وآية القدرة ، وآية الحكمة ، وبرهان تلك القضايا السابقة في سياق السورة . . آية ذلك كله وبرهانه هو هذا الكون الكبير الهائل ، الذي لا يدعي أحد من البشر أنه خلقه ، ولا أن أحدا آخر خلقه من دون الله ؛ وهو ضخم هائل دقيق النظام ، متناسق التكوين ، يأخذ بالقلب ، ويبهر اللب ، ويواجه الفطرة مواجهة جاهرة لا تملك الإفلات منها أو الإعراض عنها ؛ ولا تملك إلا التسليم بوحدانية الخالق العظيم ، وضلال من يشرك به آلهة أخرى ظلما للحق الواضح المبين :
( خلق السماوات بغير عمد ترونها ، وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ، وبث فيها من كل دابة ، وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم . هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ? بل الظالمون في ضلال مبين ) . .
وهذه السماوات - بظاهر مدلولها ودون تعمق في أية بحوث علمية معقدة - تواجه النظر والحس ، هائلة فسيحة سامقة . وسواء أكانت السماوات هي هذه الكواكب والنجوم والمجرات والسدم السابحة في الفضاء الذي لا يعلم سره ومداه إلا الله ؛ أو كانت هي هذه القبة التي تراها العين ولا يعرف أحد ما هي على وجه التحقيق . سواء أكانت السماوات هذه أو تلك فهناك خلائق ضخمة هائلة معلقة بغير عمد تسندها ؛ والناس يرونها حيثما امتدت أبصارهم بالليل والنهار ، ومهما نأت بهم الأبعاد والأسفار على ظهر كوكبهم السيار . ومجرد تأملها بالعين المجردة ، ودون إدراك حقيقة ضخامتها التي تدير الرؤوس ، كاف وحده لرعشة الكيان الإنساني وارتجافه أمام الضخامة الهائلة التي لا نهاية لها ولا حدود . وأمام النظام العجيب الذي يمسك بهذه الخلائق كلها في مثل هذا التناسق . وأمام هذا الجمال البديع الذي يجتذب العين للنظر فلا تمل ، ويجتذب القلب للتأمل فلا يكل ؛ ويستغرق الحس فلا يكاد يؤوب من ذلك التأمل الطويل المديد ! فكيف إذا عرف الإنسان أن كل نقطة من هذه النقط الصغيرة المضيئة السابحة في هذا الفضاء الهائل قد تبلغ كتلتها أضعاف كتلة الأرض التي تقله ملايين المرات ?
ومن هذه الرحلة الهائلة في أجواز الفضاء على إيقاع تلك الإشارة السريعة : ( خلق السماوات بغير عمد ترونها )يرتد السياق بالقلب البشري إلى الأرض فيستقر عليها وما يكاد ! إلى الأرض الصغيرة . الذرة ، التي لا تبلغ أن تكون هباءة في كتلة الكون الضخمة . يرتد إلى هذه الأرض التي يراها الإنسان فسيحة لا يبلغ أطرافها فرد واحد في عمره القصير ، ولو قضاه في رحلة دائمة على هذا الكوكب الصغير ? يرتد بالقلب إلى هذه الأرض ليعيد النظر إليها بحس مفتوح يقظ ، وليجلو عنه ملالة التكرار والألفة لمشاهد هذه الأرض العجيبة :
( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ) . .
والرواسي الجبال . ويقول علماء طبقات الأرض ؛ إنها تضاريس في قشرة الكرة الأرضية تنشأ من برودة جوف الأرض وتجمد الغازات فيه ، ونقص حجمها ، فتنكمش القشرة الأرضية وتتجعد ، وتقع فيها المرتفعات والمنخفضات وفق الانكماشات الداخلية في حجم الغازات حين تبرد ويصغر حجمها هنا وهناك . وسواء أصحت هذه النظرية أم لم تصح ، فهذا كتاب الله يقرر أن وجود هذه الجبال يحفظ توازن الأرض فلا تميد ولا تتأرجح ولا تهتز . و قد تكون نظرية علماء الأرض صحيحة ويكون بروز الجبال على هذا النحو حافظا لتوازن الأرض عند انكماش الغازات وتقبض القشرة الأرضية هنا وهناك ، ويكون نتوء الجبال هنا موازنا لانخفاض في قشرة الأرض هناك . وكلمة الله هي العليا على كل حال . والله هو أصدق القائلين .
وهذه إحدى عجائب الوجود الكبيرة . فوجود الحياة على هذه الأرض سر لا يدعي أحد - حتى اليوم - إدراكه ولا تفسيره . الحياة في أول صورها . في الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة . فكيف بضخامة هذا السر والحياة تتنوع وتتركب وتتعدد أنواعها وأجناسها وفصائلها وأنماطها إلى غير حد يعلمه الإنسان أو يحصيه ? ومع هذا فإن أكثر الناس يمرون بهذه العجائب مغمضي العيون مطموسي القلوب وكأنما يمرون على شيء عادي لا يستلفت النظر . بينما هم يقفون مدهوشين مذهولين أمام جهاز من صنع الإنسان ساذج صغير بسيط التكوين حين يقاس إلى خلية واحدة من الخلايا الحية ، وتصرفها الدقيق المنظم العجيب . ودعك من الأحياء المعقدة . فضلا على الإنسان ، الذي يحوي جسمه مئات المعامل الكيماوية العجيبة ومئات المخازن للإيداع والتوزيع ، ومئات المحطات اللاسلكية للإرسال والاستقبال ؛ ومئات الوظائف المعقدة التي لا يعرف سرها إلا العليم الخبير ! ! !
( وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم ) . .
وإنزال الماء من السماء إحدى العجائب الكونية التي نمر عليها كذلك غافلين . هذا الماء الذي تفيض به مجاري الأنهار ، والذي تمتلئ به البحيرات ، والذي تتفجر به العيون . . هذا كله ينزل من السماء وفق نظام دقيق ، مرتبط بنظام السماوات والأرض ، وما بينهما من نسب وأبعاد ، ومن طبيعة وتكوين . . وإنبات النبات من الأرض بعد نزول الماء عجيبة أخرى لا ينقضي منها العجب . عجيبة الحياة ، وعجيبة التنوع ، وعجيبة الوراثة للخصائص الكامنة في البذرة الصغيرة ، لتعيد نفسها في النبتة وفي الشجرة الكبيرة . وإن دراسة توزيع الألوان في زهرة واحدة من نبتة واحدة لتقود القلب المفتوح إلى أعماق الحياة وأعماق الإيمان بالله مبدع هذه الحياة . .
والنص القرآني يقرر أن الله أنبت النبات أزواجا : ( من كل زوج كريم )وهي حقيقة ضخمة اهتدى إليها العلم بالاستقراء قريبا جدا . فكل نبات له خلايا تذكير وخلايا تأنيث ، إما مجتمعة في زهرة واحدة ، أو في زهرتين في العود الواحد ، وإما منفصلة في عودين أو شجرتين ، ولا توجد الثمرة إلا بعد عملية التقاء وتلقيح بين زوج النبات ، كما هو الشأن في الحيوان والإنسان سواء .
ووصف الزوج بأنه( كريم )يلقي ظلا خاصا مقصودا في هذا الموضع ليصبح لائقا بأن يكون ( خلق الله )وليرفعه أمام الأنظار مشيرا إليه . .
القول في تأويل قوله تعالى : { خَلَقَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىَ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : ومن حكمته أنه خَلَقَ السّمَوَاتِ السبع بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها . وقد ذكرت فيما مضى اختلاف أهل التأويل في معنى قوله بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وبيّنا الصواب من القول في ذلك عندنا . وقد :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، عن عمران بن حدير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها قال : لعلها بعمد لا ترونها .
وقال : ثنا العلاء بن عبد الجبار ، عن هماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن بن مسلم ، عن مجاهد ، قال : إنها بعمد لا ترونها .
قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لعلها بعمد لا ترونها .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد ، عن سماك ، عن عكرمة في هذا الحرف خَلَقَ السّمَوَاتِ بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها قال : ترونها بغير عمد ، وهي بَعمد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة خَلَقَ السّمَوَاتِ بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها قال : قال الحسن وقتادة : إنها بغير عمد ترونها ، ليس لها عمد .
وقال ابن عباس بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا قال : لها عمد لا ترونها .
وقوله : وألْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ يقول : وجعل على ظهر الأرض رواسي ، وهي ثوابت الجبال أن تميد بكم أن لا تميد بكم . يقول : أن لا تضطرب بكم ، ولا تتحرّك يمنة ولا يسرة ، ولكن تستقرّ بكم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وألْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِي : أي جبالاً أنْ تَمِيدَ بِكُمْ أثبتها بالجبال ، ولولا ذلك ما أقرّت عليها خلقا ، وذلك كما قال الراجز :
*** والمُهْرُ يَأْبَى أنْ يَزَالَ مُلَهّبا ***
وقوله : وَبَثّ فِيها مِنْ كُلّ دَابّةٍ يقول : وفرّق في الأرض من كلّ أنواع الدوابّ . وقيل الدوابّ اسم لكلّ ما أكل وشرب ، وهو عندي لكلّ ما دبّ على الأرض . وقوله : وأنْزَلْنا مِنَ السّماءِ ماءً ، فأنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ يقول تعالى ذكره : وأنزلنا من السماء مطرا ، فأنبتنا بذلك المطر في الأرض من كلّ زوج ، يعني : من كل نوع من النبات كريم ، وهو الحسن النّبتة ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة مِنْ كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ : أي حسن .
وقوله تعالى : { بغير عمد ترونها } يحتمل أن يعود الضمير على { السماوات } فيكون المعنى أن السماء بغير عمد وأنها ترى كذلك ، وهذا قول الحسن والناس ، و { ترونها } على هذا القول في موضع نصب على الحال ، ويحتمل أن يعود الضمير على «العمد » فيكون { ترونها } صفة للعمد في موضع خفض ، ويكون المعنى أن السماء لها عمد لكن غير مرئية قاله مجاهد ونحا إليه ابن عباس ، والمعنى الأول أصح والجمهور عليه ، ويجوز أن تكون { ترونها } في موضع رفع على القطع ولا عمد ثم ، و «الرواسي » هي الجبال التي رست أي ثبتت في الأرض ، وقوله : { أن تميد } بمعنى لئلا تميد{[9350]} ، والميد التحرك يمنة ويسرة وما قرب من ذلك ، وقوله تعالى : { من كل زوج } أي من كل نوع ، و «الزوج » في النوع والصنف وليس بالذي هو ضد الفرد ، وقوله تعالى : { كريم } يحتمل أن يريد مدحه من جهة إتقان صنعه وظهور حسن الرتبة والتحكيم للصنع فيه فيعم حينئذ جميع الأنواع لأن هذا المعنى في كلها ، ويحتمل أن يريد مدحه بكرم جوهره وحسن منظره ومما تقضي له النفوس بأنه أفضل من سواه حتى يستحق الكرم ، فتكون الأزواج على هذا مخصوصة في نفائس الأشياء ومستحسناتها ، ولما كان عظم الموجودات كذلك خصص الحجة بها . وقوله : { أنبتنا } يعم جميع أنواع الحيوان وأنواع النبات والمعادن{[9351]} .