إلا رسول } إلخ . . . والفاء لتعقيب مضمون الجملة المعطوف عليها بمضمون الجملة المعطوفة ، ولمَّا كان مضمون الجملة المعطوفة إنشاء الاستفهام الإنكاري على مضمونها ، وهو الشرط وجزاؤه ، لم يكن للتعقيب المفاد من فاء العطف معنى إلاّ ترتّب مضمون المعطوفة على المعطوف عليها ، ترتّب المسبّب على السبب ، فالفاء حينئذ للسببية ، وهمزة الاستفهام مقدّمة من تأخير ، كشأنها مع حروف العطف ، والمعنى ترتّب إنكار أن ينقبلوا على أعقابهم على تحقّق مضمون جملة القصر : لأنّه إذا تحقّق مضمون جملة القصر ، وهو قلب الاعتقاد أو إفرادُ أحد الاعتقادين ، تسبّب عليه أن يكون انقلابهم على الأعقاب على تقدير أن يموت أو يقتل أمراً منكراً جديراً بعدم الحصول ، فكيف يحصل منهم ، وهذا الحكم يؤكِّد ما اقتضته جملة القصر ، من التعريض بالإنكار عليهم في اعتقادهم خلاف مضمون جملة القصر ، فقد حصل الإنكار عليهم مرتين : إحداهما بالتَّعريض المستفاد ، من جملة القصر ، والأخرى بالتَّصريح الواقع في هاته الجملة .
وقال صاحب « الكشاف » : الهمزة لإنكار تسبّب الانقلاب على خلوّ الرسول ، وهو التسّبب المفاد من الفاء أي إنكار مجموع مدلول الفاء ومدلول مدخولها مثل إنكار الترتّب والمهلة في قوله تعالى : { أثم إذا ما وقع آمَنْتم به } [ يونس : 51 ] وقول النابغة :
أثُمّ تَعَذّراننِ إلَيّ منهَا *** فإنّي قد سمِعْتُ وقد رأيتُ
بأن أنكر عليهم جعلهم خلوّ الرسل قبله سبباً لارتدادهم عند العلم بموته . وعلى هذا فالهمزة غير مقدّمة من تأخير لأنَّها دخلت على فاء السَّببية . ويَرِد عليه أنَّه ليس علمهم بخلوّ الرسل من قبله مع بقاء أتباعهم متمسكين سبباً لانقلاب المخاطبين على أعقابهم ، وأجيب بأنّ المراد أنَّهم لمَّا علموا خلوّ الرسل من قبله مع بقاء مللهم ، ولم يَجْروا على موجَب علمهم ، فكأنَّهم جعلوا علمهم بذلك سبباً في تحصيل نقيض أثره ، على نحو ما يعرض من فساد الوضع في الاستدلال الجدلي ، وفي هذا الوجه تكلّف وتدقيق كثير .
وذهب جماعة إلى أنّ الفاء لِمجرّد التَّعقيب الذكري ، أو الاستئناف ، وأنَّه عطف إنكار تصريحي على إنكار تعريضي ، وهذا الوجه وإن كان سهلاً غير أنَّه يفيت خصوصية العطف بالفاء دون غيرها ، على أنّ شأن الفاء المفيدة للترتيب الذكري المحض أن يعطف بها الأوصاف نحو { والصافات صفا فالزاجرات زجراً } [ الصافات : 1 ، 2 ] أو أسماء الأماكن نحو قوله :
بَيْنَ الدّخول فحَوْمَل *** فتُوضِحَ فالمقراة . . إلخ
والانقلاب : الرجوع إلى المكان ، يقال : انقلب إلى منزله ، وهو هنا مجاز في الرجوع إلى الحال الَّتي كانوا عليها ، أي حال الكفر . و { على } للاستعلاء المجازي لأنّ الرجوع في الأصل يكونُ مُسبَّباً على طريق . والأعقاب جمع عقب وهو مؤخّر الرّجل ، وفي الحديث « وَيْل للأعقاب من النَّار » والمراد منه جهة الأعقاب أي الوراء .
وقوله : { ومن ينقلب على عاقبيه فلن يضر الله شيئاً } أي شيئاً من الضر ، ولو قليلاً ، لأنّ الارتداد عن الدّين إبطال لما فيه صلاح النَّاس ، فالمرتدّ يضرّ بنفسه وبالنَّاس ، ولا يضرّ الله شيئاً ، ولكن الشاكر الثَّابت على الإيمان يجازي بالشكر لأنَّه سعى في صلاح نفسه وصلاح النَّاس ، والله يحبّ الصلاح ولا يحبّ الفساد .
والمقصود من الآية العتاب على ما وقع من الاضطراب ، والثناءُ على الَّذين ثبتوا ووعظوا النَّاس ، والتحذيرُ من وقوع الارتداد عند موت الرسول عليه السَّلام ، وقد وقع ما حذّرهم الله منه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ارتد كثير من المسلمين ، وظنّوا اتِّباعَ الرسول مقصوراً على حياته ، ثُمّ هداهم الله بعد ذلك ، فالآية فيها إنباء بالمستقبل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول: وهل محمد، عليه السلام، لو قتل إلا كمن قتل قبله من الأنبياء، {أفإن مات} محمد {أو قتل انقلبتم على أعقابكم}، يعني رجعتم إلى دينكم الأول الشرك، ثم قال: {ومن ينقلب على عقبيه}، يقول: ومن يرجع إلى الشرك بعد الإيمان، {فلن يضر الله شيئا} بارتداده من الإيمان إلى الشرك، إنما يضر بذلك نفسه، {وسيجزي الله الشاكرين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بذلك: وما محمد إلا رسول كبعض رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه داعيا إلى الله وإلى طاعته، الذين حين انقضت آجالهم ماتوا وقبضهم الله إليه، يقول جلّ ثناؤه: فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما هو فيما الله به صانع؛ من قبضه إليه عند انقضاء مدة أجله كسائر مدة رسله إلى خلقه الذين مضوا قبله وماتوا عند انقضاء مدة آجالهم. ثم قال لأصحاب محمد، معاتبهم على ما كان منهم من الهلع والجزع حين قيل لهم بأُحد: إن محمدا قتل، ومقبحا إليهم انصراف من انصرف منهم عن عدوّهم وانهزامه عنهم: {أفِئنْ مَاتَ} محمد أيها القوم لانقضاء مدة أجله، أو قتله عدوّكم، {انْقَلَبْتُمْ على أعْقَابِكُمْ} يعني: ارتددتم عن دينكم الذي بعث الله محمدا بالدعاء إليه، ورجعتم عنه كفارا بالله بعد الإيمان به، وبعد ما قد وضحت لكم صحة ما دعاكم محمد إليه، وحقيقة ما جاءكم به من عند ربه.
{وَمَنْ يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} يعني بذلك: ومن يرتدد منكم عن دينه ويرجع كافرا بعد إيمانه، {فَلَنْ يَضُرّ الله شَيْئا} يقول: فلن يوهن ذلك عزّة الله ولا سلطانه، ولا يدخل بذلك نقص في ملكه، بل نفسه يضرّ بردته، وحظّ نفسه ينقص بكفره. {وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين} يقول: وسيثيب الله من شكره على توفيقه وهدايته إياه لدينه بنبوّته على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إن هو مات أو قتل واستقامته على منهاجه، وتمسكه بدينه وملته بعده... وذكر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن انهزم عنه بأُحد من أصحابه...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قالوا: وفشا في الناس [يوم أحد] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أُبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا والقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قُتل فالحقوا بدينكم الأول. فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك وسَمِيّ أنس: يا قوم إن كان محمد قد قُتل فإن ربّ محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء يعني المسلمين، وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء يعني المنافقين، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قُتل، ثم إن رسول الله انطلق إلى الصخرة وهو يدعوا الناس، فأول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك فقال: عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله، فأشار إليَّ أن اسكت، فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم النبي على الفرار فقالوا: يا نبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين، فأنزل الله تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} "ومحمد هو المستغرق بجميع المحامد، لأن الحمد لا يستوجبه إلاّ الكامل، والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه إلاّ المستولي على الأمد في الكمال، وأكرم الله عزّ وجلّ نبيّه وصفيّه باسمين مشتقين من اسمه تعالى: محمد وأحمد...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعنى "انقلبتم على أعقابكم "أي: ارتددتم كفارا بعد إيمانكم، لأن الرجوع عن الحق إلى الباطل بمنزلة رجوع القهقرى في القبح والتنكيل بالنفس، فجرى كالمثل في هذا المعنى، والألف في قوله "أفإن" ألف إنكار بصورة ألف استفهام، لأن التقرير به يظهر ما فيه من المنكر، فلذلك أخرج مخرج الاستفهام مع أن معناه الإنكار...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
يعني: هو على رسالته ونبوته مات أو قتل، فلِمَ انقلبتم على أعقابكم؟!...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
المعنى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه، لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة، لا وجوده بين أظهر قومه {أفإن مَّاتَ} الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبيب، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل، مع علمهم أنّ خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به يجب أن يجعل سبباً للتمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم، لا للانقلاب عنه. فإن قلت: لم ذكر القتل وقد علم أنه لا يقتل؟ قلت: لكونه مجوّزاً عند المخاطبين. فإن قلت: أما علموه من ناحية قوله: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67]؟ قلت: هذا مما يختص بالعلماء منهم وذوي البصيرة. ألا ترى أنهم سمعوا بخبر قتله فهربوا، على أنه يحتمل العصمة من فتنة الناس وإذلالهم. والانقلاب على الأعقاب: الإدبار عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به من أمر الجهاد وغيره. وقيل: الارتداد. وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإسلامه {فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً} فما ضر إلا نفسه، لأن الله تعالى لا يجوز عليه المضارّ والمنافع {وَسَيَجْزِى الله الشاكرين} الذي لم ينقلبوا كأنس بن النضر وأضرابه. وسماهم شاكرين، لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا.
المعنى: أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله له فيه تمثيلاً، ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك، فليس له أن يقبض نفساً إلا بإذن من الله. وهو على معنيين: أحدهما تحريضهم على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدوّ بإعلامهم أن الحذر لا ينفع، وأن أحداً لا يموت قبل بلوغ أجله، وإن خوّض المهالك واقتحم المعارك. والثاني ذكر ما صنع الله برسوله عند غلبة العدو والتفافهم عليه وإسلام قومه له، نهزة للمختلس من الحفظ والكلاءة وتأخير الأجل...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {خلت} معناه: مضت وسلفت، وصارت إلى الخلاء من الأرض...
حاصل الكلام أنه تعالى بيّن أن قتله لا يوجب ضعفا في دينه بدليلين: الأول: بالقياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم، والثاني: أن الحاجة إلى الرسول لتبليغ الدين وبعد ذلك فلا حاجة إليه، فلم يلزم من قتله فساد الدين، والله أعلم. المسألة الرابعة: ليس لقائل أن يقول: إن قوله: {أفإن مات أو قتل} شك وهو على الله تعالى لا يجوز، فإنا نقول: المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الارتداد. ثم قال تعالى: {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا} والغرض منه تأكيد الوعيد، لأن كل عاقل يعلم أن الله تعالى لا يضره كفر الكافرين، بل المراد أنه لا يضر إلا نفسه، وهذا كما إذا قال الرجل لولده عند العتاب: أن هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض، ويريد به أنه يعود ضرره عليه فكذا ههنا، ثم أتبع الوعيد بالوعد فقال: {وسيجزى الله الشاكرين} فالمراد أنه لما وقعت الشبهة في قلوب بعضهم بسبب تلك الهزيمة ولم تقع الشبهة في قلوب العلماء الأقوياء من المؤمنين، فهم شكروا الله على ثباتهم على الإيمان وشدة تمسكهم به، فلا جرم مدحهم الله تعالى بقوله: {وسيجزي الله الشاكرين}...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحُد، وقُتِل من قتل منهم، نادى الشيطان: ألا إن محمدًا قد قُتل. ورجع ابن قَمِيئَةَ إلى المشركين فقال لهم: قتلتُ محمدًا. وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَشَجَّه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله قد قُتل، وجوزوا عليه ذلك، كما قد قَصَّ الله عن كثير من الأنبياء، عليهم السلام، فحصل وهَن وضعف وتَأخر عن القتال ففي ذلك أنزل الله [عز وجل] على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أي: له أسْوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه.
قال ابن أبي نَجيح، عن أبيه، أنّ رجلا من المهاجرين مَر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان أشعرتَ أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قُتِل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد [صلى الله عليه وسلم] قد قُتِل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} رواه [الحافظ أبو بكر] البيهقي في دلائل النبوة.
ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} أي: رجعتم القَهْقرى {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} أي: الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه، واتبعوا رسوله حيا وميتا.
وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طُرق متعددة تفيد القطْع، وقد ذكرت ذلك في مُسْندي الشيخين أبي بكر وعُمَرَ، رضي الله عنهما؛ أن الصدّيق -رضي الله عنه- تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بُكَير، حدثنا الليث، عن عُقيل عن ابن شهاب، أخبرني أبو سَلَمة؛ أن عائشة، رضي الله عنها، أخبرته أن أبا بكر، رضي الله عنه، أقبل على فَرَس من مَسْكنه بالسَّنْح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يُكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمَّم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُغَشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه [صلى الله عليه وسلم] ثم أكب عليه وقَبَّله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي. والله لا يجمع الله عليك موْتَتَين؛ أما الموتة التي كُتبت عليك فقد مُتَّها.
وقال الزهري: وحدثني أبو سَلمة عن ابن عباس، أن أبا بكر خرج وعمر يُحَدِّث الناس فقال: اجلس يا عمر فأبى عمرُ أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عُمَرَ، فقال أبو بكر: أما بعد، مَنْ كانَ يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حَيّ لا يموت، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى قوله: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} قال: فوالله لكَأنّ الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس منه كلهم، فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها.
وأخبرني سعيد بن المُسَيَّب أن عُمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فَعقرتُ حتى ما تقلني رجلاي وحتى هَوَيتُ إلى الأرض.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: فانهزمتم عند ما صرخ الشيطان كذباً: ألا إن محمداً قد قتل! ولم يكن لكم ذلك فإنكم إنما تعبدون رب محمد الحي القيوم وتقاتلون له، وأما محمد فما هو بخالد لكم في الدنيا قال: {وما محمد إلا رسول} أي من شأنه الموت، لا إله، ثم قرر المراد من السياق بقوله: {قد خلت} أي بمفارقة أممهم، إما بالموت أو الرفع إلى السماء، ولما كان المراد أن الخلو منهم إنما كان في بعض الزمان الماضي لما مضى أثبت الجار فقال: {من قبله الرسل} أي فيسلك سبيلهم، فاسلكوا أنتم سبيل من نصح نفسه من أتباعهم فاستمسك بنورهم. ولما سبب عن ذلك إنكار انهزامهم ودعتهم على تقدير فقده أنكر عليهم بقوله: {أفإن} ولما كان الملك القادر على ما يريد لا يقول شيئاً وإن كان فرضاً إلا فعله ولو على أقل وجوهه، وكان في علمه سبحانه أنه صلى الله عليه وسلم يموت موتاً -لكونه على فراشه، وقتلاً- لكونه بالسم، قال: {مات} أي موتاً على الفراش {أو قتل} أي قتلاً {انقلبتم} أي عن الحال التي فارقكم عليها فأضعتم مشاعر الدين وتركتم مشاريع المرسلين! ثم قرر المعنى بقوله: {على أعقابكم} لئلا يظن أن المراد مطلق الانتقال وإن كان على الاستواء والانتقال إلى أحسن {ومن} أي انتقلتم والحال أنه من {ينقلب على عقبيه} أي بترك ما شرعه له نبيه أو التقصير فيه {فلن يضر الله} أي المحيط بجميع العظمة {شيئاً} لأنه متعالٍ عن ذلك بأن الخلق كلهم طوع أمره، لا يتحركون حركة إلا على وفق مراده، فلو أراد لهداهم أجمعين، ولو أراد أضلهم أجمعين، وإنما يضر ذلك المنقلب نفسه لكفره بالله، وسيجزي الله الشاكرين، ومن سار ثابتاً على المنهج السوي فإنما ينفع نفسه لشكره لله {وسيجزي الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {الشاكرين} أي كلهم، فالآية من الاحتباك: أثبت الانقلاب وعدم الضر أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، والجزاء ثانياً دليلاً على حذف مثله أولاً...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
استشكل بأن القوم لم يرتدوا فكيف عبر بالانقلاب على الأعقاب المتبادر منه ذلك؟ وأجيب بأنه ليس المراد ارتداداً حقيقة وإنما هو تغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامهم إياه للهلك، وقيل: الإنكار هنا بمعنى أنه لم يكن ذلك ولا ينبغي، لا إنكار لما وقع، وقيل: هو إخبار عما وقع لأهل الردة بعد موته صلى الله عليه وسلم وتعريض بما وقع من الهزيمة لشبهه به...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال ابن القيم في بيان حكم هذه الوقعة: هذه الآية كانت مقدمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر أن توبيخ الذين ارتدوا على أعقابهم بهذه الآية قد ظهر أثره يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ارتد من ارتد على عقبيه وثبت الصادقون على دينه حتى كانت العاقبة لهم. أقول: ولا ينافي هذه الحكمة كون الوقعة كانت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم ببضع سنين- لأن غزوة أحد كانت في السنة الثالثة من الهجرة- فإن توطين نفس الأمة الكبيرة على الشيء وإعدادها له لا يكون قبل وقوعه بيوم أو أيام أو شهور بل لابد فيه من زمن يكفي لتعميمه فيها وصيرورته من الأمور المسلمة المشهورة عندها حتى لا يغيب عن الأذهان. وحاصل المعنى أن محمدا ليس إلا بشرا رسولا قد خلت ومضت الرسل من قبله فماتوا، وقد قتل بعض النبيين كزكريا ويحيى فلم يكن لأحد منهم الخلد، وهو لا بد أن تحكم عليه سنة الله بالموت فيخلو كما خلوا من قبله، إذ لا بقاء إلا لله وحده ولا ينبغي للمؤمن الموحد أن يعتقده لغيره، أفئن مات كما مات موسى وعيسى، أو قتل كما قتل زكريا ويحيى، تنقلبون على أعقابكم، أي تولون الدبر راجعين عما كان عليه، يهديهم الله بهذا إلى أن الرسول ليس مقصودا لذاته فيبقى للناس، وإنما المقصود من إرساله ما أرسل به من الهداية، فيجب العمل بها من بعده، كما وجب في عهده.
ولله در أنس بن النضر رضي عنه فإنه في تلك الساعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر، واشتد الكرب حتى بلغت القلوب الحناجر، وقال بعض الضعفاء والمنافقين ما قالوا؛ قد قال:"يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء" ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل...
وقال الأستاذ الإمام: إن كلمة (انقلبتم على أعقابكم) من قبيل المثل تضرب لمن رجع عن الشيء بعد الإقبال عليه، والأحسن أن تكون عامة تشمل الارتداد عن الدين الذي جاهر بالدعوة إليه بعض المنافقين، والارتداد عن العمل كالجهاد ومكافحة الأعداء وتأييد الحق. وهذا هو الصواب. قال تعالى: {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا} لأنه وعد بأن ينصر من ينصره ويعز دينه ويجعل كلمته هي العليا وهو منجز وعده لا يحول دون إنجازه ارتداد بعض الضعفاء والمنافقين على أعقابهم فإنه يثبت المؤمنين ويمحصهم حتى يكونوا كالتبر الخالص وبهم يقيم دينه ولذلك قال: {وسيجزي الله الشاكرين} له نعمة عليهم بالقوى العقلية والجسدية وبالإيمان والهداية، القائمين بحقوقها في حياة رسوله وبعد موته على حد سواء، يأتون في كل وقت ما يمكن الإتيان به، لا يألون جهدا؛ ولا يقصرون في شيء عمدا، إذ لم يكن عملهم لوجه الرسول فيبطل إذا غيبه الموت عنهم، وإنما هو لوجه الله ذي الجلال والإكرام وهو لا يموت ولا يزول. الأستاذ الإمام: في هذه الآية إرشاد لنا إلى أن لا نجعل المصائب الشخصية دليلا على كون من تصيبه على باطل أو على حق، فإن من الجائز عقلا والواقع فعلا أن يبتلى صاحب الحق بالمصائب والرزايا؛ وأن يبتلى صاحب الباطل بالنعم والعطايا، كما أن عكس ذلك جائز وواقع. وتعلمنا أيضا أن لا نعتمد في معرفة الحق والخير على وجود المعلم بحيث نتركها بعد ذهابه أو موته وإنما نعتمد على معرفتهما والتحقق بهما والسير على منهاجهما في حال وجود المعلم وبعده. فالله تعالى يقول: عليكم أن تستضيئوا بالنور وتتقلدوا سيف البرهان اللذين جاءكم بهما محمد، وأما ما يصيب جسمه من جرح أو ألم، وما يعرض له من حياة أو موت؛ فلا مدخل له في صحة دعوته، ولا في إضعاف النور الذي جاء به، فلا معنى إذا لتعليق إيمانكم بحياته أو سلامة بدنه مما يعرض له من حيث هو بشر مثلكم، خاضع لسنن الله كخضوعكم. أقول: قد غفل عن هذا من أهمل هداية القرآن من المسلمين (جنسية لا إذعانا ومعرفة) فتراهم إذا ساء اعتقادهم في رجل كأن خالف تقاليدهم أو أنكر عليهم أهواءهم يتربصون به الدوائر فإذا أصابته مصيبة زعموا أن الله تعالى قد انتقم منه حبا لهم وبغضا فيه! فإن كان ذلك متهما بالإنكار على من يعتقدون صلاحهم وولايتهم قالوا إنهم قد تصرفوا فيه!! ويغفلون عما أصاب النبي في أحد وما أصاب كثيرا من الأنبياء قبله، بل يعمون عما يصيب معتقديهم وأوليائهم في عهدهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن البشر إلى فناء، والعقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ.. والمسلم الذي يحب رسول الله [ص] وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيرا. الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة. وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحدا إثر واحد.. وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم، وبكل مشاعرهم، حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره صلى الله عليه وسلم.. هذا المسلم الذي يحب محمدا ذلك الحب، مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد صلى الله عليه وسلم والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده، باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت. إن الدعوة أقدم من الداعية: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل).. قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن، العميقة في منابت التاريخ، المبتدئة مع البشرية، تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق. وهي أكبر من الداعية، وأبقى من الداعية. فدعاتها يجيئون ويذهبون، وتبقى هي على الأجيال والقرون، ويبقى اتباعها موصولين بمصدرها الأول، الذي أرسل بها الرسل، وهو باق -سبحانه- يتوجه إليه المؤمنون.. وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه، ويرتد عن هدى الله. والله حي لا يموت: ومن ثم هذا الاستنكار، وهذا التهديد، وهذا البيان المنير: (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا. وسيجزي الله الشاكرين).. وفي التعبير تصوير حي للارتداد: (انقلبتم على أعقابكم).. (ومن ينقلب على عقبيه). فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة، كأنه منظر مشهود. والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة، ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف: إن محمدا قد قتل، فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين، وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين، وانتهى أمر الجهاد للمشركين! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا، فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب، كارتدادهم في المعركة على الأعقاب! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس -رضي الله عنه- فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم، وقالوا له: إن محمدا قد مات:"فما تصنعون بالحياة من بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم". (ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا).. فإنما هو الخاسر، الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق.. وانقلابه لن يضر الله شيئا. فالله غني عن الناس وعن إيمانهم. ولكنه -رحمة منه بالعباد- شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم، ولخيرهم هم. وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله. وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق، وتعوج الأمور كلها، ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة، وتستقيم في ظله النفوس، وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها، والسلام مع الكون الذي تعيش فيه. (وسيجزي الله الشاكرين).. الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج، فيشكرونها باتباع المنهج، ويشكرونها بالثناء على الله، ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيبا على شكرهم، ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة، وهو أكبر وأبقى.. وكأنما أراد الله -سبحانه- بهذه الحادثة، وبهذه الآية، أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي بينهم. وأن يصلهم مباشرة بالنبع. النبع الذي لم يفجره محمد صلى الله عليه وسلم ولكن جاء فقط ليومئ إليه، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق، كما أومأ إليه من قبله من الرسل، ودعوا القافلة إلى الارتواء منه! وكأنما أراد الله -سبحانه- أن يأخذ بأيديهم، فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى. العروة التي لم يعقدها محمد صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون! وكأنما أراد الله -سبحانه- أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة، وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة، وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط. حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة، التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول صلى الله عليه وسلم أو يقتل، فهم إنما بايعوا الله. وهم أمام الله مسؤولون!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف الإنكار على الملام المتقدّم في قوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} [آل عمران: 142] وقوله: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه} [آل عمران: 143] وكُلّ هاته الجمل ترجع إلى العتاب والتقريع على أحوال كثيرة، كانت سبب الهزيمة يوم أُحُد، فيأخذ كُلّ من حضر الوقعة من هذا الملام بنصِيبه المناسب لما يعلمه من حاله ظاهراً كان أم باطناً... والمقصود من الآية العتاب على ما وقع من الاضطراب، والثناءُ على الَّذين ثبتوا ووعظوا النَّاس، والتحذيرُ من وقوع الارتداد عند موت الرسول عليه السَّلام، وقد وقع ما حذّرهم الله منه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ارتد كثير من المسلمين، وظنّوا اتِّباعَ الرسول مقصوراً على حياته، ثُمّ هداهم الله بعد ذلك، فالآية فيها إنباء بالمستقبل.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{انقلبتم على أعقابكم} تصوير سام لمن ضل بعد ان اهتدى، فهو تصوير لمن يرجع إلى الوراء وبصره إلى الأمام، وأعقابه هي التي تقوده، وهو منكس جعل رأسه في أسفل وعقبه في أعلى، وذلك أقبح منظر يكون للإنسان...
وبهذا يتبين ان المحاربين كانوا فريقين: أحدهما رعب واضطراب، والثاني ثبت وجاهد، ولقد ذكر الله حال الفريقين، ومقام كل واحد من الحق ودعوته فقال تعالت كلماته في الفريق الأول: {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا}... وفي هذا تنبيه إلى ثلاثة أمور: أولها:أن من يجاهد عليه ان يجاهد لحقيقة من الحقائق الثابتة الخالدة التي لا تفنى ولا تنتهي، ولا يقاتل لجل الأشخاص الذين ينتهون ويفنون، فالمعاني خالدة، والأشخاص ميتون.
الثانية:أن من يفسد قلبه فيرتد بعد إيمان ويكفر بعد يقين، لا يضر دين الله بل يضر نفسه؛ لن الضال المضل يضر نفسه قبل أن يضر غيره.
ثالثها:إخبار الله تعالى بأن هذا الدين خالد ثابت باق إلى يوم القيامة؛ لأنه سبحانه قد قرر انه لا يضره من يخرج عنه او يمرق عن أحكامه، او يتركها مستهينا، فإن للإسلام ربا يحميه، ورجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه. ثم بين سبحانه من بعد ذلك جزاء الصابرين الذين لم يرعبوا ولم يضطربوا، فقال سبحانه: {وسيجزي الله الشاكرين}...
وقد يقول قائل:لماذا عبر هنا بالشاكرين ولم يعبر بالصابرين، والصبر هنا هو الأظهر، فنقول: إن الشكر في هذا المقام هو أعلى درجات الصبر، وذلك انهم لم يحتملوا البلاء فقط، بل تجاوزوا حد الصبر إلى حد الشكر على هذه الشديدة، فالشكر هنا صبر وزيادة، وقليل من يكون على هذه الشاكلة، ولذا قال تعالى: {وقليل من عبادي الشكور13} [سبأ]...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في هذه الآية تأكيد قرآنيٌ على أحد المبادئ الإسلامية الإيمانية، وهو أنَّ غياب القيادة، مهما كانت عظيمة، لا يوقف المسيرة ولا يُلغي الرسالة المبدأ، لأنَّ عظمة القائد في حساب الرسالات لا تجمدها عند حدود حياته لتنتهي بانتهاء حياته، بل تمثِّل بدلاً من ذلك خطوةً أولى نحو الانطلاقة المستمرة في الدرب الطويل، ومرحلة متقدّمة من مراحل العمل، ثُمَّ تتبع الخطوة خطوات على الطريق، وتنطلق المراحل الجديدة على درب المرحلة القديمة... فالرسالة هي الأصل والقاعدة، والقيادات المتتابعة تمثِّل دور الحَمَلة لها، فقيمتهم بمقدار ما يقدّمون لها من خدمات وتضحيات، وعظمتهم بقدر ما يواجهونه من مواقف الصدق والإخلاص، الأمر الذي يُلغي من المسيرة عبادة الشخصية التي توحي بأنَّ الشخص هو الأساس والرسالة شأن من شؤونه وميزةٌ من ميزاته، وليس الأمر بالعكس، كما هو منطق الرسالات...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لا لعبادة الشخصية وتقديس الفرد:
تعلّم الآية الأُولى من هاتين الآيتين حقيقة أخرى للمسلمين استلهاماً من أحداث معركة «أُحد» إذ تقول: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) وهذه الحقيقة هي أن الإسلام ليس دين عبادة الشخصية حتّى إذا قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونال الشهادة في هذه المعركة افتراضاً ينتهي كلّ شيء ويسقط واجب الجهاد والنضال عن كاهل المسلمين، بل إن هذا الواجب مستمر، وعليهم أن يواصلوه لأن الإسلام لا ينتهي بموت النبي أو استشهاده، وهو الدين الحقّ الذي أنزل ليبقى خالداً إلى الأبد.
إن عبادة الشخصية وتقديس الفرد من أخطر ما يصيب أية حركة جهادية ويهددها بالسقوط والانتهاء، فإن ارتباط الحركة أو الدين بشخص معين حتّى لو كان ذلك هو النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) معناه توقف كلّ الفعاليات وكلّ تقدّم بفقدانه وغيابه عن الساحة، وهذا النوع من الارتباط هو أحد علائم النقص في الرشد الاجتماعي.
إنّ تركيز النبي وإصراره على مكافحة تقديس الفرد وعبادة الشخصية آية أخرى من آيات صدقه، ودليلاً آخر يدل على حقانيته، لأن قيامه ودعوته لو كان لنفسه وبهدف تحقيق مصالحه الشخصية للزم أن يعمق في الأذهان والقلوب هذه الفكرة، ويزيد من توجيه الأنظار إلى نفسه وأن جميع الأشياء في هذا الدين مرتبطة بشخصه بحيث إذا غاب عنهم ذهب وانتهى كلّ شيء، ولكن القادة الصادقين كالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يفعلون مثل هذا أبداً، ولا يشجعون على مثل هذه الأفكار، بل يكافحونها بقوة، ويقولون: إن أهدافنا أعلى من أشخاصنا وهي لا تنتهي بموتنا وبغيابنا، ولهذا يقول القرآن الكريم: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم)؟ وهو بذلك يستنكر ما دار في خلد البعض أو قد يدور من أن كلّ شيء في هذا الدين ينتهي بغياب النبي القائد (صلى الله عليه وآله وسلم).
والجدير بالذكر أن القرآن استخدم للتعبير عن الردة إلى الجاهلية كلمة (انقلبتم على أعقابكم) و «الأعقاب» جمع عقب (وزان خشن) بمعنى مؤخرة القدم، فهو تعبير موح يصور التراجع إلى الوراء والارتداد الواقعي، وهو أكثر إيحاءاً وأقوى تصويراً من لفظة الردة والرجوع والعودة، لأنه بمعنى السير القهقري.
ثمّ إنه سبحانه يقول: (ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً) يعني أن العودة إلى الكفر والوثنية تضرّكم أنتم دون الله سبحانه، لأن أمثال هذا التراجع لا يعني سوى توقفكم في طريق الخير والسعي نحو السعادة الكاملة، بل فقدان كلّ ما حصلتموه من العزّة والكرامة والمجد بسرعة.
ثمّ إنه لما كان هناك في معركة أُحد أقلية استمرت على جهادها رغم الصعوبات، وانتشار الخبر المفجع عن مقتل الرسول، كان من الطبيعي أن ينال صمودهم هذا وثباتهم التقدير اللائق، ولهذا قال سبحانه: (وسيجزي الله الشاكرين) وبذلك مدح القرآن الكريم استقامتهم وصمودهم، ووصفهم بالشاكرين لأنهم أحسنوا الاستفادة والانتفاع بالنعم في سبيل الله، وهذا أفضل مصاديق الشكر.
إن الدرس الذي تعطيه هذه الآية في مكافحة عبادة الشخصية وتقديس الفرد هو أبلغ وأفضل درس لجميع المسلمين في جميع العصور والأزمنة، فعليهم جميعاً أن يتعلموا من القرآن أن لا يربطوا القضايا الاستراتيجية والأهداف العليا والمصيرية بالأشخاص، بل لابدّ أن يلتفوا حول الأُسس والمبادئ الخالدة التي لا تفنى ولا تتغير، ولا تتأثر بتغير الأشخاص أو غيابهم عن الساحة بسبب الموت أو القتل حتّى لو كان ذلك هو النبيّ الأكرم، لكيلا تتوقف عجلة المسيرة عن الحركة، ولا يتعطل دولاب العمل عن الدوران، بل إن ذلك هو رمز الخلود في أي مبدأ وحركة أساساً.
وعلى هذا الأساس فإن جميع البرامج والتشكيلات المرتبطة بالأشخاص والقائمة بوجودهم الشخصي هي في الحقيقة برامج وتشكيلات غير سليمة ولا طبيعية، وهي معرضة للزوال والفناء في أية لحظة.
وممّا يؤسف له أن يكون أغلب التشكيلات الإسلامية اليوم من هذا القبيل، أي أنها قائمة بالأشخاص، ولذلك فهي سرعان ما تزول وتتهاوى وتتلاشى عندما يغيب الأشخاص بذواتهم عن الساحة.
إن على المسلمين أن يستلهموا من هذه الآية فيقيموا مؤسساتهم المتنوعة المختلفة بنحو يستفاد فيها من مواهب الأشخاص اللائقين الموهوبين دون أن يكون مصيرها مرتبطاً بمصيرهم حتّى لا تندثر بتغيرهم أو غيابهم.