ثم واجههم بالمنطق الواقعي القويم ، لعله يرد فطرتهم إلى الإدراك السليم . مع التعجيب من أمرهم في الانصراف عن هذا المنطق بعد البيان والإيضاح :
( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، وأمه صديقة ، كانا يأكلان الطعام . انظر كيف نبين لهم الآيات . ثم انظر أنى يؤفكون . . )
وأكل الطعام مسألة واقعية في حياة المسيح - عليه السلام - وأمه الصديقة . وهي خصيصة من خصائص الأحياء الحادثين ، ودليل على بشرية المسيح وأمه - أو على ناسوته بتعبيرهم اللاهوتي - فأكل الطعام تلبية لحاجة جسدية لا مراء فيها . ولا يكون إلها من يحتاج إلى الطعام ليعيش . فالله حي بذاته ، قائم بذاته ، باق بذاته ، لا يحتاج ، ولا يدخل إلى ذاته - سبحانه - أو يخرج منها شيء حادث كالطعام . .
ونظرا لوضوح هذا المنطق الواقعي ونصاعته التي لا يجادل فيها إنسان يعقل ، فإنه يعقب عليه باستنكار موقفهم والتعجيب من انصرافهم عن ذلك المنطق البين :
( انظر كيف نبين لهم الآيات ، ثم انظر أنى يؤفكون ) . .
ولقد كانت هذه الحياة البشرية الواقعية للمسيح عليه السلام ، مصدر تعب لمن أرادوا تأليهه - على الرغم من تعاليمه - فقد احتاجوا إلى كثير من الجدل والخلاف حول لاهوتية المسيح عليه السلام وناسوتيته - كما ذكرنا ذلك من قبل باختصار
{ مّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ وَأُمّهُ صِدّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الاَيَاتِ ثُمّ انْظُرْ أَنّىَ يُؤْفَكُونَ } . .
وهذا ( خبرٌ ) من الله تعالى ذكره احتجاجا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على فرق النصارى في قولهم في المسيح . يقول مكذّبا لليعقوبية في قيلهم : هو الله ، والاَخرين قي قيلهم : هو ابن الله : ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح ، ولكنه ابن مريم ولدته ولادة الأمهات أبناءهنّ ، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق البشر ، وإنما هو لله رسول كسائر رسله الذين كانوا قبله فمضوا وخلوا ، أجرى على يده ما شاء أن يجريه عليها من الاَيات والعبر حجة له على صدقه وعلى أنه لله رسول إلى من أرسله إليه من خلقه ، كما أجرى على أيدي من قبله من الرسل من الاَيات والعبر حجة لهم على حقيقة صدقهم في أنهم لله رسل . وأُمّهُ صِدّيقَة يقول تعالى ذكره : وأمّ المسيح صدّيقة ، والصدّيقة : الفِعّيلة من الصدق ، وكذلك قولهم فلان صدّيق : فعيل من الصدق ، ومنه قوله تعالى ذكره : وَالصّدّيقِينَ والشّهَدَاءِ . وقد قيل : إنّ أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه إنما قيل له الصدّيق لصدقه ، وقد قيل : إنما سمي صدّيقا لتصديقه النبيّ صلى الله عليه وسلم في مسيره في ليلة واحدة إلى بيت المقدس من مكة وعوده إليها . وقوله : كانَا يَأكُلانِ الطّعامَ خبر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمه أنهما كانا أهل حاجة إلى ما يغذوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم . فإنّ من كان كذلك ، فعير كائن إلها لأن المحتاج إلى الغذاء قوامه بغيره ، وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه دليل واضح على عجزه ، والعاجز لا يكون إلاّ مربوبا لا ربّا .
القول في تأويل قوله تعالى : انْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الاَياتِ ثُمّ انْظُرْ أنّى يُؤْفَكُونَ .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : انظر يا محمد كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى الاَيات ، وهي الأدلة والأعلام والحجج على بطول ما يقولون في أنبياء الله ، وفي فريتهم على الله ، وادّعائهم له ولدا ، وشهادتهم لبعض خلقه بأنه لهم ربّ وإله ، ثم لا يرتدعون عن كذبهم وباطل قيلهم ، ولا ينزجرون عن فِرْيتهم على ربهم وعظيم جهلهم ، مع ورود الحجج القاطعة عذرهم عليهم . يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ثم انظر يا محمد أنّى يؤفكون ؟ يقول : ثم انظر مع تبييننا لهم آياتنا على بطول قولهم : أيّ وجه يُصْرفون عن بياننا الذي بينته لهم ، وكيف عن الهدى الذي نهديهم إليه من الحقّ يضِلون ؟ والعرب تقول لكلّ مصروف عن شيء : هو مأفوك عنه ، يقال : قد أَفَكْتُ فلانا عن كذا : أي صرفته عنه ، فأنا آفِكه أفْكا ، وهو مأفوك ، وقد أُفِكَتِ الأرضُ : إذا صرف عنها المطر .
استئناف لتبيان وصف المسيح في نفس الأمر ووصففِ أمّه زيادة في إبطال معتقد النّصارى إلهيّة المسيح وإلهيّة أمّه ، إذ قد عُلم أنّ قولهم { إنّ الله ثالث ثلاثة } [ المائدة : 73 ] أرادوا به إلهيّة المسيح . وذلك مُعتقد جميع النّصارى . وفرّعت طائفة من النّصارى يُلَقَّبون ( بالرّكُوسِيَّةِ ) ( وهم أهل ملّة نصرانيّة صابئة ) على إلهيةِ عيسى إلهيَّةَ أمّه ولولا أنّ ذلك معتقدهم لما وقع التّعرض لوصف مَريم ولا للاستدلال على بَشَرِيَّتها بأنّهما كانا يأكلان الطّعام .
فقوله : { ما المسيح ابن مريم إلاّ رسول } قصرُ موصوفٍ على صفة ، وهو قصر إضافي ، أي المسيح مقصور على صفة الرّسالة لا يتجاوزها إلى غيرها ، وهي الإلهيّة . فالقصر قصر قلب لردّ اعتقاد النّصارى أنّه الله .
وقوله : { قد خلت من قبله الرّسل } صفة لرسول أريد بها أنّه مساو للرّسل الآخرين الّذين مضوا قبله ، وأنّه ليس بدعا في هذا الوصف ولا هو مختصّ فيه بخصوصيّة لم تكن لغيره في وصف الرّسالة ، فلا شبهة للّذين ادّعوا له الإلهيّة ، إذ لم يجىء بشيء زائد على ما جاءت به الرسل ، وما جرت على يديه إلاّ معجزات كما جرت على أيدي رُسل قبله ، وإن اختلفت صفاتها فقد تساوت في أنّها خوارق عادات وليس بعضها بأعجب من بعض ، فما كان إحياؤه الموتى بحقيق أن يوهم إلهيّتَه . وفي هذا نداء على غباوة القوم الّذين استدلّوا على إلهيّته بأنّه أحيا الموتى من الحيوان فإنّ موسى أحيا العصا وهي جماد فصارت حيّة .
وجملة { وأمّه صدّيقة } معطوفة على جملة { ما المسيح ابن مريم إلاّ رسول } . والقصد من وصفها بأنّها صدّيقة نفيُ أن يكون لها وصف أعلى من ذلك ، وهو وصف الإلهيّة ، لأنّ المقام لإبطال قول الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة ، إذْ جعلوا مريم الأقنوم الثالث . وهذا هو الّذي أشار إليه قول صاحب « الكشاف » إذ قال « أي وما أمّه إلاّ صديقة » مع أنّ الجملة لا تشتمل على صيغة حَصر . وقد وجّهه العلامة التفتزاني في « شرح الكشّاف » بقوله : « الحصر الّذي أشار إليه مستفاد من المقام والعطف » ( أي من مجموع الأمرين ) . وفي قول التفتزاني : والعطف ، نظر .
والصدِّيقة صيغة مبالغة ، مثل شِرِّيب ومسِّيك ، مبالغة في الشُّرب والمَسْك ، ولَقَبِ امرىء القيس بالمَلك الضّلِّيل ، لأنّه لم يهتد إلى ما يسترجع به مُلك أبيه . والأصل في هذه الصيغة أن تكون مشتقّة من المجرّد الثّلاثي . فالمعنى المبالغة في وصفها بالصدق ، أي صدق وعد ربّها ، وهو ميثاق الإيمان وصدقُ وعد النّاس . كما وُصف إسماعيل عليه السّلام بذلك في قوله تعالى : { واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد } [ مريم : 54 ] . وقد لقّب يوسف بالصدّيق ، لأنّه صَدَق وعد ربّه في الكفّ عن المحرّمات مع توفر أسبابها .
وقيل : أريد هنا وصفها بالمبالغة في التّصديق لقوله تعالى : { وصدّقت بكلمات ربّها } [ التحريم : 12 ] ، كما لقّب أبو بكر بالصدّيق لأنّه أوّل من صدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى : { والّذي جاء بالصّدق وصدّق به } [ الزمر : 33 ] ، فيكون مشتقّاً من المزيد .
وقوله : { كانا يأكلان الطّعام } جملة واقعة موقع الاستدلال على مفهوم القصر الّذي هو نفي إلهيّة المسيح وأمّه ، ولذلك فصلت عن الّتي قبلها لأن الدّليل بمنزله البيان ، وقد استدلّ على بشريتهما بإثبات صفة من صفات البشر ، وهي أكل الطّعام . وإنَّما اختيرت هذه الصّفة من بين صفات كثيرة لأنّها ظاهرة واضحة للنّاس ، ولأنّها أثبتتها الأناجيل ؛ فقد أثبتت أنّ مريم أكلت ثَمر النخلة حين مخاضها ، وأنّ عيسى أكل مع الحواريين يوم الفِصْح خبزاً وشرب خمراً ، وفي إنجيل لوقاً إصحاح22 « وقال لهم اشتهيت أن آكل هذا الفِصحَ معكم قبل أن أتألّم لأنّي لا آكل منه بعدُ ، وفي الصبح إذْ كان راجعاً في المدينة جاع » .
وقوله : { انظر كيف نبيّن لهم الآيات } استئناف للتعجيب من حال الّذين ادّعوا الإلهيّة لعيسى . : والخطاب مراد به غيرُ معيّن ، وهو كلّ من سمع الحجج السابقة . واستُعمل الأمر بالنّظر في الأمر بالعِلم لتشبيه العالم بالرأي والعلممِ بالرؤية في الوضوح والجلاء ، وقد تقدّمت نظائره . وقد أفاد ذلك معنى التعجيب . ويجوز أن يكون الخطاب للرّسول عليه السّلام . والمراد هو وأهل القرآن . و { كيف } اسم استفهام معلِّق لفعل { انظر } عن العمل في مفعولين ، وهي في موضع المفعول به ل { انظر } ، والمعنى انظر جواب هذا الاستفهام . وأريد مع الاستفهام التعجيب كناية ، أي انظر ذلك تجد جوابك أنّه بيان عظيم الجلاء يتعجّب النّاظر من وضوحه . والآيات جمع آية ، وهي العلامة على وجود المطلوب ، استعيرت للحجّة والبرهان لشبهه بالمكان المطلوب على طريق المكنية ، وإثبات الآيات له تخييل ، شبّهت بآيات الطّريق الدّالة على المكان المطلوب .
وقوله : { ثمّ انظر أنّى يؤفكون } ( ثمّ ) فيه للترتيب الرتبي والمقصود أنّ التأمّل في بيان الآيات يقتضي الانتقال من العجب من وضوح البيان إلى أعجب منه وهو انصرافهم عن الحقّ مع وضوحه . و { يؤفكون } يصرفون ، يقال : أفكَهُ من باب ضَرب ، صَرفه عن الشّيء .
و { أنَّى } اسم استفهام يستعمل بمعنى من أين ، ويستعمل بمعنى كيف . وهو هنا يجوز أن يكون بمعنى كيفَ ( كما ) في « الكشاف » ، وعليه فإنّما عدل عن إعادة { كيف } تفنّناً . ويجوز أن تكون بمعنى من أين ، والمعنى التعجيب من أين يتطرّق إليهم الصّرف عن الاعتقاد الحقّ بعد ذلك البيان المبالغ غاية الوضوح حتّى كان بمحلّ التّعجيب من وضوحه . وقد علّق ب { أنَّى } فعل { انظر } الثّاني عن العمل وحذف متعلّق { يؤفكون } اختصاراً ، لظهور أنّهم يصرفون عن الحقّ الّذي بيّنته لهم الآيَات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عن عيسى صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة}، يعني مؤمنة كقوله سبحانه: {إنه كان صديقا نبيا} (مريم: 56)، يعني مؤمنا نبيا، وذلك حين قال لها جبريل، عليه السلام: {إنما أنا رسول ربك} (مريم: 19)، وفي بطنك المسيح، فآمنت بجبريل، عليه السلام، وصدقت بالمسيح ابن مريم، عليه السلام، ثم سميت الصديقة، وهي يومئذ في محراب بيت المقدس، {كانا يأكلان الطعام}، فلو كانا إلهين ما أكلا الطعام، {انظر} يا محمد {كيف نبين لهم الآيات}: العلامات في أمر عيسى ومريم أنهما كانا يأكلان الطعام، والآلهة لا تأكل الطعام، {ثم انظر أنى يؤفكون}: من أين يكذبون، فأعلمهم أني واحد.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا خبرٌ من الله تعالى ذكره احتجاجا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على فرق النصارى في قولهم في المسيح. يقول مكذّبا لليعقوبية في قيلهم: هو الله، والآخرين في قيلهم: هو ابن الله: ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح، ولكنه ابن مريم ولدته ولادة الأمهات أبناءهنّ، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق البشر، وإنما هو لله رسول كسائر رسله الذين كانوا قبله فمضوا وخلوا، أجرى على يده ما شاء أن يجريه عليها من الآيات والعبر حجة له على صدقه وعلى أنه لله رسول إلى من أرسله إليه من خلقه، كما أجرى على أيدي من قبله من الرسل من الآيات والعبر حجة لهم على حقيقة صدقهم في أنهم لله رسل. "وأُمّهُ صِدّيقَة "يقول تعالى ذكره: وأمّ المسيح صدّيقة، والصدّيقة: الفِعّيلة من الصدق، وكذلك قولهم فلان صدّيق: فعيل من الصدق، ومنه قوله تعالى ذكره: "وَالصّدّيقِينَ والشّهَدَاءِ". وقد قيل: إنّ أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه إنما قيل له الصدّيق لصدقه، وقد قيل: إنما سمي صدّيقا لتصديقه النبيّ صلى الله عليه وسلم في مسيره في ليلة واحدة إلى بيت المقدس من مكة وعوده إليها. وقوله: "كانَا يَأكُلانِ الطّعامَ": خبر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمه أنهما كانا أهل حاجة إلى ما يغذوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم. فإنّ من كان كذلك، فغير كائن إلها، لأن المحتاج إلى الغذاء قوامه بغيره، وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه دليل واضح على عجزه، والعاجز لا يكون إلاّ مربوبا لا ربّا.
"انْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الآيات ثُمّ انْظُرْ أنّى يُؤْفَكُونَ": يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى الآيات، وهي الأدلة والأعلام والحجج على بطول ما يقولون في أنبياء الله، وفي فريتهم على الله، وادّعائهم له ولدا، وشهادتهم لبعض خلقه بأنه لهم ربّ وإله، ثم لا يرتدعون عن كذبهم وباطل قيلهم، ولا ينزجرون عن فِرْيتهم على ربهم وعظيم جهلهم، مع ورود الحجج القاطعة عذرهم عليهم. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم انظر يا محمد أنّى يؤفكون؟ يقول: ثم انظر مع تبييننا لهم آياتنا على بطول قولهم: أيّ وجه يُصْرفون عن بياننا الذي بينته لهم، وكيف عن الهدى الذي نهديهم إليه من الحقّ يضِلون؟ والعرب تقول لكلّ مصروف عن شيء: هو مأفوك عنه، يقال: قد أَفَكْتُ فلانا عن كذا: أي صرفته عنه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَن اشتملت عليه الأرحامُ، وتناوبته الآثار المتعاقبة، أنَّى يليق بوصف الإلهية؟ ثم مَنْ مَسَّتْه الحاجةُ حتى اتصف بالأكل، وأصابته الضرورةُ إلى أن يَخْلُصَ من بقايا الطعام فَأَنَّى يليق به استيجابُ العبادة والتسميةُ بالإلهية؟ انظر -يا محمد- كيف نزيد في إيضاح الحجة وكيف تلبَّس عليهم سلوكُ المحجة؟
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} صفة لرسول، أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها، أن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى، وفلق بها البحر، وطمس على يد موسى. وإن خلقه من غير ذكر، فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى {وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ} أي وما أمه أيضاً إلا صديقة كبعض النساء المصدّقات للأنبياء المؤمنات بهم، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين: أحدهما نبي، والآخر صحابي. فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه. ثم صرح ببعدهما عما نسب إليهما في قوله: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام {كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الآيات} أي الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم: {أنى يُؤْفَكُونَ} كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله. فإن قلت: ما معنى التراخي في قوله ثم انظر؟ قلت: معناه ما بين العجبين، يعني أنه بين لهم الآيات بياناً عجيباً، وإنّ إعراضهم عنها أعجب منه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وأمه صديقة} صفة ببناء مبالغة من الصدق، ويحتمل أن يكون من التصديق وبه سمي أبو بكر رضي الله عنه لتصديقه، وهذه الصفة لمريم تدفع قول من قال هي نبية، وقد يوجد في صحيح الحديث قصص قوم كلمتهم ملائكة في غير ما فن كقصة الثلاثة: الأقرع والأعمى والأبرص وغيرهم، ولا تكون هنالك نبوة، فكذلك أمر مريم، وقوله تعالى: {كانا يأكلان الطعام} تنبيه على نقص البشرية على حال من الاحتياج إلى الغذاء تنتفي معها الألوهية..
ثم أمر تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وفي الضمن أمته بالنظر في ضلال هؤلاء القوم وبعدهم عن سنن الحق، وأن الآيات تبين لهم وتبرز في غاية الوضوح، ثم هم بعد ذلك يصرفون أي تصرفهم دواعيهم ويزيلهم تكسلهم عن الحق...
و {كيف} في هذه الآية ليست سؤالاً عن حال، لكنها عبارة عن حال شأنها أن يسأل عنها بكيف، وهذا كقولك: كن كيف شئت فأنت صديق.
{وأمه صديقة} وفي تفسير ذلك وجوه: أحدها: أنها صدقت بآيات ربها وبكل ما أخبر عنه ولدها. قال تعالى في صفتها {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} وثانيها: أنه تعالى قال: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} فلما كلمها جبريل وصدقته وقع عليها اسم الصديقة، وثالثها: أن المراد بكونها صديقة غاية بعدها عن المعاصي وشدة جدها واجتهادها في إقامة مراسم العبودية، فإن الكامل في هذه الصفة يسمى صديقا قال تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين}.
ثم قال تعالى: {كانا يأكلان الطعام}.
واعلم أن المقصود من ذلك: الاستدلال على فساد قول النصارى، وبيانه من وجوه:
الأول: أن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن، وكل من كان كذلك كان مخلوقا لا إلها.
والثاني: أنهما كانا محتاجين، لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة، والإله هو الذي يكون غنيا عن جميع الأشياء، فكيف يعقل أن يكون إلها. الثالث: قال بعضهم: إن قوله {كانا يأكلان الطعام} كناية عن الحدث لأن من أكل الطعام فإنه لابد وأن يحدث، وهذا عندي ضعيف من وجوه: الأول: أنه ليس كل من أكل أحدث، فإن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون. الثاني: أن الأكل عبارة عن الحاجة إلى الطعام، وهذه الحاجة من أقوى الدلائل على أنه ليس بإله، فأي حاجة بنا إلى جعله كناية عن شيء آخر. الثالث: أن الإله هو القادر على الخلق والإيجاد، فلو كان إلها لقدر على دفع ألم الجوع عن نفسه بغير الطعام والشراب، فما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه كيف يعقل أن يكون إلها للعالمين، وبالجملة ففساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل.
ثم قال تعالى: {انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} يقال: أفكه يأفكه إفكا إذا صرفه، والإفك: الكذب لأنه صرف عن الحق، وكل مصروف عن الشيء مأفوك عنه، ومعنى قوله {أنى يؤفكون} أنى يصرفون عن الحق.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أبطل الكفر كله بإثبات أفعاله من إرساله وإنزاله وغير ذلك من كماله، وأثبت التوحيد على وجه عام، أتبع ذلك تخصيص ما كفر به المخاطبون بالإبطال، فكان ذلك دليلاً خاصاً بعد دليل عام، فقال تعالى على وجه الحصر في الرسلية رداً على من يعتقد فيه الإلهية واصفاً له بصفتين لا يكونان إلا لمصنوع مربوب: {ما المسيح} أي الممسوح بدهن القدس المطهر المولود لأمه {ابن مريم إلا رسول} وبين أنه ما كان بدعاً ممن كان قبله من إخوانه بقوله: {قد خلت من قبله الرسل} أي فما من خارقة له، وإلا وقد كان مثلها أو أعجب منها لمن قبله كآدم عليه السلام في خلقه من تراب، وموسى عليه السلام في قلب العصى حية تسعى -ونحو ذلك.
ولما كفروا بأمه أيضاً عليهما السلام بين ما هو الحق في أمرها فقال: {وأمه صدّيقة} أي بليغة الصدق في نفسها والتصديق لما ينبغي أن يصدق، فرتبتها تلي رتبة الأنبياء، ولذلك تكون من أزواج نبينا صلى الله عليه وسلم في الجنة. وهذه الآية من أدلة من قال: إن مريم عليها السلام لم تكن نبية، فإنه تعالى ذكر أشرف صفاتها في معرض الرد على من قال بإلهيتهما إشارة إلى بيان ما هو الحق في اعتقاد ما لهما من أعلى الصفات، وأنه من رفع واحداً منهما فوق ذلك فقد أطراه، ومن نقصه عنه فقد ازدراه، فالقصد العدل بين الإفراط والتفريط باعتقاد أن أعظم صفات عيسى عليه السلام الرسالة، وأكمل صفات أمه الصديقية.
ولما كان المقام مقام البيان عن نزولهما عن رتبة الإلهية، ذكر أبعد الأوصاف منها فقال: {كانا يأكلان الطعام} وخص الأكل لأنه مع كونه ضعفاً لازماً ظاهراً هو أصل الحاجات المعترية للإنسان فهو تنبيه على غيره، و من الأمر الجلي أن الإله لا ينبغي أن يدنو إلى جنابه عجز أصلاً، وقد اشتمل قوله تعالى {وقال المسيح} وقوله {كانا يأكلان الطعام} [المائدة: 75] على أشرف أحوال الإنسان وأخسها، فأشرفها عبادة الله، وأخسها الاشتغال عنها بالأكل الذي هو مبدأ الحاجات.
ولما أوضح ما هو الحق في أمرهما حتى ظهر كالشمس بُعدُهما عما ادعوه فيهما، أتبعه التعجب من تمام قدرته على إظهار الآيات وعلى الإضلال بعد ذلك البيان فقال: {انظر كيف نبين لهم الآيات} أي نوضح إيضاحاً شافياً العلامات التي من شأنها الهداية إلى الحق والمنع من الضلال؛ ولما كان العمى عن هذا البيان في غاية البعد، أشار إليه بأداة التراخي فقال: {ثم انظر أنَّى} أي كيف ومن أين؛ ولما كان العجب قبولهم للصرف وتأثرهم به، لا كونه من صارف معين، بنى للمفعول قوله: {يؤفكون} أي يصرفون عن الحق وبيان الطريق صرفَ من لا نور له أصلاً من أي صارف كان، فصرفهم في غاية السفول، وبيان الآيات في غاية العلو، فبينهما بون عظيم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{انظر كيف نبيّن لهم الآيات} استئناف للتعجيب من حال الّذين ادّعوا الإلهيّة لعيسى.: والخطاب مراد به غيرُ معيّن، وهو كلّ من سمع الحجج السابقة. واستُعمل الأمر بالنّظر في الأمر بالعِلم لتشبيه العالم بالرأي والعلمِ بالرؤية في الوضوح والجلاء، وقد تقدّمت نظائره. وقد أفاد ذلك معنى التعجيب. ويجوز أن يكون الخطاب للرّسول عليه السّلام. والمراد هو وأهل القرآن. و {كيف} اسم استفهام معلِّق لفعل {انظر} عن العمل في مفعولين، وهي في موضع المفعول به ل {انظر}، والمعنى انظر جواب هذا الاستفهام. وأريد مع الاستفهام التعجيب كناية، أي انظر ذلك تجد جوابك أنّه بيان عظيم الجلاء يتعجّب النّاظر من وضوحه. والآيات جمع آية، وهي العلامة على وجود المطلوب، استعيرت للحجّة والبرهان لشبهه بالمكان المطلوب على طريق المكنية، وإثبات الآيات له تخييل، شبّهت بآيات الطّريق الدّالة على المكان المطلوب.
وقوله: {ثمّ انظر أنّى يؤفكون} (ثمّ) فيه للترتيب الرتبي والمقصود أنّ التأمّل في بيان الآيات يقتضي الانتقال من العجب من وضوح البيان إلى أعجب منه وهو انصرافهم عن الحقّ مع وضوحه. و {يؤفكون} يصرفون، يقال: أفكَهُ من باب ضَرب، صَرفه عن الشّيء.
و {أنَّى} اسم استفهام يستعمل بمعنى من أين، ويستعمل بمعنى كيف. وهو هنا يجوز أن يكون بمعنى كيفَ (كما) في « الكشاف»، وعليه فإنّما عدل عن إعادة {كيف} تفنّناً. ويجوز أن تكون بمعنى من أين، والمعنى التعجيب من أين يتطرّق إليهم الصّرف عن الاعتقاد الحقّ بعد ذلك البيان المبالغ غاية الوضوح حتّى كان بمحلّ التّعجيب من وضوحه. وقد علّق ب {أنَّى} فعل {انظر} الثّاني عن العمل وحذف متعلّق {يؤفكون} اختصاراً، لظهور أنّهم يصرفون عن الحقّ الّذي بيّنته لهم الآيَات.