في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

على أن الإسلام لا يغلق الأبواب في وجه الخاطئين والخاطئات ، ولا يطردهم من المجتمع إن أرادوا أن يعودوا إليه متطهرين تائبين ، بل يفسح لهم الطريق ويشجعهم على سلوكه . ويبلغ من التشجيع أن يجعل الله قبول توبتهم - متى أخلصوا فيها - حقا عليه سبحانه يكتبه على نفسه بقوله الكريم . وليس وراء هذا الفضل زيادة لمستزيد .

( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب . فأولئك يتوب الله عليهم . وكان الله عليما حكيما . وليست التوبة للذين يعملون السيئات ، حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن ، ولا الذين يموتون وهم كفار . أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ) .

ولقد سبق في هذا الجزء حديث عن التوبة . في ظلال قوله تعالى في سورة آل عمران : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم . . . ) وهو بجملته يصح نقله هنا ! ولكن التعبير في هذه السورة يستهدف غرضا آخر . . يستهدف بيان طبيعة التوبة وحقيقتها :

إن التوبة التي يقبلها الله ، والتي تفضل فكتب على نفسه قبولها هي التي تصدر من النفس ، فتدل على أن هذه النفس قد أنشئت نشأة أخرى . قد هزها الندم من الأعماق ، ورجها رجا شديدا حتى استفاقت فثابت وأنابت ، وهي في فسحة من العمر ، وبحبوحة من الأمل ، واستجدت رغبة حقيقية في التطهر ، ونية حقيقية في سلوك طريق جديد . .

( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم . وكان الله عليما حكيما ) . .

والذين يعلمون السوء بجهالة هم الذين يرتكبون الذنوب . . وهناك ما يشبه الإجماع على أن الجهالة هنا معناها الضلالة عن الهدى - طال أمدها أم قصر - ما دامت لا تستمر حتى تبلغ الروح الحلقوم . . والذين يتوبون من قريب : هم الذين يثوبون إلى الله قبل أن يتبين لهم الموت ، ويدخلوا في سكراته ، ويحسوا أنهم على عتباته . فهذه التوبة حينئذ هي توبة الندم ، والانخلاع من الخطيئة ، والنية على العمل الصالح والتكفير . وهي إذن نشأة جديدة للنفس ، ويقظة جديدة للضمير . . ( فأولئك يتوب الله عليهم ) . . ( وكان الله عليما حكيما ) . . يتصرف عن علم وعن حكمة . ويمنح عباده الضعاف فرصة العودة إلى الصف الطاهر ، ولا يطردهم أبدا وراء الأسوار ، وهم راغبون رغبة حقيقية في الحمى الآمن والكنف الرحيم .

إن الله - سبحانه - لا يطارد عباده الضعاف ، ولا يطردهم متى تابوا إليه وأنابوا . وهو - سبحانه - غني عنهم ، وما تنفعه توبتهم ، ولكن تنفعهم هم أنفسهم ، وتصلح حياتهم وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه . ومن ثم يفسح لهم في العودة إلى الصف تائبين متطهرين .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلََئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } : ما التوبة على الله لأحد من خلقه ، إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة . { ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ } يقول : ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه ، إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون ، ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار وترك العود إلى مثله من قبل نزول الموت بهم . وذلك هو القريب الذي ذكره الله تعالى ذكره ، فقال : { ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ } .

وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل غير أنهم اختلفوا في معنى قوله : { بِجَهالَةٍ } فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه ، وذهب إلى أن عمله السوء هو الجهالة التي عناها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي العالية : أنه كان يحدّث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : { للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة ، عمدا كان أو غيره .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : كل من عصى ربه فهو جاهل ، حتى ينزع عن معصيته .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : كل من عمل بمعصية الله فذاك منه بجهل حتى يرجع عنه .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } ما دام يعصي الله فهو جاهل .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح عن ابن عباس : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : من عمل السوء فهو جاهل ، من جهالته عمل السوء .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثظني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : من عصى الله فهو جاهل ، حتى ينزع عن معصيته . قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : كل عامل بمعصية فهو جاهل حين عمل بها . قال ابن جريج : وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ } قال : الجهالة : كل امرىء عمل شيئا من معاصي الله فهو جاهل أبدا حتى ينزع عنها . وقرأ : { هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعْلْتُمْ بِيُوسُف وأخِيهِ إذْ أنْتُمْ جاهِلُون } وقرأ : { وإلاّ تَصْرِفْ عنّي كَيْدهُنّ أصْبُ إلَيْهِنّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ } قال : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته .

وقال آخرون : معنى قوله : { للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } : يعملون ذلك على عمد منهم له . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن مجاهد : { يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : الجهالة : العمد .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : الجهالة : العمد .

وقال آخرون : معنى ذلك : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء في الدنيا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قوله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : الدنيا كلها جهالة .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية قول من قال : تأويلها : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء ، وعملهم السوء هو الجهالة التي جهلوها عامدين كانوا للإثم ، أو جاهلين بما أعدّ الله لأهلها . وذلك أنه غير موجود في كلام العرب ، تسمية العامد للشيء الجاهل به ، إلا أن يكون معنيا به أنه جاهل بقدر منفعته ومضرّته ، فيقال : هو به جاهل ، على معنى جهله بمعنى : نفعه وضرّه¹ فأما إذا كان عالما بقدر مبلغ نفعه وضرّه قاصدا إليه ، فغير جائز من غير قصده إليه أن يقال هو به جاهل¹ لأن الجاهل بالشيء هو الذي لا يعلمه ولا يعرفه عند التقدم عليه ، أو يعلمه فيشبه فاعله ، إذ كان خطأ ما فعله بالجاهل الذي يأتي الأمر وهو به جاهل فيخطىء موضع الإصابة منه ، فيقال : إنه لجاهل به ، وإن كان به عالما لإتيانه الأمر الذي لا يأتي مثله إلا أهل الجهل به . وكذلك معنى قوله : { يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ } قيل فيهم : يعملون السوء بجهالة وإن أتوه على علم منهم بمبلغ عقاب الله أهله ، عامدين إتيانه ، مع معرفتهم بأنه عليهم حرام ، لأن فعلهم ذلك كان من الأفعال التي لا يأتي مثله إلا من جهل عظيم عقاب الله عليه أهله في عاجل الدنيا وآجل الاَخرة ، فقيل لمن أتاه وهو به عالم : أتاه بجهالة ، بمعنى : أنه فعل فعل الجهال به ، لا أنه كان جاهلاً .

وقد زعم بعض أهل العربية أن معناه : أنهم جهلوا كنه ما فيه من العقاب ، فلم يعلموه كعلم العالم ، وإن علموه ذنبا ، فلذلك قيل : { يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ } . ولو كان الأمر على ما قال صاحب هذا القول لوجب أن لا تكون توبة لمن علم كنه ما فيه . وذلك أنه جلّ ثناؤه قال : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } دون غيرهم . فالواجب على صاحب هذا القول أن لا يكون للعالم الذي عمل سوءا على علم منه بكنه ما فيه ثم تاب من قريب¹ توبة ، وذلك خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن كل تائب عسى الله أن يتوب عليه ، وقوله : «بابُ الّتْوبَةِ مَفْتُوحٌ ما لَمْ تَطْلُعِ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها » ، وخلاف قول الله عزّ وجلّ : { إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ عَمَلاً صَالِحا } .

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } .

أختلف أهل التأويل في معنى القريب في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ثم يتوبون في صحتهم قبل مرضهم وقبل موتهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } والقريب قبل الموت ما دام في صحته .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : في الحياة والصحة .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم يتوبون من قبل معاينة ملك الموت . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } والقريب فيما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حدير ، قال : قال أبو مجلز : لا يزال الرجل في توبة حتى يعاين الملائكة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، قال : القريب : ما لم تنزل به آية من آيات الله تعالى وينزل به الموت .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت ، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت فليس له ذاك .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم يتوبون من قبل الموت . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن الضحاك : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : كل شيء قبل الموت فهو قريب .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : الدنيا كلها قريب .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قبل الموت .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، عن أبي قلابة ، قال : ذكر لنا أن إبليس لما لعن وأُنْظِرَ ، قال : وعزّتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح ! فقال تبارك وتعالى : وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عمران ، عن قتادة ، قال : كنا عند أنس بن مالك وثَمّ أبو قلابة ، فحدّث أبو قلابة قال : إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النّظِرَة ، فقال : وعزّتك لا أخرج من قلب ابن آدم ! فقال الله تبارك وتعالى : وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النّظِرَة ، فأنظره إلى يوم الدين ، فقال : وعزتك لا أَخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح ! قال : وعزتي لا أَحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح .

حدثني ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ إبْلِيسَ لَمّا رأى آدَمَ أجْوَفَ ، قالَ : وعِزّتِكَ لا أخْرُجُ مِنْ جَوْفِهِ ما دَام فِيهِ الرّوحُ ! فَقالَ اللّهُ تَبارَكَ وتَعالى : وعِزّتِي لا أحُولُ بَيْنَهُ وبْينَ التّوْبَةِ ما دَامَ فِيهِ الرّوحُ » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، قتادة ، عن العلاء بن زياد ، عن أبي أيوب بُشَيْر بن كعب ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ الله يَقْبَلُ تَوْبَة العَبْدِ ما لمْ يُغَرْغِرْ » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عبادة بن الصامت ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال¹ فذكر مثله .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ الله تَبارك وتَعالى يَقْبَلْ تَوْبَة العَبْدِ ما لمْ يُغَرْغِرْ » .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : تأويله : ثم يتوبون قبل مماتهم في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى ونهيه ، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم ، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحشرجة وغمّ الغرغرة ، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه ، ولا يعقلوا التوبة ، لأن التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندم على ما سلف منه ، وعزم فيه على ترك المعاودة ، وهو يعقل الندم ، ويختار ترك المعاودة ، فأما إذا كان بكرب الموت مشغولاً ، وبغمّ الحشرجة مغمورا ، فلا إخاله إلا عن الندم على ذنوبه مغلوبا ، ولذلك قال من قال : إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر العبد بنفسه ، فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقل الصحيح ، ويفهم فهم العاقل الأريب ، فأحدث إنابة من ذنوبه ، ورجعة من شروده عن ربه إلى طاعته كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب بقوله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } .

القول في تأويل قوله تعالى : { فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهمْ وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَأُولَئِكَ } فهؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب { يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ } دون من لم يتب ، حتى غلب على عقله وغمرته حشرجة ميتته ، فقال : وهو لا يفقه ما يقول : { إنّي تبْتُ الاَنَ } خداعا لربه ونفاقا في دينه ، ومعنى قوله : { يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ } : يرزقهم إنابة إلى طاعته ، ويتقبل منهم أوبتهم إليه ، وتوبتهم التي أحدثوها من ذنوبهم .

وأما قوله : { وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما } فإنه يعني : ولم يزل الله جلّ ثناؤه عليما بالناس من عباده المنيبين إليه بالطاعة بعد إدبارهم عنه ، المقبلين إليه بعد التولية ، وبغير ذلك من أمور خلقه ، حكيم في توبته على من تاب منهم من معصيته ، وفي غير ذلك من تدبيره وتقديره ، ولا يدخل أفعاله خلل ، ولا يخلطه خطأ ولا زلل .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

استطراد جرّ إليه قوله : { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } [ النساء : 16 ] والتوبة تقدّم الكلام عليها مستوفى في قوله ، في سورة آل عمران ( 90 ) : { إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم } و { إنَّما } للحصر .

و { على } هنا حرف للاستعلاء المجازي بمعنى التعهّد والتحقّق كقولك : عليّ لك كذا فهي تفيد تحقّق التعهّد . والمعنى : التوبة تحقّ على الله ، وهذا مجاز في تأكيد الوعد بقبولها حتّى جعلت كالحقّ على الله ، ولا شيء بواجب على الله إلا وجوب وعده بفضله . قال ابن عطية : إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يَقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا وليس وُجوبا .

وقد تسلّط الحصر على الخبر ، وهو { للذين يعملون } ، وذكر له قيدان وهما { بجهالة } و { من قريب } . والجهالة تطلق على سوء المعاملة وعلى الإقدام على العمل دون رويَّة ، وهي ما قابل الحِلم ، ولذلك تطلق الجهالة على الظُلم . قال عمرو بن كلثوم :

أَلا لا يجهَلَنْ أحدٌ علينا *** فَنَجْهل فوْقَ جهل الجاهلينا

وقال تعالى ، حكاية عن يوسف « وإلاَّ تَصْرِفْ عنّي كَيْدَهُنّ أصْبُ إليْهن وأكُنْ من الجاهلين » . والمراد هنا ظلم النفس ، وذكر هذا القيد هنا لمجرّد تشويه عمل السوء ، فالباء للملابسة ، إذ لا يكون عمل السوء إلاّ كذلك . وليس المراد بالجهالة ما يطلق عليه اسم الجَهل ، وهو انتفاء العلم بما فعله ، لأنّ ذلك لا يسمّى جهالة ، وإنّما هو من معاني لفظ الجَهل ، ولو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنّها معصية لم يكن آثماً ولا يجب عليه إلاّ أن يتعلّم ذلك ويجتنّبه .

وقوله : { من قريب } ، من فيه للابتداء و { قريب } صفة لمحذوف ، أي من زمن قريب من وقت عمل السوء .

وتأوّل بعضهم معنى { من قريب } بأنّ القريب هو ما قبل الاحتضار ، وجعلوا قوله بعده { حتى إذا حضر أحدهم الموت } يبيّن المراد من معنى ( قريب ) .

واختلف المفسّرون من السلف ومَن بَعدهم في إعمال مفهوم القيدين « بجهالة من قريب » حتّى قيل : إنّ حكم الآية منسوخ بآية { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] ، والأكثر على أنّ قيد ( بجهالة ) كوصف كاشف لعمل السوء لأنّ المراد عمل السوء مع الإيمان . فقد روى عبد الرزاق عن قتادة قال : اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرأوْا أنّ كلّ عمل عصي الله به فهو جهالة عمداً كان أو غيرَه . والذي يظهر أنّهما قيدان ذكراً للتنبيه على أنّ شأن المسلم أن يكون عمله جارياً على اعتبار مفهوم القيدين وليس مفهوماهما بشرطين لقبول التوبة ،