ولقد كان اليهود يشككون في صحة رسالة النبي [ ص ] وكان المنافقون يرتابون فيها - كما ارتاب المشركون وشككوا في مكة وغيرها - فهنا يتحدى القرآن الجميع . إذ كان الخطاب إلى " الناس " جميعا . يتحداهم بتجربة واقعية تفصل في الأمر بلا مماحكة :
( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) .
ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال . . يصف الرسول [ ص ] بالعبودية لله : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) . . ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة : فهو أولا تشريف للنبي وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى ؛ دلالة على أن مقام العبودية لله هو أسمى مقام يدعى إليه بشر ويدعى به كذلك . وهو ثانيا تقرير لمعنى العبودية ، في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده ، واطراح الأنداد كلها من دونه . فها هو ذا النبي في مقام الوحي - وهو أعلى مقام - يدعى بالعبودية لله ، ويشرف بهذه النسبة في هذا المقام .
أما التحدي فمنظور فيه إلى مطلع السورة . . فهذا الكتاب المنزل مصوغ من تلك الحروف التي في أيديهم ، فإن كانوا يرتابون في تنزيله ، فدونهم فليأتوا بسورة من مثله ؛ وليدعوا من يشهد لهم بهذا - من دون الله - فالله قد شهد لعبده بالصدق في دعواه .
{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
قال أبو جعفر : وهذا من الله عزّ وجلّ احتجاج لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم وكفار أهل الكتاب وضلالهم الذين افتتح بقصصهم قوله جل ثناؤه : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ وإياهم يخاطب بهذه الاَيات ، وضُرباءَهم يعني بها ، قال الله جل ثناؤه : وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابين في شكّ وهو الريب مما نزّلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان أنه من عندي ، وأني الذي أنزلته إليه ، فلم تؤمنوا به ولم تصدّقوه فيما يقول ، فأتوا بحجة تدفع حجته لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوّة على صدقه في دعواه النبوّة أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق ، ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه وبرهانه على نبوّته ، وأن ما جاء به من عندي ، عَجْزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله . وإذا عجزتم عن ذلك ، وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والدراية ، فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز . كما كان برهان من سلف من رسلي وأنبيائي على صدقه وحجته على نبوّته من الاَيات ما يعجز عن الإتيان بمثله جميع خلقي . فيتقرّر حينئذ عندكم أن محمدا لم يتقوّله ولم يختلقه ، لأن ذلك لو كان منه اختلاقا وتقوّلاً لم يعجزوا وجميع خلقه عن الإتيان بمثله ، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يَعْدُ أن يكون بشرا مثلكم ، وفي مثل حالكم في الجسم وبسطة الخلق وذرابة اللسان ، فيمكن أن يظن به اقتدار على ما عجزتم عنه ، أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر عليه .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يعني من مثل هذا القرآن حقّا وصدقا لا باطل فيه ولا كذب .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يقول : بسورة مثل هذا القرآن .
وحدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ مثل القرآن .
وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ قال : مثله ، مثل القرآن .
فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما ، أن الله جل ذكره قال لمن حاجّه في نبيه صلى الله عليه وسلم من الكفار : فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب ، كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم .
وقد قال قوم آخرون : إن معنى قوله : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ : من مثل محمد من البشر ، لأن محمدا بشر مثلكم .
قال أبو جعفر : والتأويل الأوّل الذي قاله مجاهد وقتادة هو التأويل الصحيح لأن الله جل ثناؤه قال في سورة أخرى : أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فأتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ . ومعلوم أن السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه ، فيجوز أن يقال : فأتوا بسورة مثل محمد .
فإن قال قائل : إنك ذكرت أن الله عنى بقوله : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ من مثل هذا القرآن ، فهل للقرآن من مثل فيقال : ائتوا بسورة من مثله ؟ قيل : إنه لم يعن به : ائتوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باين بها سائر الكلام غيره ، وإنما عنى : ائتوا بسورة من مثله في البيان لأن القرآن أنزله الله بلسان عربي ، فكلام العرب لا شكّ له مثل في معنى العربية فأما في المعنى الذي باين به القرآن سائر كلام المخلوقين ، فلا مثل له من ذلك الوجه ولا نظير ولا شبيه . وإنما احتجّ الله جل ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتجّ به له عليهم من القرآن ، إذ ظهر القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان ، إذ كان القرآن بيانا مثل بيانهم ، وكلاما نزل بلسانهم ، فقال لهم جل ثناؤه : وإن كنتم في ريب من أنّ ما أنزلت على عبدي من القرآن من عندي ، فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثله في العربية ، إذْ كنتم عربا ، وهو بيان نظير بيانكم ، وكلام شبيه كلامكم . فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظير اللسان الذي نزل به القرآن ، فيقدروا أن يقولوا : كلفتنا ما لو أحسنّاه أتينا به ، وإنا لا نقدر على الإتيان به ، لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به ، فليس لك علينا حجة بهذا لأنا وإن عجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لأنا لسنا بأهله ، ففي الناس خلق كثير من غير أهل لساننا يقدر على أن يأتي بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به . ولكنه جل ثناؤه قال لهم : ائتوا بسورة مثله ، لأن مثله من الألسن ألسنتكم ، وأنتم إن كان محمد اختلقه وافتراه ، إذا اجتمعتم وتظاهرتم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم أقدر على اختلاقه ووضعه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن لم تكونوا أقدر عليه منه فلن تعجزوا وأنتم جميع عما قدر عليه محمد من ذلك وهو وحده ، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أن محمدا افتراه واختلقه وأنه من عند غيري .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فقال ابن عباس بما :
حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس : وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ يعني أعوانكم على ما أنتم عليه ، إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
وحدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد : وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ ناس يشهدون .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .
وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، قال : قوم يشهدون لكم .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاح ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ قال : ناس يشهدون . قال ابن جريج : شهداءكم عليها إذا أتيتم بها أنها مثله مثل القرآن .
وذلك قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله : فادْعُوا يعني استنصروا واستعينوا ، كما قال الشاعر :
فَلَمّا الْتَقَتْ فُرْسانُنا وَرِجَالُهُم ْدَعَوْا يا لَكَعْبٍ واعْتَزَيْنا لِعامِرِ
يعني بقوله : دعوا يالكعب : استنصروا كعبا واستعانوا بهم .
وأما الشهداء فإنها جمع شهيد ، كالشركاء جمع شريك ، والخطباء جمع خطيب . والشهيد يسمى به الشاهد على الشيء لغيره بما يحقق دعواه ، وقد يسمى به المشاهد للشيء كما يقال فلان جليس فلان ، يعني به مجالسه ، ونديمه يعني به منادمه ، وكذلك يقال : شهيده يعني به مشاهده . فإذا كانت الشهداء محتملة أن تكون جمع الشهيد الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفت ، فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس ، وهو أن يكون معناه : واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشهداءَكم الذين يشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم إن كنتم محقين في جحودكم أن ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء ، لتمتحنوا أنفسكم وغيركم : هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من مثله ، فيقدر محمد على أن يأتي بجميعه من قبل نفسه اختلاقا ؟
وأما ما قاله مجاهد وابن جريج في تأويل ذلك فلا وجه له لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافا ثلاثة : أهل إيمان صحيح ، وأهل كفر صحيح ، وأهل نفاق بين ذلك . فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين ، فكان من المحال أن يدّعي الكفار أن لهم شهداء على حقيقة ما كانوا يأتون به لو أتوا باختلاق من الرسالة ، ثم ادعوا أنه للقرآن نظير من المؤمنين . فأما أهل النفاق والكفر فلا شك أنهم لو دُعوا إلى تحقيق الباطل وإبطال الحق لسارعوا إليه مع كفرهم وضلالهم ، فمن أيّ الفريقين كانت تكون شهداءهم لو ادّعوا أنهم قد أتوا بسورة من مثل القرآن ؟ ولكن ذلك كما قال جل ثناؤه : قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنّ على أنْ يأتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية أن مثل القرآن لا يأتي به الجن والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به وتحدّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة ، فقال تعالى : وَإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزّلْنَا على عَبْدِنَا فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِين يعني بذلك : إن كنتم في شك في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي ، فأتوا بسورة من مثله ، وليستنصر بعضكم بعضا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم حتى تعلموا أنكم إذا عجزتم عن ذلك أنه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم ولا من البشر أحد ، ويصح عندكم أنه تنزيلي ووحيي إلى عبدي .
انتقال لإثبات الجزء الثاني من جزئي الإيمان بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك بما قدمه من قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] الخ . فتلك هي المناسبة التي اقتضت عطف هذه الجملة على جملة : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم ، } ولأن النهي عن أن يجعلوا لله أنداداً جاء من عند الله فهم بمظنة أن ينكروا أن الله نهى عن عبادة شفعائه ومقربيه لأنهم من ضَلالهم كانوا يدَّعون أن الله أمرهم بذلك قال تعالى : { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } [ الزخرف : 20 ] فقد اعتلوا لعبادة الأصنام بأن الله أقامها وسائط بينه وبينهم ، فزادت بهذا مناسبةُ عطف قوله : { وإن كنتم في ريب } عقب قوله : { فلا تجعلوا لله أنداداً } [ البقرة : 22 ] . وأتى بإنْ في تعليق هذا الشرط وهو كونهم في ريب وقد علم في فن المعاني اختصاص إن بمقام عدم الجزم بوقوع الشرط ، لأن مدلول هذا الشرط قد حَفَّ به من الدلائل ما شأنه أن يقلَع الشرط من أصله بحيث يكون وقوعه مفروضاً فيكون الإتيان بإن مع تحقق المخاطب علم المتكلم بتحقق الشرط توبيخاً على تحقق ذلك الشرط ، كأن ريبهم في القرآن مستضعف الوقوع .
ووجه ذلك أن القرآن قد اشتطت ألفاظه ومعانيه على ما لو تدبره العقل السليم لجزم بكونه من عند الله تعالى فإنه جاء على فصاحة وبلاغة ما عهدوا مثلهما من فحول بلغائهم ، وهم فيهم متوافرون متكاثرون حتى لقد سجد بعضهم لبلاغته واعترف بعضهم بأنه ليس بكلام بشر . وقد اشتمل من المعاني على ما لم يطرقه شعراؤهم وخطباؤهم وحكماؤهم ، بل وعلى ما لم يبلغ إلى بعضه علماء الأمم . ولم يزل العلم في طول الزمان يظهر خبايا القرآن ويبرهن على صدق كونه من عند الله فهذه الصفات كافية لهم في إدراك ذلك وهم أهل العقول الراجحة والفطنة الواضحة التي دلت عليها أشعارهم وأخبارهم وبداهتهم ومناظرتهم ، والتي شهد لهم بها الأمم في كل زمان ، فكيف يبقى بعد ذلك كله مسلك للريب فيه إليهم فضلاً عن أن يكونوا منغمسين فيه .
ووجه الإتيان بفي الدالة على الظرفية الإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف . واستعارة { في } لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب كقولهم هو في نعمة .
وأتى بفعل نَزَّل دون أنزل لأن القرآن نزل نجوماً . وقد تقدم في أول التفسير أن فعَّل يدل على التقضي شيئاً فشيئاً على أن صاحب « الكشاف » قد ذكر أن اختياره هنا في مقام التحدي لمراعاة ما كانوا يقولون { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] فلما كان ذلك من مثارات شبههم ناسب ذكره في تحديهم أن يأتوا بسورة مثله منجمة .
والسورة قطعة من القرآن معينة فتميزه عن غيرها من أمثالها بمبدأ ونهاية تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام أو عدة أغراض .
وجعلُ لفظ سورة اسماً جنسياً لأجزاء من القرآن اصطلاحٌ جاء به القرآن . وهي مشتقة من السور وهو الجدار الذي يحيط بالقرية أو الحظيرة ، فاسم السورة خاص بالأجزاء المعينة من القرآن دون غيره من الكتب وقد تقدم تفصيله في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير ، وإنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار سورة من آيات القرآن لأن من جملة وجوه الإعجاز أموراً لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفى في غرض من الأغراض وإنما تنزل سور القرآن في أغراض مقصودة فلا غنى عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض ، واستيفاء الغرض المسوق له الكلام ، وصحة التقسيم ، ونكت الإجمال والتفصيل ، وأحكام الانتقال من فن إلى آخر من فنون الغرض ، ومناسبات الاستطراد والاعتراض والخروج والرجوع ، وفصل الجمل ووصلها ، والإيجاز والإطناب ، ونحو ذلك مما يرجع إلى نكت مجموع نَظم الكلام ، وتلك لا تظهر مطابقتها جلية إلا إذا تم الكلام واستَوفَى الغرضُ حقه ، فلا جرم كان لنظم القرآن وحسن سَبكه إعجازٌ يفوت قدرة البشر هو غير الإعجاز الذي لِجُمله وتراكيبه وفصَاحةِ ألفاظه . فكانت السورة من القرآن بمنزلة خطبة الخطيب وقصيدة الشاعر لا يُحكم لها بالتفوق إلا باعتبارات مجموعها بعد اعتبار أجزائها . قال الطيبي في « حاشية الكشاف » عند قوله تعالى : { فلم تقتلوهم } في سورة الأنفال ( 17 ) ، ولسر النظم القرآني كان التحدي بالسورة وإن كانت قصيرة دون الآيات وإن كانت ذوات عدد .
والتنكير للإفراد أو النوعية ، أي بسورة واحدة من نوع السور وذلك صادق بأقل سورة ترجمت باسم يخصها ، وأقل السور عددَ آيات سورةُ الكوثر ، وقد كان المشركون بالمدينة تبعاً للمشركين بمكة وكان نزول هذه السورة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة فكان المشركون كلهم ألْباً على النبيء يتداولون الإغراء بتكذيبه وصد الناس عن اتباعه ، فأعيد لهم التحدي بإعجاز القرآن الذي كان قد سبق تحديهم به في سورة يونس وسورة هود وسورة الإسراء .
وقد كان التحدي أولاً بالإتيان بكتابٍ مثل ما نزل منه ففي سورة الإسراء ( 88 ) : { قُل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } فلما عجزوا استُنزلوا إلى الإتيان بعشْرِ سور مثله في سورة هود ، ثم استنزلوا إلى الإتيان بسورة من مثله في سورة يونس .
والمِثْل أصله المَثيل والمُشابه تمامَ المشابهة فهو في الأصل صفة يتبع موصوفاً ثم شاع إطلاقه على الشيء المشابه المكافىء .
والضمير في قوله : { من مثله } يجوز أن يعود إلى { مَا نَزّلنا } أي من مِثل القرآن ، ويجوز أن يعود إلى { عبدنا } فإن أعيد إلى { ما نزلنا } أي من مثل القرآن فالأظهر أن { من } ابتدائية أي سورة مأخوذة من مثل القرآن أي كتاب مثل القرآن والجار والمجرور صفة لسورة ، ويحتمل أن تكون { من } تبعيضية أو بيانية أو زائدة ، وقد قيل بذلك كله ، وهي وجوه مرجوحة ، وعلى الجميع فالجار والمجرور صفة لسورة ، أي هي بعض مثل ما نزلنا ، ومِثل اسم حينئذٍ بمعنى المماثل ، أو سورة مثل ما نزلنا و ( مثل ) صفةٌ على احتمالي كون { من } بيانية أو زائدة ، وكل هذه الأوجه تقتضي أن المِثل سواء كان صفة أو اسماً فهو مثل مقدَّر بناء على اعتقادهم وفرضهم ولا يقتضي أن هذا المثل موجود لأن الكلام مسوق مساق التعجيز .
وإن أُعيد الضمير لعبدنا فمن لتعدية فعل { ائتوا } وهي ابتدائية وحينئذٍ فالجار والمجرور ظرف لغو غير مستقر . ويجوز كون الجار والمجرور صفة لسورة على أنه ظرف مستقر والمعنى فيهما ائتوا بسورة منتزعة من رجل مثل محمد في الأمية ، ولفظ مثل إذن اسْم .
وقد تبين لك أن لفظ { مثل } في الآية لا يحتمل أن يكون المراد به الكناية عن المضاف إليه على طريقة قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] بناء على أن لفظ ( مِثل ) كناية عن المضاف إليه إذ لا يستقيم المعنى أن يكون التقدير فأتوا بسورة من القرآن ، أو من محمد خلافاً لمن توهم ذلك من كلام « الكشاف » وإنما لفظ مثل مستعمل في معناه الصريح إلا أنه أشبه المكنَّى به عن نفس المضافِ هُو إليه من حيث إن المِثل هنا على تقدير الاسمية غير متحقق الوجود إلا أن سبب انتفاء تحققه هو كونه مفروضاً فإن كون الأمر للتعجيز يقتضي تعذر المأمور ، فليس شيء من هاته الوجوه بمقتضٍ وجود مثل للقرآن حتى يُراد به بعض الوجوه كما توهمه التفتزاني .
وعندي أن الاحتمالات التي احتملها قوله : { من مثله } كلها مرادة لرد دعاوى المكذبين في اختلاف دعاويهم فإن منهم من قال : القرآن كلامُ بشر ، ومنهم من قال : هو مكتتب من أساطير الأولين ، ومنهم من قال : إنما يعلمه بشر . وهاته الوجوه في معنى الآية تُفند جميع الدعاوى فإن كان كلام بشر فأتوا بمماثله أو بمثله ، وإن كان من أساطير الأولين فأتوا أنتم بجزء من هذه الأساطير ، وإن كان يُعلمه بشر فأتوا أنتم من عنده بسورة فما هو ببخيل عنكم إن سألتموه . وكل هذا إرخاء لعنان المعارضة وتسجيل للإعجاز عند عدمها . فالتحدي على صدق القرآن هو مجموع مماثلةِ القرآن في ألفاظه وتراكيبه ، ومماثلة الرسول المنزَّل عليه في أنه أمي لم يسبق له تعليم ولا يعلم الكتب السالفة ، قال تعالى : { أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب } [ العنكبوت : 51 ] . فذلك معنى المماثلة فلو أتوا بشيء من خُطبِ أو شعر بلغائهم غير مشتمل على ما يشتمل عليه القرآن من الخصوصيات لم يكن ذلك إتياناً بما تحداهم به ، ولو أتوا بكلام مشتمل على معان تشريعية أو من الحكمة من تأليف رجل عالم حكيم لم يكن ذلك إتياناً بما تحداهم به .
فليس في جعل { من } ابتدائية إيهام إجْزاء أن يأتوا بشيء من كلام بلغائهم لأن تلك مماثلة غير تامة .
وقولُه تعالى : { وادعوا شهداءكم من دون الله } معطوف على { فأتوا بسورة } أي ائتوا بها وادعوا شهداءكم . والدعاء يستعمل بمعنى طلب حضور المدعو ، وبمعنى استعطافه وسؤاله لفعل ما ، قال أبو فراس يخاطب سيف الدولة ليفديه من أسر ملك الروم :
دَعَوْتُك للجفن القريح المسهد *** لديّ وللنوم الطريد المشرد
والشهداء جمع شهيد فعيل بمعنى فاعل من شهد إذا حضر ، وأصله الحاضر قال تعالى : { ولا يَأْبَ الشهداء إذا ما دُعُوا } [ البقرة : 282 ] ثم استعمل هذا اللفظ فيما يلازمه الحضور مجازاً أو كناية لا بأصل وضع اللفظ ، وأطلق على النصير على طريقة الكناية فإن الشاهد يؤيد قول المشهود فينصره على معارضه ولا يطلق الشهيد على الإمام والقدوة وأثبته البيضاوي ولا يعرف في كتب اللغة ولا في كلام المفسرين . ولعله انجر إليه من تفسير « الكشاف » لحاصل معنى الآية فتوهمه معنى وضعياً فالمراد هنا ادعوا آلهتكم بقرينة قوله : { من دون الله } أي ادعوهم من دون الله كدأبكم في الفزع إليهم عند مهماتكم معرضين بدعائهم واستنجادهم عن دعاء الله واللجأ إليه ففي الآية إدماج توبيخهم على الشرك في أثناء التعجيز عن المعارضة وهذا الإدماج من أفانين البلاغة أن يكون مراد البليغ غرضين فيقرن الغرض المسوق له الكلام بالغرض الثاني وفيه تظهر مقدرة البليغ إذ يأتي بذلك الاقتران بدون خروج عن غرضه المسوق له الكلام ولا تكلف . قال الحرث بن حلّزة :
آذنتنا ببينها أسماءُ *** رب ثاوٍ يَمَلّ منه الثّواءُ
فإن قوله رب ثاو عند ذكر بعد الحبيبة والتحسر منه كناية عن أن ليست هي من هذا القبيل الذي يمل ثواؤه . وقد قضى بذلك حق إرضائها بأنه لا يحفل بإقامة غيرها ، وقد عد الإدماج من المحسنات البديعة وهو جدير بأن يعد في الأبواب البلاغية في مبحث الإطناب أو تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ، فإن آلهتهم أنصار لهم في زعمهم .
ويجوز أن يكون المراد ادعوا نصراءكم من أهل البلاغة فيكون تعجيزاً للعامة والخاصة ، وادعوا من يشهد بمماثلة ما أتيتم به لما نزلنا ، على نحو قوله تعالى : { قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا } [ الأنعام : 150 ] ويكون قوله : { من دون الله } على هذه الوجوه حالاً من الضمير في { ادعوا } أو من { شهداءكم } أي في حال كونكم غير داعين لذلك الله أو حال كون الشهداء غير الله بمعنى اجعلوا جانب الله الذي أنزل الكتاب كالجانب المشهود عليه فقد أذناكم بذلك تيسيراً عليكم لأن شدة تسجيل العجز تكون بمقدار تيسير أسباب العمل ، وجوز أن يكون { دون } بمعنى أمام وبين يدي يعني ادعوا شهداءكم بين يدي الله ، واستشهد له بقول الأعشى :
تريك القَذى من دونها وهي دونهُ *** إذا ذاقَها من ذاقها يتمطِّق{[94]}
كما جوز أن يكون { من دون الله } بمعنى من دون حزب الله وهم المؤمنون أي أحضروا شهداء من الذين هم على دينكم فقد رضيناهم شهوداً فإن البارع في صناعة لا يرضى بأن يشهد بتصحيح فاسدها وعكسه إباءَة أن ينسب إلى سوء المعرفة أو الجور ، وكلاهما لا يرضاه ذو المروءة وقديماً كانت العرب تتنافر وتتحاكم إلى عقلائها وحكامها فما كانوا يحفظون لهم غلطاً أو جوراً . وقد قال السموأل :
إنا إذا مالت دواعي الهوى *** وأنصت السامع للقائل
لا نجعل الباطـل حقاً ولا *** نلظ دون الحق بالباطل{[95]}
نخاف أن تسفه أحلامنـا *** فنخمُل الدهر مع الخامل
وعلى هذا التفسير يجىء قول الفقهاء إن شهادة أهل المعرفة بإثبات العيوب أو بالسلامة لا تشترط فيها العدالة ، وكنت أعلل ذلك في دروس الفقه بأن المقصود من العدالة تحقق الوازع عن شهادة الزور ، وقد قام الوازع العلمي في شهادة أهل المعرفة مقام الوازع الديني لأن العارف حريص ما استطاع أن لا يؤثر عنه الغلط والخطأ وكفى بذلك وازعاً عن تعمده وكفى بعلمه مظنة لإصابة الصواب فحصل المقصود من الشهادة .
وقوله : { إن كنتم صادقين } اعتراض في آخر الكلام وتذييل . أتى بإن الشرطية التي الأصل في شرطها أن يكون غير مقطوع بوقوعه لأن صدقهم غير محتمل الوقوع وإن كنتم صادقين في أن القرآن كلام بشر وإنكم أتيتم بمثله .
والصدق ضد الكذب وهما وصفان للخبر لا يخلو عن أحدهما فالصدق أن يكون مدلول الكلام الخبري مطابقاً ومماثلاً للواقع في الخارج أي في الوجود الخارجي احترازاً عن الوجود الذهني ، والكذب ضد الصدق وهو أن يكون مدلول الكلام الخبري غير مطابق أي غير مماثل للواقع في الخارج ، والكلام موضوع للصدق وأما الكذب فاحتمال عقلي والإنشاء لا يوصف بصدق ولا كذب إذ لا معنى لمطابقته لما في نفس الأمر لأنه إيجاد للمعنى لا للأمور الخارجية . هذا معنى الصدق والكذب في الإطلاق المشهور . وقد يطلق الكذب صفة ذم فيلاحظ في معناه حينئذٍ أن مخالفته للواقع كانت عن تعمد فتوهم الجاحظ أن ماهية الكذب تتقوم من عدم مطابقة الخبر للواقع وللاعتقاد معاً وسرى هذا التقوم إلى ماهية الصدق فجعل قوامها المطابقة للخارج والاعتقاد معاً ومن هنا أثبت الواسطة بين الصدق والكذب ، وقريب منه قول الراغب ، ويشبه أن يكون الخلاف لفظياً ومحل بسطه في علمي الأصول والبلاغة .
والمعنى إن كنتم صادقين في دعوى أن القرآن كلام بشر ، فحذف متعلق { صادقين } لدلالة ما تقدم عليه ، وجواب الشرط محذوف تدل عليه جملة مقدرة بعد جملة : { وادعوا شهداءكم من دون الله } إذ التقدير فتأتون بسورة من مثله ودل على الجملة المقدرة قوله قبلها : { فأتوا بسورة من مثله } وتكون الجملة المقدرة دليلاً على جواب الشرط فتصير جملة { إن كنتم صادقين } تكريراً للتحدي .
وفي هذه الآية إثارة لحماسهم إذ عرض بعدم صدقهم فتتوفر دواعيهم على المعارضة .