وقبل أن يسدل الستار على المشهد الأخير المثير ، نشهد يوسف ينزع نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج والجاه والسلطان ، والرغد والأمان . . . ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر ! كل دعوته - وهو في أبهة السلطان ، وفي فرحة تحقيق الأحلام - أن يتوفاه ربه مسلما وأن يلحقه بالصالحين :
( رب قد آتيتني من الملك ، وعلمتني من تأويل الأحاديث . فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة . توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) . .
آتيتني منه سلطانه ومكانه وجاهه وماله . فذلك من نعمة الدنيا .
( وعلمتني من تأويل الأحاديث ) . .
بإدراك مآلاتها وتعبير رؤاها . فذلك من نعمة العلم .
نعمتك يا ربي أذكرها وأعددها . .
بكلمتك خلقتها وبيدك أمرها ، ولك القدرة عليها وعلى أهلها . .
( أنت وليي في الدنيا والآخرة ) . .
رب إني لا أسألك سلطانا ولا صحة ولا مالا . رب إني أسألك ما هو أبقى وأغنى :
( توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) . .
وهكذا يتوارى الجاه والسلطان ، وتتوارى فرحة اللقاء واجتماع الأهل ولمة الإخوان . ويبدو المشهد الأخير مشهد عبد فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه ، وأن يلحقه بالصالحين بين يديه .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنتَ وَلِيّي فِي الدّنُيَا وَالاَخِرَةِ تَوَفّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال يوسف بعد ما جمع الله له أبويه وإخوته ، وبسط عليه من الدنيا ما بسط من الكرامة ، ومكنه في الأرض ، متشوّقا إلى لقاء آبائه الصالحين : رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ يعني : من ملك مصر ، وَعَلّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ يعني من عبارة الرؤيا ، تعديدا لنعم الله وشكرا له عليها . فاطِرَ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول : يا فاطر السموات والأرض ، يا خالقها وبارئها ، أنْتَ وَلِيّي في الدّنْيَا والاَخِرَةِ يقول : أنت وليي في دنياي على من عاداني وأرادني بسوء بنصرك ، وتغذوني فيها بنعمتك ، وتليني في الاَخرة بفضلك ورحمتك . تَوَفّنِي مُسْلِما يقول : اقبضني إليك مسلما . وألْحِقْنِي بالصّالْحِينَ يقول : وألحقني بصالح آبائي إبراهيم وإسحاق ومن قبلهم من أنبيائك ورسلك .
وقيل : إنه لم يتمنّ أحد من الأنبياء الموت قبل يوسف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْك وعَلّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ . . . الآية ، كان ابن عباس : يقول : أوّل نبيّ سأل الله الموت يوسف .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : ربّ قَد آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ . . . الآية ، قال : اشتاق إلى لقاء ربه ، وأحبّ أن يلحق به وبآبائه ، فدعا الله أن يتوفاه ويلحقه بهم ، ولم يسأل نبيّ قط الموت غير يوسف ، فقال : رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلّمْتَنِي مِنْ تَأوِيلِ الأحادِيث . . . الآية . قال ابن جريج : في بعض القرآن من الأنبياء من قال : توفني .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : تَوَفّنِي مُسْلِما وألحقِنْي بالصالِحِينَ لما جمع شمله ، وأقرّ عينه ، وهو يومئذٍ مغموس في نعيم الدنيا وملكها وغضارتها ، فاشتاق إلى الصالحين قبله . وكان ابن عباس يقول : ما تمنى نبيّ قط الموت قبل يوسف .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، قال : لما جمع ليوسف شمله ، وتكاملت عليه النعم سأل لقاء ربه فقال : رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ فاطِرَ السّمَوَاتِ والأرْضِ أنْتَ وَلِيّي فِي الدّنْيا وَالاَخِرَةِ تَوَفّنِي مُسْلِما وألْحِقْنِي بالصّالِحِينَ قال قتادة : ولم يتمنّ الموت أحد قط نبيّ ولا غيره إلا يوسف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا هشام ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : ثني غير واحد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أن يوسف النبيّ صلى الله عليه وسلم لما جمع بينه وبين أبيه وإخوته ، وهو يومئذٍ ملك مصر ، اشتاق إلى الله وإلى آبائه الصالحين إبراهيم وإسحاق ، قال : رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ فاطِرَ السّمَوَاتِ والأرْضِ أنْتَ وَلِيّي فِي الدّنيْا والاَخِرَةِ تَوَفّنِي مُسْلِما وألْحِقْنِي بالصّالِحِينَ .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَعَلّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ قال : العبارة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : تَوَفّنِي مُسْلِما وألْحِقْنِي بالصّالِحِينَ يقول : توفني على طاعتك ، واغفر لي إذا توفيتني .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال يوسف حين رأى ما رأى من كرامة الله وفضله عليه وعلى أهل بيته حين جمع الله له شمله ، وردّه على والده ، وجمع بينه وبينه فيما هو فيه من الملك والبهجة : يا أبَتِ هَذَا تَأوِيلُ رُؤْياىَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبّي حَقّا . . . إلى قوله : إنّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ . ثم ارعوى يوسف ، وذكر أن ما هو فيه من الدنيا بائد وذاهب ، فقال : رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وعَلّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ فاطِرَ السّمَوَاتِ والأرْضِ أنْتَ وَلِيّي في الدّنْيا والاَخِرَةِ تَوَفّنِي مُسْلِما وألْحِقْنِي بالصّالِحِينَ .
وذكر أن بني يعقوب الذين فعلوا بيوسف ما فعلوا ، استغفر لهم أبوهم ، فتاب الله عليهم وعفا عنهم وغفر لهم ذنبهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن صالح المري ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، قال : إن الله تبارك وتعالى بما جمع ليعقوب شمله ، وأقرّ عينه ، خلا وُلدُه نجيّا ، فقال بعضهم لبعض : ألستم قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف ؟ قالوا : بلى . قال : فيغركم عفوهما عنكم ، فكيف لكم بربكم ؟ فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ، ويوسف إلى جنب أبيه قاعد ، قالوا : يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في أمر مثله قط ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله حتى حركوه ، والأنبياء أرحم البرية ، فقال : مالكم يا بنيّ ؟ قالوا : ألست قد علمت ما كان منا إليك وما كان منا إلى أخينا يوسف ؟ قال : بلى . قالوا : أفلستما قد عفوتما ؟ قالا : بلى . قالوا : فإن عفوكما لا يغني عنا شيئا إن كان الله لم يعف عنا . قال : فما تريدون يا بنيّ ؟ قالوا : نريد أن تدعو الله لنا ، فإذا جاءك الوحي من عند الله بأنه قد عفا عما صنعنا قرّت أعيننا واطمأنت قلوبنا ، وإلا فلا قرّة عين في الدنيا لنا أبدا . قال : فقام الشيخ واستقبل القبلة ، وقام يوسف خلف أبيه ، وقاموا خلفهما أذلة خاشيعن . قال : فدعا وأمن يوسف ، فلم يجب فيهم عشرين سنة قال صالح المري : يخيفهم قال : حتى إذا كان رأس العشرين ، نزل جبرئيل صلى الله عليه وسلم على يعقوب عليه السلام ، فقال : إن الله تبارك وتعالى بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك ، وأنه قد عفا عما صنعوا ، وأنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوّة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران الجَونيّ ، قال : والله لو كان قتل يوسف مضى لأدخلهم الله النار كلهم ، ولكن الله جلّ ثناؤه أمسك نفس يوسف ليبلغ فيه أمره ورحمة لهم . ثم يقول : والله ما قصّ الله نبأهم يعيرهم بذلك إنهم لأنبياء من أهل الجنة ، ولكنّ الله قصّ علينا نبأهم لئلا يقنط عبده .
وذُكر أن يعقوب توفي قبل يوسف ، وأوصى إلى يوسف وأمره أن يدفنه عند قبر أبيه إسحاق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : لما حضر الموت يعقوب ، أوصى إلى يوسف أن يدفنه عند إبراهيم وإسحاق ، فلما مات نفخ فيه المر وحمله إلى الشام ، قال : فلما بلغوا إلى ذلك المكان أقبل عيص أخو يعقوب ، فقال : غلبني على الدعوة ، فوالله لا يغلبني على القبر فأبى أن يتركهم أن يدفنوه . فلما احتبسوا قال هشام بن دان بن يعقوب وكان هشام أصمّ لبعض إخوته : ما لجدّي لا يدفن ؟ قالوا : هذا عمك يمنعه . قال : أرونيه أين هو فلما رآه ، رفع هشام يده فوجأ بها رأس العيص وجأة سقطت عيناه على فخذ يعقوب ، فدفنا في قبر واحد .
أعقب ذكر نعمة الله عليه بتوجهه إلى مناجاة ربه بالاعتراف بأعظم نعم الدنيا والنعمة العظمى في الآخرة ، فذكر ثلاث نعم : اثنتان دنيويتان وهما : نعمة الولاية على الأرض ونعمة العلم ، والثالثة : أخروية وهي نعمة الدين الحق المعبر عنه بالإسلام وجعل الذي أوتيه بعضاً من الملك ومن التأويل لأن ما أوتيه بعض من جنس الملك وبعض من التأويل إشعاراً بأن ذلك في جانب مُلك الله وفي جانب علمه شيء قليل . v وعلى هذا يكون المراد بالمُلك التصرف العظيم الشبيه بتصرف المَلِك إذ كان يوسف عليه السلام هو الذي يُسير المَلك برأيه . ويجوز أن يراد بالمُلك حقيقته ويكون التبعيض حقيقياً ، أي آتيتني بعض المُلك لأن المُلك مجموع تصرفات في أمر الرعية ، وكان ليوسف عليه السلام من ذلك الحظُّ الأوفر ، وكذلك تأويل الأحاديث .
وتقدم معنى تأويل الأحاديث عند قوله تعالى : { ويعلمك من تأويل الأحاديث } [ يوسف : 6 ] في هذه السورة .
و{ فاطر السماوات والأرض } نداء محذوف حرف ندائه . والفاطر : الخالق . وتقدم عند قوله تعالى : { قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض } في سورة الأنعام ( 14 ) .
والولي : الناصر ، وتقدم عند قوله تعالى : { قل أغير الله أتخذ ولياً } في سورة الأنعام .
وجملة { أنت وليي في الدنيا والآخرة } من قبيل الخبر في إنشاء الدعاء وإن أمكن حمله على الإخبار بالنسبة لولاية الدنيا ، قيل لإثباته ذلك الشيء لولاية الآخرة . فالمعنى : كن وليي في الدنيا والآخرة .
وأشار بقوله : { توفني مسلما } إلى النعمة العظمى وهي نعمة الدين الحق ، فإن طلب توفّيه على الدين الحق يقتضي أنه متصف بالدين الحق المعبر عنه بالإسلام من الآن ، فهو يسأل الدوام عليه إلى الوفاة .
والمسلم : الذي اتصف بالإسلام ، وهو الدين الكامل ، وهو ما تعبّدَ اللّهَ به الأنبياء والرسل عليهم السلام . وقد تقدم عند قوله تعالى : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } في سورة آل عمران ( 102 ) .
والإلحاق : حقيقته جعل الشيء لاَ حقاً ، أي مُدركاً من سبقه في السّيْر . وأطلق هنا مجازاً على المَزيد في عداد قوم .
والصالحون : المتصفون بالصلاح ، وهو التزام الطاعة . وأراد بهم الأنبياء . فإن كان يوسف عليه السلام يومئذٍ نبيئاً فدعاؤهُ لطلب الدوام على ذلك ، وإن كان نُبّىء فيما بعد فهو دعاء لحصوله ، وقد صار نبيئاً بعد ورسولاً .